سياسة عادل إمام.. رسالة من الوالي، أحمد يوسف (مصر)، نقد مؤسسة دار الهلال، القاهرة - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 04-04-2017
المدن - ثقافة
أحمد شوقي علي - كاتب مصري


عادل إمام.. الفهلوي الذي ضيّع أحلام الجماهير


يتهم أحمد يوسف، أفلام عادل إمام، بتعمد تصوير الجماهير بوصفهم “رعاعاً يسوقهم البطل”


كلما شاهدت جاك نيكلسون، تذكرت عادل إمام.
أكون أكثر دقة إن قلتُ أنني أتذكره كلما شاهدت الفيلم الأميركي “طار فوق عش المجانين”، غير أن جاك نيكلسون هو مَن يزن المقارنة، وليس الفيلم الذي لعب فيه دور البطولة. صحيح أن عشرات الشخصيات التي أداها عادل إمام تشبه في ملامحها الأساسية ملامح شخصية “أر. بي. مكمرفي” من"One Flew Over the Cuckoo’s Nest"، لكن نيكلسون استطاع –بسهولة- الانصراف عن تلك الشخصية إلى شخصيات أخرى لعب أدوراها في عشرات الأفلام، بينما أبى “الزعيم” أن يتنازل عن القناع/الدور الذي انتحله.

رحلة البحث عن “نجم”

في نهاية السبعينات، كان عادل إمام يبحث –بعد تقديمه عددًا من الأفلام الكوميدية التقليدية- عن بلورة شخصية تقترب من المواطن العادي، ولم يكن “مكمرفي” بطل الفيلم الصادر العام 1975، المتمرد على السلطة والمجتمع، والذي يبدو في الوقت نفسه أكثر إنسانية منهما، بعيداً من “إبراهيم الطاير” بطل المسلسل التلفزيوني “أحلام الفتى الطائر” الذي بُث للمرة الأولة العام 1978. فبين الشخصيتين الكثير من الملامح المشتركة وإن اختلف السياق الدرامي للعملين. ولست في مجال إثبات انتحال عادل إمام لشخصية “أر.بي. مكمرفي”، فهو في النهاية ليس كالفنان السوري دريد لحام الذي انتبه -في بداية حياته- إلى ذلك الشبه الذي يجمعه بالممثل والمخرج الأميركي وودي آلن فظل يقلد أداءه في كل شيء حتى في طريقة سيره. فانتحال شخصية فنية ليست كانتحال الفنان ذاته.

وإنما يأتي استحضار جاك نيكلسون إلى المقارنة التي عقدتها، لأنه يجسد ما يوضحه الناقد السينمائي أحمد يوسف في الفرق بين “الممثل” و"النجم". فـ"الممثل الموهوب الناجح هو الذي يستطيع أن يتقمص الشخصية التي يمثلها حتى يكاد يصبح في كل دور شخصاً جديداً، لكن النجم يظل يرتدي قناعًا واحدًا لا يتغير في كل أفلامه"، حيث ينتمي عادل إمام إلى عالم “النجوم” الذين لا يفترض بهم إجادة فن التمثيل. ونظرة واحدة –حسبما يشير يوسف- إلى التعبير المرسوم على وجهه في دورين متناقضين تمامًا (الضابط في “النمر والأنثى” والمتطرف في “الإرهابي”) تؤكد أنه ينتمي إلى عالم النجوم أصحاب الأقنعة الفنية الثابتة.

ويوسف، الذي يرى أن تأثير النجم في عالم السينما أكبر بكثير من الممثل الموهوبن لا يعتبر عادل إمام نجمًا لارتدائه قناعًا واحدًا فقط في معظم أفلامه، وإنما لأنه تحول “في معظم الأحوال إلى قناع فني يلخص الملامح الأساسية للبطل في عصره”.



ففي كتابه الصادر حديثًا "سياسة عادل إمام.. رسالة من الوالي"(*)، يرصد الناقد والمترجم السينمائي أحمد يوسف، عبر مقالات عديدة، الرحلة التي قطعها “الزعيم” من كوميديان تقليدين إلى أيقونة جماهيرية، ثم إلى أداة في يد السلطة.

ولا يذهب أحمد يوسف إلى أن عادل إمام قد استقى شخصية المتمرد، التي لازمته في العديد من أفلامه، من السينما الهوليوودية، وإنما من التراث الشعبي العربي المليء ببطولات الشطار، ربما بوعي منه أو بغير وعي أو بمساعدة من كاتب سيناريو محترف مثل وحيد حامد الذي رافقه خلال تحولاته الفنية المختلفة. إلا أن عادل إمام راعى، في بلورة تلك الشخصية الفنية، “أن تمثل بالنسبة إلى المتفرج مثيلًا وبديلًا في آن واحد”، لأنه يشبه في ملامحه الخارجية وأزماته الداخلية رجل الشارع العادي، وينطق بما لا يستطيع المتفرج أن يبوح به، مدركًا أن الجماهير “تبحث عن أحلامها الهروبية في فتى الشاشة، الحليوة ذي الشعر المسبسب، لكن أحلام يقظتها الواقعية تتحقق من خلال نجم ساخر دائمًا ترى فيه الناس بعضًا من صورتها الحقيقية، وتشم رائحة عرقها، وتلاحظ في عينيه بقايا دموعها، وتعيش معه رحلة الصعود –الواقعية والفنية في آن واحد- من السطح إلى القمة”.

وقد نجح سعي عادل إمام، من خلال استثماره شخصية المتمرد (أو كما أطلق عليها “يوسف”: “الفهلوي”) عبر تقديمها بعشرات التنويعات، في تحقيق شعبية جارفة، ليس داخل مصر فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي، لأنها “تلمس، في وجدان الجمهور العربي وترًا حساسًا، عندما تستدعي إلى وجدانه ومن أعماق ذاكرته الجماعية، صورة البطل في الأدب الشعبي، كما تستدعي أيضًا شكل الحواديت الشعبية، بقدرتها على الخروج بأحداثها على المنطق الواقعي المألوف”.



من حضن الجمهور إلى أحضان المثقفين والسلطة

غير أن تلك الشعبية الجارفة التي بلغت مداها في نهاية الثمانينات، لم تلق قبولاً على الصعيد الرسمي، فيما تعامل معها إعلام الدولة بنوع من “التعالي المصطنع، أو حتى بالحط من شأنها أحيانًا، حتى أنه لم تتم في تلك الفترة دعوة عادل إمام ولو لمرة واحدة لمناسبة رسمية أو مهرجان ثقافي”. وفي دراسة له عن تاريخ الرقابة والمنع في السينما، سجل الناقد سمير فريد، أن المهرجان القومي للسينما، رفض مشاركة فيلم “شمس الزناتي” في العام 1991، لأنه “لا يرقى إلى مستوى العرض في المهرجان”.

لكن هذا الوضع لم يدم طويلاً. ففي العام نفسه الذي شهد رفض “شمس الزناتي”، كان “النجم” يستعد لاستقبال عمله الجديد “اللعب مع الكبار”، وهو الفيلم الذي يعده الناقد أحمد يوسف بمثابة مرحلة جديدة في تاريخ عادل إمام، حينمت تصالح مع النظام. وربما يختلف العديد من متابعي السينما الجادة، مع يوسف، في ما ذهب إليه، خصوصاً أن تلك المرحلة هي التي شهدت تعاون إمام مع السيناريست وحيد حامد والمخرج شريف عرفه، ما أفرز خماسية يعتبرها البعض درة أعمال إمام، وهي: “اللعب مع الكبار، الإرهاب والكباب، المنسي، طيور الظلام، النوم في العسل”. إلا أن مترجم “تاريخ السينما الروائية”، يرى أنها أفلام “تجنبت خوض المعارك الحقيقية، أو جعلتها شبه معارك، يثور فيها الغبار ويدوي فيها الصخب”. كما تضمن بعضها رسائل تصالحية مع النظام. فعلى سبيل المثال، يظهر أحد رجال الشرطة، تلك التي كانت مثار السخرية في أعماله في الثمانينات، وهو يقف كتفًا بكتف مع “حسن بهلول”، ليواجه الفساد في “اللعب مع الكبار”، ورئيس مباحث العاصمة يقود الجماهير لإيصال أصواتهم إلى الحكومة. فيما يرى المؤلف أن ما يكسب هذه الأفلام بريقها، هي تلك العبارات “المتثاقفة” التي كُتبت بلسان وحيد حامد، في حين تتنافى كليًا مع خبرات وسمات الشخصيات التي رسمها عادل إمام في أفلامه الخمسة.



ولعل تلك النبرة المختلفة التي ميزت “اللعب مع الكبار” عن أعمال عادل إمام السابقة، هي ما لفتت نظر النظام إلى حجم هذا “النجم والتأثير الذي يمارسه على جمهوره، فتحول موقفهم تجاهه من النقيض إلى النقيض، فكأنهم أدركوا أنه يمكن توظيف نجوميته لصالحهم، ليجعلوه ينطق بأفكارهم ومفاهيمهم المغلوطة، أو المسطحة بفرض حسن النوايا، عن قضايا حيوية، مثل الإرهاب أو الديموقراطية أو علاقة الشعب بالسلطة، من أجل زيادة تشويه وعي البسطاء بهذه القضايا”.

في حين يعتبر مترجم “الفيلموسوفي” أن الأعمال الشعبوية الأولى للنجم السينمائي، والتي تم تجاهلها في السابق من جانب النقد الجاد، باعتبارها “سوقية” لا تليق بالمثقفين، كانت تمثل منبرًا ماكرًا لتمارس الجماهير منه نوعًا من الديموقراطية الساذجة، من خلال سخرية عادل إمام من الواقع، وهو الوضع الذي تغير في مرحلته الرسمية الأخيرة، حيث “تغيرت هذه الصورة كثيرًا وإن لم تختلف كل ملامحها، فما زالت السخرية من المؤسسات التقليدية تتناثر هنا وهناك، وما زالت تلتمع أحياناً فكرة الحلم بمجتمع أكثر عدلًا، لكن ما كانت تعبر عنه الأفلام الأولى على نحو فطري وصادق، حتى ولو كان ساذجًا، يعبّر عنه اليوم بقدر كبير من الالتواء والذكاء، فقد أصبحت أفلامه مغلفة دائمًا بغلاف فني أكثر بريقًا، وهو ما يثير بالطبع إعجاب بعض النقاد بصرف النظر عن أصالتها”.



من الاستهزاء بالسلطة إلى الاستهزاء بالجمهور

ولا يبدو أن النظام وحده هو الذي انتبه إلى المكانة التي بات يحتلها “الزعيم”، إذ حاول بعض السينمائيين الجادين احتواء “الظاهرة” في أفلام مثل “الأفكاتو” أو “الحريف”، لكن تلك التجارب رغم جدتها واختلافها كليًا عن مسار المشوار الفني لعادل إمام، إلا أنها لم تلق النجاح نفسه الذي حققته أفلامه الجماهيرية الأخرى. فرغم أن فيلم “الأفوكاتو” كان في جانب منه استثماراً لشخصية “الفهلوي” التي سبق أن نالت استحسان جمهوره، إلا أن إخفاق تلك الأفلام ربما يعود إلى عادل إمام نفسه الذي لعبت أعماله عمومًا على “وتر آخر، حين تنحاز إلى جانب الجماهير البسيطة، وتضعهم في تناقض مع المثقفين”. كذلك، لم يسلم المثقفون أنفسهم من سخرية عادل إمام، لكنها لم تكن سخرية من انعزالية المثقف أو تعاليه، وإنما سخرية عمدت إلى تشويهه بشكل مطلق. ولعل تناوله لصورة اليساري أو الشاعر في أفلام مثل “السفارة في العمارة” و"مرجان أحمد مرجان" خير دليل على ذلك.



ولم يكن المثقفون وحدهم من انضموا إلى قطار سخرية “المنسي”ن الذي شمل الدولة ومؤسساتها ورجال أعمالها البارزين، وإنما انضمت إليهم كذلك الجماهير نفسها التي صنعت نجوميتهز إذ يتهم أحمد يوسف، أفلام عادل التي شهدت اقترانه بالنظام، بتعمّد تصوير الجماهير بوصفهم “رعاعاً يسوقهم البطل كيفما يشاء، لا فرق في ذلك بين فيلم”النوم في العسل" أو “الجردل والكنكة” أو “طيور الظلام” أو “أمير الظلام” أو “حسن ومرقص” أو أي فيلم آخر، وفي كل هذه الأفلام مشهد يتكرر: البطل يمضي في مظاهرة يختلف الهدف منها بين الفيلم وآخر، لكنها تجتمع جميعًا على تصوير الجماهير كقطعان من الدهماء، وإذا اقتربت الكاميرا من أحدهم فلكي تؤكد على بلاهته! وبالطبع فإن هذه الصورة تصب في صالح السلطة والنظام، فماذا يمكن أن يطلب منهما بينما الشعب على هذه الحالة الرثة"؟!

يقول أحمد يوسف إن عادل إمام “بدأ في أفلامه الشعبية بتصوير بطل يضطر إلى أن يكون فهلوياً ليتغلب على الظروف الصعبة الظالمة، لكنه انتهى فهلوياً مع سبق الإصرار والترصد. لقد أعطت الجماهير كل أسهمها من الحب للنجم عادل إمام، فإذا به يصنع منها شركة لتوظيف النجومية في سوق السياسة، وهو يفوز بالغنيمة وحده، حتى ولو كان الثمن أن تبكي الجماهير على أحلامها التي وضعتها بين يديه”. ولا يبدو الناقد السينمائي، في كتابه، معجباً بالمشوار الفني “للزعيم” في أي من مراحله، لكنه لا يعمد إلى إطلاق أحكامه جزافاً، إذ يعتمد على تحليل دقيق للعشرات من أفلامه، وهو تحليل يتسم في جانب كبير منه بقدرة معرفية رصينة بالفن السينمائي بشكل عام. وكان الكتاب ليكون أكثر ثراءً لو عمد مؤلفه إلى رفده بمواد أكثر حيوية وحداثة مما اشتمل عليه من مقالات قديمة، كتبت كلها متزامنة مع توقيت عروض أفلام عادل إمام، وشاب بعضها الكثير من التكرار لوجهات النظر والأحكام نفسها.

(*) صدر كتاب “سياسة عادل إمام.. رسالة من الوالي”، للناقد السينمائي والمترجم أحمد يوسف، ضمن سلسلة “كتاب الهلال”، الصادرة عن مؤسسة “دار الهلال” المصرية.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
1 أبريل (نيسان) 2017
القاهرة - محمد عبد الرحيم


أحمد يوسف في «سياسة عادل إمام رسائل من الوالي» من البطل الشعبي إلى بطل السلطة


عادل إمام النجم الأكثر تأثيراً على المستوى الجماهيري والشعبي، ومهما كان الاختلاف والاتفاق معه ومع ما قدمه من أعمال فنية، إلا أنه ظاهرة قلما تتكرر وتستحق الدراسة والنظر إليها بعين النقد. زمن خلال تاريخه الفني الطويل وتحولاته الحادة كنموذج للبطل الشعبي، الذي تحوّل من أبطال الملاحم في السير الشعبية التي يتلوها الرواة على المقاهي قديماً، أصبح يتجسد على شاشة السينما، وتتاح له منصة القول والفعل أمام مجموع غارق في ظلام دار العرض، يستسلم تماماً لما يُتلى عليه من كلمات وإيماءات وصولاً إلى أفكار. عن هذه المسيرة وسياقها الاجتماعي والسياسي تأتي الدراسة الرصينة للكاتب والناقد السينمائي أحمد يوسف، في كتابه المعنون بـ «سياسة عادل إمام رسائل من الوالي»، الصادر مؤخراً عن مؤسسة دار الهلال المصرية، ضمن سلسلة كتاب الهلال.

النجم السينمائي وآمال الجمهور

يبدو النجم معبّراً عن آمال وطموحات الفئة العريضة من الجماهير، اتساقاً مع السياق الاجتماعي والتاريخي الذي ظهر من خلاله، وهو بذلك يقترب من البطل الاشكالي في الرواية كما ذكر جورج لوكاتش، وبما أن السينما أكثر جماهيرية من الرواية، فالأمر يبدو أكثر تأثيراً. هذا النجاح كان يتراوح بين التعبير الحقيقي أو الهروب من مواجهة الواقع. وفي ما يخص السينما المصرية يذكر الكاتب أشكال البطل السينمائي وتحولاته، بداية من محسن سرحان وحسين صدقي على سبيل المثال في الأربعينيات، وقد جسدا صورة ابن الطبقة/الفئة المتوسطة، التي تحاول أن تجد لها مكاناً في الحياة، ولا سبيل آنذاك إلا بالتعلق بأهداب الفئة الأرستقراطية، بينما في الخمسينيات نجد فريد شوقي القادم من قاع المجتمع، محاولاً اقتناص الحياة بالقوة وبعض الحيلة في ظِل مجتمع لا يرحم، يقابله عماد حمدي وعجزه الدائم عن المواجهة والتفاعل مع الواقع، وتأتي الستينيات حيث الإحساس بالتفاؤل والأمل في المستقبل كما في شخصيتي أحمد رمزي وحسن يوسف. أما السبعينيات وقد انكفأ الجميع في متاهات وسقوط سياسي حاد، فالبطل أصبح يجسد الهروب من السياق الاجتماعي، يعاني من آلام عاطفية وذاتية، وسيما أنيقا مترفعا، غارقا في فراغ، كما في حالة حسين فهمي ومحمود يس. وفي الثمانينيات، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة والمستقبل الضبابي شبه المنعدم، يظهر نور الشريف وأحمد زكي، وكل منهما يجسد حال الجمهور الجديد.

الفهلوي

غيّر عادل إمام من تركيبة النجم السينمائي، بملامحه التي تشبه المواطن العادي، والانتماء إلى الفئة المتوسطة أو دونها. حزن عميق يخفيه خلف ضحكات ساخرة من الجميع ومن نفسه في المقام الأول، وهو بذلك أصبح النموذج المثالي للمواطن المصري بتركيبته النفسية والاجتماعية، هذا المواطن الذي وجد ضالته أخيراً في عادل إمام، وهو يبحث عنه على شاشات السينما طيلة نصف قرن. هذه التركيبة أجادها في أعماله، المتمثلة في الشخصية المصرية، والتي تحايلت على ظروف الحياة طوال تاريخها حتى تظل باقية، هناك المكر تحت قناع البراءة، وانتظار الفرصة المناسبة لتحقيق وجودها. لنلحظ ذلك في فيلم «الأفوكاتو 1984» لرأفت الميهي، فماذا يفعل المواطن/حسن سبانخ بين رجال السلطة في العهد الناصري، وبين رجال الأعمال في عهد السادات، ماذا يفعل سوى الرقص على الحبال ومحاولة الانتقام، التي تباركها الجماهير وتضحك وهو يتلاعب بهؤلاء، الذين استنزفوا حياته ولا يزالون؟

الانتقام

وتتغير الصورة ليصبح مجال الانتقام هو السبيل الوحيد، الانتقام من فئة لا يمكن التعاطف معها على الشاشة، بل سيصبح الثأر هنا مطلباً جماعياً يحققه البطل/النجم، فقير ولديه بعض من القيم الإنسانية، يمتهن مهنة أجبرته الظروف الاقتصادية والاجتماعية عليها، ومحاولاً تجسيد صور الانتقام بما لا يخالف شرع الخيال الشعبي، بداية من السخرية من الفئة العليا، ثم التحقق الجنسي من نساء هذه الفئة، حيث يصبح رجالها في شِبه عجز جنسي على الدوام ــ الصورة المغلوطة التي تؤصلها السينما دوماً، تعويضاً للعامة ــ فتأتي الأعمال متباينة، كما في «حب في الزنزانة 1983» و«حتى لا يطير الدخان 1984» و«سلام يا صاحبي 1986» و«المولد 1989». فالعنف الدموي أصبح هو الحل في تغيير حقيقي، وأصبح الأمل في ما يُسمى بالعدالة حلما عبثيا لا جدوى ولا طائل منه.

تزييف الوعي

وهنا يتساءل مؤلف الكتاب، هل هذه الأعمال تعبّر بصدق عن اللاوعي الجمعي للمصريين؟ أم أنها حيلة ذكية من صُناع الفيلم لتبني خطاب وأحلام الجمهور، لإفراغ شحنة الغضب في نفوسهم داخل قاعات السينما، وبالتالي تصير تزييفاً واعياً لوعي الجماهير؟ يجيب المؤلف أن هذه الأسباب تبدو مجتمعة، فالسينما تتاجر بهذه الآلام، وما نموذج البطل/النجم هنا إلا صورة المتفرج المثالية على الشاشة، وما الحل إلا من خلال حلم فردي زائف، مرصود عقابه ومحدد سلفاً في النهاية. ونرى أن فكرة تفريغ شحنة الغضب هذه ــ فكرة التطهير الأرسطي ــ ستصبح هي النغمة الأعلى في أهم أعمال عادل إمام اللاحقة، والتي تحوّل من خلالها من بطل شعبي إلى أداة من أدوات السلطة.

ثالوث السلطة

«ما كان يتردد في أفلام عادل إمام الأولى على نحو غامض، أصبح يتردد في أفلامه الأخيرة على نحو مباشر صريح، حين تراه يتحدث باسم الناس رافعاً شكواهم إلى السلطان، بل ربما استطاع أن يعلن التمرد في لحظة تبدو كالحلم … يدخل المتفرج إلى ظلام قاعة العرض، فينتقم له البطل من حالة القهر اليومي المتراكم، ليخرج الجمهور وقد انزاح عن قلبه عبء ثقيل، يصبح بعده أكثر احتمالاً لقهر يومي جديد، وما كان يرفضه النقاد والمثقفون في أفلام إمام الأولى من اختيارها عالم الشطار واللصوص والصعاليك … ما كان مرفوضاً في هذه الأفلام الساذجة التي تعشقها الجماهير، أصبح اليوم يحظى بالإعجاب والانبهار من جانب النقاد. وإن كانت الأفلام الأخيرة لم تبتعد في جوهرها كثيراً عن صعلوك عادل إمام التقليدي، ولم تستطع أن تتجاوز سطح الواقع إلى أعماقه». (ص 115 ــ ص 116). نقلنا هذه الفقرات شبه الكاملة من الكتاب، لأنها تمثل كيف استغلت السلطة السياسية وبرغبة من صُناع السينما في تبني وجة النظر السياسية وخدمتها، ضمن ثالوث فني اجتهد وتوافرت له كل سبل النجاح والتأثير، بأن يصبح أحد أهم أدوات هذه السلطة، وقد ظن أنه لا ظل إلا ظلها، عادل إمام وحيد حامد وشريف عرفة. «اللعب مع الكبار 1991» و«(الإرهاب والكباب 1992» و«المنسي 1993» و«طيور الظلام 1995» و«النوم في العسل 1996».

الزعيم الوهمي

أصبح لقب «الزعيم» ملتصقاً بالرجل أكثر من اسمه، وهو بدوره تقمص هذا الدور أكثر من تقمصه لأدواره السينمائية، أصبح ــ وكما يذكر مؤلف الكتاب ــ «مرجعاً في أمور السياسة والاقتصاد والفن، فأصبحت أراء عادل إمام هي الصياغة المشوّشة والغامضة لأكثر القضايا تعقيداً، اعتماداً على التأثير الهائل الذي يمكن أن يمارسه النجم على البسطاء». (ص 186). وفي تلك المرحلة الرسمية وإن كانت السخرية من المؤسسات التقليدية تتناثر هنا وهناك، إلا أنها تتم من خلال استثمار النجومية الشعبية لعادل إمام، وتحويلها لصالح المؤسسة الرسمية/السلطة السياسية. لنرى موقف عادل إمام من ثورة 25 يناير، ليتضح مدى الاستماتة في الدفاع عن نظام طالما عاش في ظِله، وأصبح بوقه الرسمي، إلا أنه وقد أصابه الضر أثناء الثورة، وجد ضالته في نظام آخر يتوهم أنه سيظل زعيماً، دون أن يعي أنه مهجور بلا جمهور، كتمثال الوالي الذي بثه شكواه في «رسالة إلى الوالي» ليكتشف بأنه أحد الأصنام البائسة.

أحمد يوسف: «سياسة عادل إمام … رسائل من الوالي»
مؤسسة دار الهلال، القاهرة 2017
342 صفحة.

عن موقع جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



جريدة الحياة


الجمعة، ١٠ مارس/ آذار ٢٠١٧
جريدة الحياة
القاهرة - «الحياة»


«سياسة عادل إمام ... رسائل من الوالي»


في سلسلة «كتاب الهلال» صدر للناقد السينمائي أحمد يوسف كتاب عنوانه «سياسة عادل إمام... رسائل من الوالي»، في معارضة لعنوان فيلمه «رسالة إلى الوالي»، وإشارة إلى أن الكثير من أعمال «الزعيم» كانت تحمل رسائل سياسية من الحاكم وليست إليه. ويقول سعد القرش، رئيس تحرير السلسلة القاهرية العريقة في تقديم الكتاب، إنه على رغم كثرة الكتب التي تناولت السيرة الفنية لعادل إمام، فإن هذا أول كتاب يتقصى، بهذا العمق والإحاطة، أبرز جوانب هذه السيرة، وعلاقتها بالسياق الاجتماعي والسياسي، وكيفية استثمار ظاهرة إمام لمصلحة نظام، وهي قراءة متأنية تبتعد من إطلاق الألقاب عن النجم الأوحد، والفنان الأكثر جماهيرية.

هنا كتاب يتجاوز النقد الفني والسينمائي بالمعنى التقليدي، ليستعيد المشهد العام الذي شهد تحولات عاصفة منذ منتصف السبعينات ولا يزال الانهيار الذي خلقته مستمراً، والأهم أنه يضعنا في قلب المشهد، طرفاً قلقاً في المعادلة. ويرى المؤلف، وهو ناقد ومترجم سينمائي معروف، أنه بقدر ما اكتسبت أفلام عادل إمام خلال الثمانينات من شعبية هائلة، فإنه كان يتم تجاهلها من جانب النقد الجاد باعتبارها أفلاماً «سوقية» لا تليق بالمثقفين، على رغم أنها كانت على أقل تقدير تستحق التحليل الاجتماعي في التأثير «السياسي» الذي تحققه. فقد كانت، وفق المؤلف «تمثل منبراً ماكراً تمارس الجماهير من فوقه نوعاً من الديموقراطية الساذجة من خلال سخرية عادل إمام من الواقع، وكانت هذه الجماهير هي حزب عادل إمام غير الرسمي، ولم يكن غريباً بالطبع أن يتعامل الإعلام الرسمي مع هذه الأفلام بالتعالي المصطنع، أو حتى بالحط من شأنها أحياناً، حتى إنه لم تتم في تلك الفترة دعوة بطلها ولو لمرة واحدة لمناسبة رسمية أو مهرجان ثقافي، وكان النجم الشعبي يعلن آنذاك أنه لا ينتظر جائزة سوى عشق الجمهور له».

فجأة، ومع فيلم «اللعب مع الكبار» - يقول المؤلف - بدأت بالفعل حقبة اللعب مع الكبار، فبدا كما لو أن أصحاب السياسة الرسمية، والمثقفين الذين يسيرون في ركابها، قد اكتــشفوا الدور الذي يقــــوم به هذا النـــجم والتأثير الذي يمارسه على جمهوره، فتحوَّل موقفهم تجاهه من النقيض إلى النقيض، فكأنهم أدركوا أنه يمكن «توظيف» نجوميته لمصلحتهم، ليجعلوه ينطق بأفكارهم ومفاهيمهم المغلوطة، أو المسطحة بفرض حسن النيات، عن قضايا حيوية، مثل الإرهاب أو الديموقراطية أو علاقة الشعب بالسلطة.

ويضيف أحمد يوسف: «مع عادل إمام لم يعد نجم الكوميديا هو ذلك الموظف الغلبان البائس في حياته وحبه كما قدمه نجيب الريحاني، وليس النوبي الساذج أبيض القلب كما كان يمثله علي الكسَّار، وليس الإنسان قليل الحظ من الوسامة والذكاء بالصورة التي نراها في أفلام إسماعيل يس، فتلك الأنماط قد تثير عطف المتفرج وشفقته، لكنها لا تدفعه إلى التوحد معها أبداً.

ومن هنا كان عادل إمام مزيجاً من هؤلاء جميعاً، مع ظلال قوية من نجوم آخرين مثل عماد حمدي، وفريد شوقي، وعبدالحليم حافظ، الذين ساهموا – بنجوميتهم – في التأثير في الوجدان الجمعي لأجيال عدة من الجماهير، والذين تتردد أصداء من أفلامهم – في شكل مباشر وصريح – في بعــــض أفلام عادل إمام، في محاكاة ساخرة أحياناً، وجادة في أحيان أخرى».

ويرى أحمد يوسف أنه إذا كان الجانب السلبي لملامح شخصية البطل يصطبغ بظلال رومانتيكية عند عماد حمدي أو عبدالحليم حافظ، فإن ذلك الجانب يعبر في أفلام عادل إمام – والشخصية المصرية – عن حزن تاريخي، أو بالأحرى عن تاريخ كامل من البؤس والشقاء، الاقتصادي والاجتماعي، ظلت الشخصية المصرية مع ذلك، وبفضل تلازم عناصر السلب والإيجاب فيها – باقية حتى اليوم».

وللدكتور أحمد يوسف كتب عدة منها، «نجوم وشهب في السينما المصرية»، و «محمد خان: ذاكرة سينمائية تتحدى النسيان»، و «عطيات الأبنودي ووصف مصر»، و «صلاح أبو سيف والنقاد»، وترجم عدداً من الكتب الرائدة، منها «تاريخ السينما الروائية»، و«موسوعة أكسفورد لتاريخ السينما»، و«كيف تكون مخرجاً عظيماً»، و «فن التمثيل السينمائي»، و«تقنيات مونتاج السينما والفيديو»، و «سيناريو الأفلام القصيرة»، و «تقنيات الإخراج السينمائي»، و«الصورة الشريرة للعرب في السينما الأميركية»، و«الفلسفة والسينما»، و «كيف تقرأ فيلماً؟»، و«السينما الإيرانية: تاريخ سياسي»، و «مئة عام من السينما الإسبانية»، و«موسوعة السينما» في أربعة أجزاء.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)