سندباد مصري للكاتب المصري حسين فوزي الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1997

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ١٨ مايو/ أيار ٢٠١٧
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«سندباد مصري» لحسين فوزي : عتاب يسأل الوطن عن سر انحداره


منذ البداية وكما يقول هو نفسه في الصفحات الأخيرة من كتابه الأشهر «سندباد مصري» أراد حسين فوزي أن يكون كتابه هذا «ملحمة للشعب المصري»، لكنه حين انتهى من صياغته، اكتشف أنه طلع من بين يديه أشبه بـ «مرثية طويلة لما عاناه» ذلك الشعب على مدى الأزمان، فإذا به يكتشف أيضاً أنه من خلال صياغته الكتاب إنما أكّد «قوة هذا الشعب على المقاومة والصراع والبقاء» لكنه في الوقت نفسه، أشار الى ما أداه للحضارة وتوكأ على آلامه وهزائمه. والحقيقة أن حسين فوزي قد تمكن في هذه العبارات البالغة البساطة، أن يعرّف كتابه ويلخّصه بأفضل مما فعلت مئات الدراسات التي كُتبت عنه. وليس قليلاً بالطبع عدد الدراسات التي كُتبت عن «سندباد مصري»، معظمها من موقع الإعجاب والتقريظ ولكن بعضها من موقع الشجب والإدانة. ذلك أن كثراً من الذين قرأوا الكتاب، ولا سيما إبان ظهوره للمرة الأولى أواخر سنوات الخمسين، حين كان العالم العربي ومصر يعيشان ما سوف يسمى لاحقاً فترة الزهو القومي، فرأى البعض في تركيز الكتاب وصاحبه على شؤون مصر وشجونها نوعاً من الابتعاد عن «حسّ قومي» مفترض! ونعرف أن التهجم على حسين فوزي قد ازداد حدة وشراسة بعد ذلك بسنوات حين قادته مبادئه الحضارية والفكرية الى مساندة مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات في الصلح مع إسرائيل. لكن هذه حكاية أخرى لن نخوض فيها هنا وإن كانت في جوهرها لا تبتعد كثيراً عن الأبعاد التي حمّلها فوزي لكتابه الذي نحن في صدده هنا. فما هو هذا الكتاب؟

في الحقيقة، ليس سهلاً تعريف كتاب من هذا النوع فهو ليس نصاً متكاملاً ولا عملاً أدبياً ولا جزءاً من سفر تاريخي. هو بالأحرى عبارة عن رحلة انتقائية في صفحات ومواقف وحوادث وشخصيات طبعت تاريخ مصر. رسمه قلم أنيق مستخدماً لغة جزلة ولكن أيضاً عاطفة حب قصوى لوطنه وعتاباً عليه وإدراكاً لواقع أن الأرض والشعب متلاحمان في هذا الوطن بشكل ندر وجوده في أي مكان آخر. صحيح أن نظرة متسرعة الى الكتاب قد تتلمس فيه أبعاداً شوفينية. لكنها ستبقى متسرعة. لأن الكتاب لا يستهدف تمجيد وطن انطلاقاً من الفكرة السخيفة القائلة «وطني دائماً على حق»، بل استكشاف الأسباب التي انحدرت بالبلد تحت ربقة غزوات واحتلالات متتالية له. إنه بحث عن الوطن في الوطن، خارج إطار القشور التي أضيفت إليه من خارجه. ومن هنا يبدو الكتاب في نهاية المطاف جزءاً من ذلك الاشتغال على حسّ عام برز في مصر منذ انبثاق عصرها الليبرالي خلال النصف الأول من القرن العشرين وأدى الى إنتاج روايات نجيب محفوظ الأولى وبحوث طه حسين حول مستقبل الثقافة في مصر والشعر الجاهلي وتساؤلات علي عبد الرازق حول الإسلام وأصول الحكم ثم اشتغال حسن فتحي على العمارة مع الشعب، وجمال حمدان على «شخصية مصر» ومحاولة توفيق الحكيم إعادة الروح.... ضمن هذا السياق إذاً، كتب حسين فوزي ذلك الكتاب متنقلاً فيه من «الظلام» الى «الخيط الأبيض والخيط الأسود» فإلى «الضياء»، راسماً تفاصيل التفاصيل في مسيرة شعب ووطن.

وكل هذا انطلاقاً مما يقدم به الكاتب لكتابه إذ يقول: «أدركت من شؤون بلادي وبعض أمور العالم، ما يدركه غلام، عند إعلان الحرب العالمية الأولى. وعشت في خضم ثورة 1919 طالباً، وراقبت في أعقابها بعقل شباب المدارس العليا، حتى غادرت البلاد عام 1925 لأتابع تعليمي، وغبت عنها خمس سنوات، عشت أثناءها مع أهل الغرب بعقلية اوروبية وقلب مصري. وعودتني حياتي العلمية في مصر والخارج، أن لا أصدر حكماً قبل أن أتبين الأمور بكل ملابساتها. وعرفت أن الحقيقة في مسائل الرأي بعيدة المنال، على العكس من بعض المسائل العلمية التي تقوم على قوانين الطبيعة، كالبديهيات الرياضية، أو المؤسسة على الفحص المباشر وتسجيل الملاحظات. أقول بعض المسائل العلمية لأنه حتى لا يقف عند حدود الوصف التشريحي، والتسجيل الموضوعي، وانما يتقدم بخطوات يعمل الاستقراء فيها عملاً كبيراً، فتجري على العلم أحكام سرمدية، لأن العقل يخطئ كما يصيب».

في الأصل كان حسين فوزي طبيباً، وبالتحديد طبيب عيون. لكن خارج إطار هذه المهنة، كان واحداً من كبار المثقفين الذين عرفتهم مصر في المرحلة الفاصلة بين عصرها الليبرالي، وبداية سنوات الثورة. ينتمي الى نفس الذهنية التي أوجدت جمال حمدان ولويس عوض، حسن فتحي وثروت عكاشة وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، أصحاب تلك العقول الحرة والثقافة الشاملة، من الذين أبدعوا لمصر نهضة ثقافية لا نزال في حاجة الى من يؤرخ لها، وأثبتت على مدى السنين والكتب والمآثر الغنية، أنها واحدة من النهضات الأكثر أصالة وانفتاحاً، التي عرفتها شعوب مناطقنا هذه. كان حسين فوزي الذي رحل عن عالمنا عام 1988 وسط ما يشبه السجال حول اختياراته السياسية، مثقفاً بكل معنى الكلمة، من طينة أولئك الذين اختلط لديهم العلم بالفن، والموسيقى بالعمران، والشعر بأعماق البحار، والسينما بالمسرح... ولعل مأساته الأساسية كمنت في انه إنما أراد لاختياراته الفنية (النخبوية في نهاية الأمر) أن تصبح ذات شعبية في بلده وأن تعمّ، مثله في هذا مثل المعماري الكبير حسن فتحي الذي دافع طوال حياته عن «البناء في سبيل الشعب»، فإذا بدفاعه يقوم ضد اختيارات الشعب نفسه. على هذا النحو كان حسين فوزي يود لو أن كل فلاح مصري تحوّل الى مستمع جيد الى بيتهوفن أو الى فاغنر. ولئن كان حسين فوزي قد «تنازل»، في فترات عن علياء اختياراته الاوروبية الكبيرة، فانه انما فعل ذلك لـ «يعيد» اكتشاف كامل الخلعي وداود حسني وصالح عبدالحي، في ضوء ما يشبههم في اوروبا. وهذا ما عمّق، في الحقيقة، ذلك الشرخ الذي قام على الدوام بين نخبة معينة في مصر، وبين الجمهور المصري ككل، وجعل أبناء تلك النخب يبدون وكأنهم «خواجات» أو «مستشرقون»، وسط عالم كان يؤلمهم «تخلفه».

ولد حسين فوزي في 1900 لأب مهندس، ودرس الطب وشغل وظيفة طبيب عيون ثم توجه في بعثة الى فرنسا لدراسة الأحياء المائية وعلوم البحار. ومن فرنسا عاد وقد آل على نفسه أن يساهم في خلق وعي فني جديد في مصر. وكان وعيه هو قد بدأ منذ اللحظة التي دخل فيها قاعة للسينما في القاهرة في 1918 ليجد خمسين عازفاً منهمكين في عزف السمفونية السابعة لبيتهوفن. ومنذ تلك اللحظة، طغى حبه للموسيقى على حبه لأي شيء آخر، رغم ممارسته الرسم والكتابة. لقد وضع حسين فوزي كتب قليلة العدد، أشهرها على الإطلاق «سندباد مصري» الذي نتناوله هنا والذي غاص فيه في تاريخ مصر البعيد، وغرف من شتى الفنون والآداب. وهناك من كتبه أيضاً كتاب «سندباد العصري» الذي عبر فيه أيضاً عن تلك النزعة الوطنية المصرية ظلت ترافقه طوال حياته، وجعلته على الدوام هدفاً لهجمات العروبيين وشتى أنواع «التقدميين». وهو كتب القصة والمسرح وألف في الموسيقى، لكنه في جميع أحواله كان يسبح ضد التيار. لكن هذا لم يكن كل شيء في حياته. فهو خلال العهد الثوري الناصري كان من مؤسسي أكاديمية الفنون، ولكن دائماً على الطريقة الاوروبية التي كان من الصعب تماشيها مع الذهنية المحلية. ولعل هذا ما جعل الصدام يقوم بينه وبين ثروت عكاشة (الذي لا يقل عنه عصرية وتقدمية بالطبع، لكنه كان على الدوام اكثر منه عقلانية وواقعية). ولقد أدى ذلك الصدام الى ترك حسين فوزي لوزارة الثقافة بعد ان كان وكيلها، وهو أمر أسف له ثروت عكاشة كثيراً ولا سيما حيث كتب مذكراته الرائعة وأفرد فيها حديثاً عن حسين فوزي امتلأ بالإعجاب، على الرغم من الخلاف السياسي والايديولوجي الذي قام بين الاثنين.

في سنوات حياته الاخيرة، وضمن اطار منطقه الليبرالي - العصري، وقف حسين فوزي الى جانب اختيارات الرئيس المصري السابق انور السادات، ما جر عليه من جديد لعنات وهجمات التقدميين. ولكن رحيله في 1988 وضع حداً لهذا كله، فبرزت قيمته الثقافية والتجديدية، وصار يشار اليه دون تردد كواحد من الذين ساهموا في انشاء نهضة فنية حقيقية في مصر.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)