ثقافة - سياحة - تراث - Culture - Tourisme - Patrimoine

سلا العتيقة.. ذكريات تركها أهلها وبقيت بعض بناياتها الشائخة Maroc - Ville de Salé

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الخميـس 21 جمـادى الاولـى 1433 هـ 12 ابريل 2012 العدد 12189
الصفحة : عين الشرق
سلا (المغرب) : طلحة جبريل


من مفارقات المدينة المغربية أن النقانق وعصافير الزينة تباع في الحانوت نفسه


أحد أزقة مدينة سلا العتيقة (تصوير: منير أمحميدات)

الدخول إلى مدينة «سلا» المغربية من «باب الخميس» ليس أمرا شاقا فقط، بل يتطلب دربة خاصة. الناس تزحف زحفا قبل المغيب. يأتون إلى هنا لأسباب متعددة، معظمهم للتسوق، لديهم شعور بأنهم سيحصلون على سلعة جيدة بسعر رخيص، هكذا هي دائما أحلام الفقراء. آخرون لتناول وجبة رخيصة. فئة ثالثة لتزجية الوقت وسط الزحام.

عند المدخل كان هناك باعة يفترشون الأرض ينادون على سلعهم. في الغالب لا يذكرون اسم السلعة، بل ثمنها، لذلك تسمع عبارات مثل «عشرة دراهم.. عشرة دراهم».

عند المدخل في اتجاه «السوق الكبير» كانت الحوانيت الصغيرة تفيض بالسلع، وهي في أغلبها ملابس، وبعض أدوات منزلية.

الزقاق الذي يقود إلى «السوق الكبير» يضيق، مما يجعل تحرك الناس بطيئا، وفي بعض الأحيان تتوقف الحركة تماما.

الأمكنة تتحول إلى متاهة، لكن لا أحد يكترث. سلع الدكاكين المتراصة تتدفق نحو الزقاق الضيق. الحوانيت التي كانت تعج بمأكولات في بعض الأيام تتحول إلى حوانيت تطفح بالحلويات أو المصنوعات الجلدية والأجهزة الإلكترونية. العكس يجوز أيضا. هذه الحوانيت لا تستقر على حال، كما الزمن.

أهل سلا العتيقة يتحولون طبقا للمواسم. من كان يبيع المشويات يتحول إلى الفطائر. من اعتاد أن يجلب السمك يأتي بالملابس. من دأب على بيع التمور والمكسرات يبيع شرائط وأقراصا لمطربين مغمورين. أحيانا يبيعون حتى الصراخ.

الناس تعتقد أن السلع رخيصة. بعضهم يظن أن المأكولات مذاقها ألذ. وهي قطعا أرخص. هنا يختلط أي شيء بكل شيء. أشكال وألوان. بيد أن كثيرين يذهبون إلى هناك لأنهم يرغبون في التفرج على الآخرين. صبايا وشباب يتبادلون حديثا وسط الزحام. يكتفون بالنظرات. نظرات تقول شيئا. يعجبهم الزحام.

ثمة مفارقات غريبة في الحوانيت المتراصة التي تقود إلى منطقة «السوق الكبير» التي كانت في زمن مضى هي قلب مدينة سلا العتيقة، هناك حوانيت للحلاقة، وأخرى لبيع التحف القديمة، وسماسرة لتأجير المنازل، وحوانيت تبيع شرائط الأغاني. هناك أيضا من غرائب هذا المكان، حوانيت تبيع أشياء لا رابط بينها. على سبيل المثال حانوت يبيع ساندويتشات النقانق وفي الوقت نفسه يبيع طيور الزينة المنزلية.

نحن في ساحة «السوق الكبير». هذه الساحة كان لها تاريخ عريق، تحولت الآن إلى أطلال تحكي أصداء فترة طوتها سنوات وحقب.

إلى هذه الساحة كان يأتي القرويون من القرى والمداشر التي تحيط بمدينة سلا يحملون سلعهم لبيعها لسكان المدينة العتيقة. في تلك السنوات من القرن الماضي، كان معظم سكان المدينة يسكنون في سلا العتيقة. لكن الأحوال انقلبت، إذ أصبح معظم سكان العتيقة من المهاجرين الذين وفدوا من القرى والبلدات المجاورة، وتشتت سكان المدينة الأصليون بين بعض الأحياء، مثل «بطانة» و«تابريكت» و«حي السلام». كثيرون منهم انتقلوا إلى الضفة الأخرى من نهر «أبورقراق»، أي إلى الرباط، على الرغم من ذلك «التنافر التاريخي» بين أهل الرباط وسلا.

كان القرويون الذين يأتون من أمكنة بعيدة يمضون ليلتهم في «الفندق»، وهو اسم يعني في العامية المغربية المكان الذي يمكن أن تمضي فيه الليل أنت ودابتك، سواء كان بغلا أو حمارا، لقاء بعض الدريهمات.

بقي الآن واحد من هذه «الفنادق» يطلق عليه اسم «التلة».

التاريخ يقول إن سلا أكثر عراقة من الرباط. وهي واحدة من أعرق المدن المغربية، تجاور الرباط لكنها أقدم منها؛ إذ نشأت كمدينة بحرية في القرن الحادي عشر، وأحاطها المؤسسون بسور ضخم يلتف حولها، ولها أبواب من بينها «باب الخميس» الذي دخلنا منه إلى المدينة، وكان يسمى «باب فاس» في زمن مضى. واقع الحال الآن يقول إن الرباط، التي تحتفي هذه السنة بمرور قرن على اختيارها عاصمة للمغرب، ابتلعت سلا.

لم تعد سلا تذكر إلا عندما يعلن عن محاكمة «إرهابيين»، حيث توجد بها محكمة مختصة في قضايا الإرهاب. في الماضي اشتهر بعض أهل سلا بأنهم «قراصنة بحر» شجعان. الآن يعيد التاريخ نفسه بطريقة كاريكاتيرية.

في ساحة «السوق الكبير» تبدو البنايات شائخة كأنها آيلة للسقوط. جدران مشققة، ومتسخة، وفي بعض الأحيان تجد عبارة «ممنوع رمي الأوساخ والأزبال (القمامة)»، وعلى الرغم من ذلك فإن «الأوساخ والأزبال» ترمى بالضبط تحت تلك العبارات التي كتبت بخط رديء.

دكاكين تبيع البقوليات والخضر والفواكه، الزيتون والمخللات، الملابس والأواني المنزلية، الخبز والزيوت، كل شيء وأي شيء.

كان كل زقاق متفرع من «السوق الكبير» مختصا بحرفة من الحرف. لم تتبق الآن سوى أطلال.

«مقهى بن عاشر» وهو ليس مقهى، بل حوانيت صغيرة متراصة، كان يعمل بها صناع تقليديون في الجلد والخشب والنحاس. حاليا تحولت إلى مخازن يخزن فيها بعض باعة «السوق الكبير» سلعهم. سألنا شخصا وجدناه أمام أحد هذه الحوانيت: إلى أين انتقل هؤلاء الصناع؟ أجاب: ماتوا جميعا رحمهم الله.

في الصباحات وحتى في النهار، يبدو «السوق الكبير» مقفرا، الحركة فيه بطيئة ومتثاقلة، المتسوقون يحسبون على أصابع اليد. لكن ما إن يأتي العصر حتى يندلق الناس نحو «سلا العتيقة» ويبدأ التدافع بالمناكب.

في ساحة «السوق الكبير» كان يغني ذات يوم واحد من أشهر المغنين المغاربة على الإطلاق، إنه «الحسين السلاوي»، اسمه من اسم المدينة. كان يتحلق الناس حوله في حلقة، كما هو الشأن في حلقات جامع الفنا في مراكش، ويغني أغاني معبرة للناس والحياة.

الآن، حيث كان يقف حسين السلاوي جلس رجل متقدم في السن أمامه كمية صغيرة من اللحم والكبدة والكفتة، وموقد فحم مشتعل، يبيع للناس «القضبان» أي المشويات.

راح زمن الحسين السلاوي.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)