قراءات - Comptes rendus de lecture

سـيدات القـمر، جـوخـة الحارثي (سلطنة عُمان)، رواية Sayidat al-Qamar (Sayyīdāt al-Qamar), Joukha El Harithi (Sultanat d’Oman), Roman

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس ٧ يونيو/حزيران ٢٠١٢
جريدة الحياة
محـمد برادة


 نسوة عُمانيات في مواجهة سطوة الماضي

في روايتها الثانية «سـيدات القـمر» (دار الآداب-2010)، تـجوسُ بـنا جـوخـة الحارثي عـبر أغوار المجتمع العـُماني وطقوسه وعاداته، وتـرسم شخصيات ذات حـمولة واقعية ورمـزية، منـغـرسة في صـلب الأحداث المنطوية على مواجهة حيوية بين قـوى متطلعة إلى تـغـيـير بنـيات الماضي وتقاليد موروثة تجثـم بقوة لتـعـوق تحولات يفرضها العصر وقانون الحركة. وتـضـطـلع لغة الكلام وسلاسة السـرد بدور فنـيّ يـمزج مشـاهدَ وصفِ اليـوميّ بمنـطق السـحر والخرافات الذي يـُضفي على فوضى الأشياء وغموضها، غلالة من الاتـّـسـاق الجاذب.

يـثـيـر الانـتباه في شكل «سيدات القمر» أنه يتـكـون من فصول قصـيرة، يـتـناوبُ على السرد فيها ضميرُ الغائب المهتـمّ بتقديم المشاهد، وربط الصلة بين الأحداث وعلائق الشخصيات؛ ثم ضميـر المتكلم،على لسـان عبد الله ابن التاجـر سليمان الذي بنـى أرباحه الواسعة من الاتجار بـالـرقيـق. ومن خلال صوت الابـن نـتـابع نموذجاً من حياة عـيّـنة من جيل ينتـمي إلى ثـمانـيـنات القـرن العشرين. والحـكيُ بضمير المتكلم في هذه الفصول، يسمـح بتـفـريد الصوت والمشاعـر، ويقيم توازناً بين السـرد العلـيم والصوت الحامل لخصوصية التجربة. على هذا النحـو، تسعى الرواية إلى أن تلامس مسار المجتمع العُماني على امتداد ما يـُـقارب المئة سنة، انطلاقاً من محكـيات تـتخـذ بـؤرة لها حيوات شخصيات تنـتمـي إلى أسـرتـيْن تعيشان في قـرية العوافي، هما أسرة عـزّان زوج سالمة وأبو مـيـّـا وَأسماء وَ خـولة، وعائلة التاجـر سليمان وابنه عبد الله زوج مـيـّا وأبو «لندن» الطبيبة الشابة ... ومن خلال المـراوحة بين الخاص وتفاصيله (الزواج،الولادة، علائق الحب والخيبة، مشاهد الحياة اليومية...)، واستحـضار ما هو تاريخيّ وعـامّ (الاحتلال البريطاني، الاتجار في الأسلحة والـرقيـق، تحديث المباني والمرافق في السلطنـة...)، تـرتـسـم ملامح من تحولات المجتمع الـعـُمـاني التي تحتل المرأة الصدارة َفيها. لكن ما يستحـق التسجيل، هو أن الإحالة على التاريخ والأحداث العامة لا تـأخذ حـيـزاً كبيـراً، وتـأتي في تلميحات عـابـرة، تذكيرية، لا تشوش على المجرى الروائي النابض بالشخصيات والمشاعر والإيحاءات. وما يـزيد من تقوية الجانب الروائي على الطابع التاريخي، كـونُ السـرد يـتـمُّ من خلال عملية اسـتـباق/ارتـداد، أي البدء بالحديث عن «حاضـر» الشخصية وما آلتْ إليه قبل الارتـداد إلى ماضيها لاستـعادة التفاصيل التي أدت إلى تشكيل مسار حياتها.

نجد نموذجاً لهذا الاستباق والارتداد في الطريقة التي تعرفنا بها على قصة «لندن» ابنة عبد الله التي فرضت على أسرتها الزواج من أحمد الشاعر قبل أن تكتشف خيانته ومراوغاته...على هذا النحو، نـقرأ في الفصول الأولى أن لندن فسخت خطبتها بأحمد، ولكن التفاصيل تطالعنا في الصفحات الأخيرة من الرواية: «لكن حبها الأول فشـل، فشل قبل أن تعتـرف بذلك بوقت طويل، وبعد إهانات وآلام طلبت الـخـلـع أخيراً وامتنعت عن رؤيتـه (...) أصبح الشوق البائس لوجهه القديم وصوته القديم سلاحاً يشـهره قلبها في وجهها، «أكـرهك، أكـره صوتك، أكـره صورتك»، ومـزّقـت كل صوره، ولكن لندن لم تشعـر في صميمـها بالكراهية التي تستجديها وإنما بالمـرارة والألم الفاقـع العنيف «ص 217».

يـعاضـد هذا الشكل وطـريقة السرد، لـغـة ٌ رقـراقة، رشيقة، متعـددة السجلات، جامعة بين الفصحى ولغة الكلام، تـمتـح من الأمثال العـاميّة وروائع الشعر العاطفي الذي يستـعين به عـزّان لـيـعـبر عن حبه اللاعـج والمستحيل لنـجية الملقبة بالقمـر، والتي اختارتـه ذات ليلة ليكون عشيقها، وهي تعلم أنه متـزوج وأب لثلاث بنات. وهذا التنوع في معجم اللغة ومواردها يخدم تـعدد مستويات المتحدثـين في الرواية، ويجسد التـواشج بين لغة «البـدو» الموروثة واللغة الأنثوية المتطلعة إلى عواطف جديدة.

الـمـرأة تسـتـعيـد صوتـها

يمـكن اعتـبـار «سيدات القـمر»، في نهاية التحليل، رواية أجـيال، على رغم أنها لا تستـغرق صفحات عديدة، ولا تحتذي الأنموذج المكـرس في هذا المجال. هي رواية جيـلـيـْن على الأقل، لأنها تستحضـر فترة الاستعمار ثم نشوء السلطنة والحروب الداخلية قبل أن تأخذ طريقها إلى التـمـدّن واستجلاب وسائل تحديث المجتمع... ولعل هذا ما يـبـرر تعدد التيمات في الرواية.

في طليعة الموضوعات التي تلفت النـظـر، حضـور المـرأة داخـل سيـرورة التـبـدّلات وفي ثـنـايا المحكيات. هي حاضرة من خلال الأمهات ومن خلال اللائي كـُـنّ عبدات اشتراهـنّ التاجـر سليمان ليجعل منهن محظيات، وحاضرة أيضاً من خلال مـيـا وخولة وأسماء، ثم لندن وَصديقتها حنان التي تعرضت للاغتصـاب، ونجـية البدوية الجميلة التي تختار عشاقها. كل واحدة من هذه النساء لها مسارها وتفاصيل قصتها، لكنهن جميعاً يواجهن واقعاً اجتماعياً يجعل المرأة في موقع التابع، المنفـذ للمواضعات والتقاليد الموروثة؛ وعلى رغم ذلك، يحرصن على تحقيق ذاتهن مستفيدات من مناخ عـام، يسمح بنوع من الانفتاح على العالم، والاستفادة من تـغـيـّراتٍ تفرضها الدينامية الداخلية للأشياء والعلاقات:» حين خـرج أبوها من الغرفة بـكتْ الرضيعة فحملتـها مـيـّـا إلى صدرها، هل ستـشبـهـها فعلاً؟ بعد ثلاث وعشرين سنة حين ستـكـسر هاتفها النـقال وتضربها، لن يكون بينـهما أي شـبَـه إلا في السمـرة والنحافة، ستكون «لندن» أطـول وأجمل وحـكّاءة لدرجة الثـرثـرة، ستكون هذه الغرفة مـلاذ جدها في سـتـينـاته وقد تلاشى الأزرق الـزيتي وحـلّ محـله صـبْـغ مائي خفيف، واستندت إلى الجدار خـزانات خشبية عصرية، بـدَل المـندوس المـذهب وأريكة مكـسـورة بالمـخـمـل مكان الطنافس» ص 52». وفي معظم الأحيان، يكون هذا الحضور عـبـر «لغة النساء» الحريصة على التقاط التفاصيل والتضاريس.

والتيـمة الثانية، تـتـجلى في بـُـعْدٍ رومانسي، وجـودي، يـعطي الأسبقية للـرغبة والعـشق المتـحرريـْن من القيـود والمتحديين لها. وهذا ما تجسـده علاقة عـزان وَنجـية البدوية الجميلة الملقبة بـ «القمـر»، والتي اختارت هي بنفسها عزان لتعيش معه علاقة حـرة، لا تخضع لما هو سائد:»...هذا ما أراده كلاهما: الحرية في العلاقة. ولـوهـلةٍ ظـنـا أنهما بـلغا الكمال في حـرية الشغف الخالصة، لا تـصـنـُّـع ولا مـداراة ولا كذب، لا وعود ولا آمال، اشتـعال اللحظة وحسب، لا قيود من الماضي والأهم من ذلك: لا قـيود من المستقبل...»ص78». إلا أن هذه العلاقة التي شكـّـلتْ واحة في هجـيـر أحادية الـزوجية، سرعان ما تعرضت لنوع من الاغتيال عن طريق لجوء الزوجة إلى السحـر والشعوذة لإبـْـطال مفعول الحب بين العاشقين! وتطالعنا علاقة أخرى في الرواية، لا تخلو من رومانسية، وهي تلك التي جعلت خولة تنـتـظر سنوات عديدة،عـودة َ ابن عمها ناصـر من كندا لـيـتـزوجها،على رغم إهماله لها وارتباطه بامـرأة أجنبية. وحين عاد وتزوجها وأنجبا ولديـْن بلغا سـنـاً معقولة، قـررت خولة أن تنفـصل عن ناصـر لتعاقبه على سوء معاملتها طوال سنوات وهي متعلقة به! ذلك أن سنوات العذاب والهجران أنـبـتت في نفسها كـرهاً ورفضاً لهذا الزوج الذي عاملها من دون مراعاة لعواطفها وتفانيها في حـبـه.

والـتيـمة الثالثة تـتـصل بالروح البـطريركية المسـيـطرة على الآباء، وهو ما عاشه عبد الله مع والده سليمان، ثم كـرره هو مع ابنه سالم، وكأن هذه السيطرة الأبوية جـزء من الإرث:»...لكن حيـرتي لم تطـل، انفتح الباب بـغـتـة ورأيت وجه أبي في العتمة.» ولد فـطوم، ولد فطوم، تـكبـر عليّ أنا؟ تخالفني أنا؟ ولد فطوم...».زمجـر بكلام كثيـر، لكني كنت قد فقدتُ الوعي حين هوتْ إحدى لكماته على مكان مـا في رأسي(...) أكان على خمس وعشرين سنة أن تمر حتى أصـرخ في سالم: سهران للآن؟ تخالفني أنا؟ (...) أردتُ أن أصـرخ في وجهه أكثـر، لكني لم أتعـرف الصوت الذي خـرج مني.لم يكن صوتي. كان صوت أبي في عتمة باب بـيـتـه يـلـكـمُ وجهي ورأسي «. ص98.

على هذا النحو، تـبدو «سيدات القـمر» إحـيـاء لـمشاهد وأحداث ماضية وأخرى تنتمي إلى الحاضر، من خلال فـئات تـمثـل المجتمع الـعـُـماني وقـد اخـتـرقـتـْه أواليات التحديث وهو يخوض غمار التحول، مشدوداً بأكـثـر من وثاق إلى الموروث، لكنه منـدفع، في الآن نفسه، نحو المستقبل، تحدوه قوة الحياة، والـوعي المتشـكل من خلال التجربة والمعاناة. وليس تحـيـزاً أن جعلتْ جوخة الحارثي من نماذجها النسائية عنـصراً فـعالاً في سـيرورة التحولات، لأن أوضاع المـرأة في مجتمعاتنا العربية الذكورية، تدفع إلى التـمـرد وبـلورة وعـي ٍمنـاصـر للتحرر والمساواة. وهذه رؤية استطاعت جوخة أن تصوغها في سـرد ولغة ملائميـْـن، يـضفيان على روايتها مزايا عديدة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



جريدة الرياض السعودية


الخميس 10 جمادى الأولى 1432 هـ - 14 ابريل 2011م - العدد 15634
جريدة الرياض
فاطمة المحسن


 رواية «سيدات القمر» والعبور بين أزمنة التحديث الخليجية

جوخة الحارثي قاصة وأكاديمية من سلطنة عُمان، صدرت روايتها الثانية “سيدات القمر” عن دار الآداب، بعد ثلاثة مجاميع ورواية سبقتها عنوانها “منامات”.

عملها الجديدة يثير الفضول عند من لا يعرف إلا القليل عن عُمان، حيث الرواية تحفل بما يمكن أن نسميه، فولكلورها وحكايتها ومزاج أناسها.

الحارثي ترصد حركة التمدين للسلطنة وانتقالها في سلم القيم، وإن بدا عملها شبه مكرس للنساء، غير ان مشهدها يتجاوزهن إلى علاقات التشابك بين الجنسين اجتماعياً وطبقياً.

تخلو الرواية من حبكة تلم تبعثر شخصياتها وأزمنتها وتداخل أصواتها وعدد الساردين، ولكنها في المنحى العام تحاول أن تجعل لفوضى التشظي وظيفة الدمج بين خطاب المكونات الاجتماعية المتنافرة.

ما يثير الاهتمام في الرواية، غياب فكرة الصراع ببعده التصادمي، وإن بدا على نحو ما، في منطويات الشخصيات التي تكابد كي تحتل موقعا في الحياة. كما تبدو بدرجة أخرى معنية برصد عملية التحديث، حيث تتساكن او تتفاعل القيم قديمها وجديدها في فضاء متداخل.

من خلال تطور وظائف السلالة العائلية التي تتابعها الرواية، يمكن ملاحظة ديناميكية التحول، فالسلالة العائلية مرصد الزمن الحامل ترسيمات المراحل وعلاماتها ورمزية حضورها.

شيخ العشيرة والتاجر، قطبا السيادة في هذا المكان الروائي، ولا نجد كبير فرق بين ملامح الأثنين، سواء في طريقة العيش، أم في الحيازة الاقتصادية، بما فيها حيازة العبيد والإماء. وتبقى للشخصية النسائية موقع اعتباري في الرواية، فنحن أمام سيدات يسردن أنفسهن دون أن يحظى هذا السرد بعنصر المفارقة أو الانعطافة الحادة. وسنرى ان الفضول المتولد عن مفهوم السر المجتمعي، الذي يشكل قطب الإثارة عادة، يغيب عن الرواية، على عكس الكثير من الروايات الخليجية، والروايات التي تكتبها النساء عموما. فالحكايات تخلو من مكابدات الجسد،أو فكرة اضطهاد المرأة،على نحو واضح، بل يصبح الحب الرومانسي موضع الاهتمام، لأن التعويض عن فداحة الحب في المجتمعات المغلقة، يجري عبر دمجه في اللحظة الاجتماعية المتحركة،أو اعتباره هاجسا رومانسيا يخطر في بال كل الشباب. في حين يشكل خطاب الجنس، معادلا لفكرة المنع أو الحجب في روايات خليجية كثيرة، وخاصة الرواية السعودية.

“ميا”، وهي الشخصية الأولى التي تقدمها الرواية، فتاة تقع في حب رجل من أول نظرة، بعد أن تلتقيه في مكان عام، ولا تتمنى سوى أن تراه فقط من بعيد. لكن أمنيتها تذهب أدراج الرياح، بعد أن تعلن لها أمها خبر خطبتها من ابن التاجر، أو المهاجر، كما يرد في الرواية، فلا يبقى من تلك الذكرى بعد أن تتزوج، سوى اسم مولودتها الجديدة التي تطلق عليها اسماً غريباً “لندن” لأن الفتى الذي أعجبت به قبل زواجها، كان قد ذهب إلى لندن.

زوجها خطبها لأنه وقع في حبها من أول نظرة، وبقيت حياتها معه عبارة عن سرد لفولكلور العائلة وعادتها،فهذه المراة في ملمحها الروائي، ليست على علاقة وثيقة بالحياة بعد ان استسلمت لأقدارها “بدت لها الحياة منشطرة شطرين كالليل والنهار : ما نعيشه وما يعيش داخلنا” . وهكذا نتعرف على شخصيات أخرى تشكل محاور متكافئة في مصائرها، فأختها خولة ترفض الزواج لأنها تنتظر ابن عمها الفاشل في دراسته بكندا، ويقف أبوها الشيخ مع رغبتها، ولكن الحبيب المنتظر كان قد ارتبط بكندية، تتركه في النهاية ليستسلم لحياته الزوجية. عندها تشعر بفقدان الرغبة في متابعة دورها السابق، فتطلب منه الطلاق. خولة تبدو على صلة بمطالب الحياة الحديثة، فهي تقف بين جيلين من النساء شبه المتعلمات، والدارسات في جامعات حديثة. ستكون الانتقالة الواضحة في فكرة اكتمال شخصية المرأة الحديثة، عند الجيل الجديد التي تمثله ابنة ميا “لندن” التي تقع بحب زميلها في الجامعة، وهو من عائلة خدمت عائلتهم. يوافق أبوها على خطبتها،رغم الفوارق الطبقية، ولكنها تكتشف خيانات الحبيب وتمرسه في بيع الكلام لكل النساء، فتتركه متفرغة الى نجاحاتها في العمل كطبيبة، رغم ادراكها صعوبة وضعها العاطفي.

حركة الحياة تبدو هادئة في الرواية، حتى ولو شعر بعض أناسها بالضرر، وسنجد ذاكرة القمع تستوطن البطل الرجل قبل المرأة. فالراوي الأول عبد الله، زوج ميا، التاجر الذي يسافر ويتصل بالعالم الخارجي، يفتتح بصوته وهو في الطائرة، مدخل الرواية ويختمها أيضا، حيث تراوده أطياف الاضطهادات التي مر بها، كما تراوده لحظات حبه لميا وأفكاره عن ابنته ومستقبلها. والد عبدالله سامه العذاب في الطفولة والصبا، سواء بتعريض جسده إلى العنف، او بتجويعه رغم الثراء الذي يتمتع به، وأمه ماتت مسمومة على يد عمته القاسية، فلم يعرف الرعاية والحنان سوى في حضن مربيته العبدة محظية الأب. ولكن تلك القسوة لم تمنعه من أن يكون متسامحاً وطيباً مع زوجته وابنته.

على هامش تلك الشخصيات نكتشف بعض الحكايات عن وريث المشيخة الذي لم يهادن الانكليز، فاضطر الرحيل وعائلته إلى مصر والمكوث في القاهرة زمنا طويلا، ثم العودة الى الديار، واستئناف حياته الهادئة. مجتمع العبيد والإماء،يحظى أيضا باهتمام الرواية، وما بين مرحلة العبودية والتحرر منها، تتبدل الشخصيات، وتصبح العودة الى الماضي من بين استرجاعات الذاكرة البعيدة لأبطاله : معاناتهم في السفن التي حشروا فيها بعد ان سرقوهم من أفريقيا، وباعوهم إلى الشيوخ والتجار في الخليج، ثم صدور قانون تحريرهم، وهروب بعضهم الى أماكن أخرى وبقاء الجيل القديم أسرى العبودية كقدر. وسنجد على هامش تلك الأحداث علاقة بين والد ميا وبدوية متحررة من فكرة الزواج، حيث يلتقي في الصحراء تلك البدوية الجميلة والشغوفة بحريتها واستقلايتها، ليلقي عليها أشعار قيس بن الملوح والمتنبي.

يمكن أن نعد هذه الرواية، رواية الأصوات التي تتجاور في بعثرتها حركة الزمن، لأنها لا تخضع إلى تواتر سرد الضمائر المتعددة وفق حركة نظامية، سواء في عودة الزمن الى الوراء أو في تقدمه الى الأمام. لعل فكرة التجريب تبدو متحققة في تخطي السرد كلاسيكية التتابع الكرنولوجي في مسيرة الشخصيات والحوادث. في هذا الحيز تبدو الرواية مشتتة، وفي فقدانها عنصر التحفيز او الإثارة، تصبح مملة لقارئ غير صبور، ولا يملك فضولا لمعرفة ما الذي يجري في هذا المكان، وما هي ملامح ناسه وطريقة عيشهم.

يكاد الأدب، والأدب الروائي على وجه التحديد، النافذة التي يستطيع من خلالها القارئ إشباع فضوله عن بلدان الخليج النفطية، ففي غياب الدراسات السوسيولوجية لا يمكن التعويل على انطباعات يكتبها مستشرقون عن جمال الطبيعة الصحراوية وعادات أهلها. وحتى تلك الدراسات التي تتحدث عن فكرة التحديث التي طالت الاقتصاد النفطي والعمران، تبقى مجرد انطباعات سياحية او تقارير رقمية لا تطال سوى المظهر الخارجي للمدن الحديثة النفطية التي نراها من الخارج. ولن يكون الشعر في تلك البلدان، سوى أصداء بعيدة للحياة العامة التي تمور تحت سطحها متغيرات كثيرة.

تذكرنا بعض ومضات من حوادث وشخصيات رواية جوخة الحارثي “سيدات القمر” برواية سبق أن أصدرتها الشاعرة ميسون صقر القاسمي، وعنوانها “ريحانة” وبينها حكاية الشيخ الوريث مع الانكليز، وحكايات العبيد والعبدات، ولكنها تختلف عنها في البنية التي تجعل رواية ميسون أكثر تماسكاً ووضوحا في محاولتها ربط الجانب السياسي بالاجتماعي في خطابها العام. رواية الحارثي تبدو مهتمة بما يصادفه رجال ونساء هذا المكان من مشيئة الأقدار التي قد تبدو سعيدة أو مكبلة بمرارة الحقب المنتهية في حياة لا يبدو فيها الماضي لعنة تُفسد استمرار الحياة.

عن موقع جريدة الرياض


جريدة الرياض هي أول جريدة يومية تصدر باللغة العربية في عاصمة المملكة العربية السعودية صدر العدد الأول منها بتاريخ 1/1/1385ه الموافق 11/5/1965م بعدد محدود من الصفحات واستمر تطورها حتى أصبحت تصدر في 52 صفحة يومياً منها 32 صفحة ملونة وقد أصدرت أعداداً ب 80-100 صفحة وتتجاوز المساحات الإعلانية فيها (3) *ملايين سم/ عمود سنوياً وتحتل حالياً مركز الصدارة من حيث معدلات التوزيع والقراءة والمساحات الإعلانية بالمملكة العربية السعودية، ويحررها نخبة من الكتاب والمحررين وهي أول مطبوعة سعودية تحقق نسبة (100٪) في سعودة وظائف التحرير.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)