ساعة بغداد، شهد الراوي (العراق)، رواية دار الحكمة للنشر والتوزيع - لندن - 2016

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة، ٢٠ أبريل/ نيسان ٢٠١٨
جريدة الحياة
خالد الحروب


«ساعة بغداد»... بأوقات مختلفة


في فصوله الأولى يبدو نص «ساعة بغداد» للروائية العراقية شهد الراوي، الصادرة عن دار الحكمة- لندن، والمدرجة القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، عادياً ورتيباً، وقد يدفع البعض إلى وضع الرواية جانباً. بيد أن هذه العادية والرتابة ستظهران لنا جزءاً عضوياً من البنية الكلية للرواية، بكونها ستبرز جمالية العادي والتوق القاتل إلى الرتابة عند حلول الغياب الفادح لعاديي الحياة. الرتابة الأولية تساعد في توضيح حدود الافتراق بين «العادي» والتمني الأسطوري له عند غيابه. ثيمة الرواية أيضاً متكررة بما قد يغري بتوقع خطها الدرامي، وهذا أيضاً تقدير متسرع ثان. وهذا التسرع سيتكرر: هل صارت قصتنا مكررة وتتشابه بداياتها ونهاياتها هنا وهناك: في العراق، سورية، فلسطين، اليمن، لبنان، السودان؟ أهو الحنين إلى ماضي ما قبل الحروب إذ يعود يطل علينا بلا كلل؟ أهي بشاعات الحرب وهجرات المكلومين ودموعهم إذن أيضاً تحتل نصاً جديداً؟ هذه المرة، ومرة بعد مرة، عن الجرح العراقي الممتد منذ أوائل الثمانينات والحرب مع إيران وحتى اللحظة، وما بينهما من حروب أدمت البلد وناسه وبعثرتهم وسحقت أرواحهم وغيرت «ساعتهم» الواحدة إلى ساعات. كلما طال أمد الجرح وزاد التأمل فيه خرجت منه قصص تُعيد إدهاشنا، كأنما نراه لأول مرة، كما نراه في نص شهد الراوي، كأنما تستعيد أفواهنا مراراته التي جرحت حلوقنا في السابق بطعم أكثر مرارة مع النص الجديد.

ماذا ستقول شهد الراوي عن أمدية تلك الحروب وخيباتها وخباياها في صدور الناس غير ما قيل؟ أي إطلالة من إطلالات الجرح سوف تختار أن تقف عندها وتكتب: أي صفحة حزن ستعيد قراءتها علينا، أي دفقة دم ستلاحق انبثاقها وتبعث حرارتها في وجوه ذاكرتنا، أي طفل يتيم ستهدهد وتُسمعنا بكاءه الدامي، أي قصف مبكر لعمر شاب في عمر الريحان ستتحسر عليه معنا، أو أي انطفاء في قلب مراهقة تشع روحها كالنجم تصحبنا الكاتبة إلى انكسار أحلامها؟

صناعة الناس

لا نكتشف روعة الرتابة وعبقرية جمالها وعمق روحها الصافية إلا عندما تضربها الحرب ونخسرها. تصبح الرتابة والماضي إلى حضنها الفردوس المفقود والمُشتهى والمبكي عليه. ما يضيف على «محلة» شهد الراوي جمالاً من نوع مميز هو كونها مرسومة بريشة الساردة ونادية، وشلة من البنات والأولاد في عمرهن، فبدت طفولية الملامح، صريحة وأحلامها بيضاء. الساردة ونادية صديقتان منذ الوعي الأول الذي تفتق للمفارقة في «الملجأ الكوكنكريتي» خلال حرب الخليج الثانية عام 1991. أيام الملجأ تلك وعلى الخوف الرابض في دقائقها والموت المحيط بها صهرت علاقة البنتين وصارتا كأنهما روح واحدة.

نادية تحلم كثيراً وتحلم أحلاماً جميلة. أما الساردة فلا تحلم، لكنها تدخل في أحلام نادية وتصير جزءاً منها. تنقضي السنين وتمضي بالبنات إلى مرحلة الثانوية ومعها كانت الحرب التي تحولت إلى سنوات حصار طويل بعثرت اخضرار «المحلة» وفرضت عليه يباساً ظل يمتد بالتدريج إلى أن وصل بيوت الناس وأرواحهم، وحول حياتهم إلى ضنك وخذلان وحيرة، والأكثر ألماً من ذلك كله إلى هجرة متواصلة. الساردة ونادية تواصلان الحياة رغم انتشار اليباب في «المحلة» وهجرة العائلات المتواصلة، وهرم عمو شوكت الذي تركته زوجته وغادرت إلى الشمال. رفض عمو شوكت مرافقة زوجته وأصر على البقاء في «المحلة» رغم تقاعده وإحساسه المريع بالفراغ، تفرغ لرعاية البيوت المقفلة وذكرياتها الحلوة، وهي التي هاجر أصحابها إلى الخارج هرباً من الحصار وكانت أعدادها تزداد كل يوم. بدا عليه الهرم سريعاً كما هرمت بسرعة روح «المحلة» وطالت لحيته وسكوته، واستحق وصف «حارس مقبرة الذكريات».

تعشق الساردة ونادية وبيداء ومروة وكل البنات أغاني كاظم الساهر وحاتم العراقي ومهند محسن وهيثم يوسف ورائد جورج. يذهبن إلى المدرسة نفسها، يمشين في الشوارع ذاتها، وتتقابل الساردة ونادية مع فاروق وأحمد في حديقة ساعة بغداد. هناك، ورغم الحصار، كانت أشجار الحديقة تميل لتخبئ وتحضن العشاق اليافعين وتكتب أسرارهم. هناك وفي ظل الساعة التي عشقتها البنات تخلّدت أشياء كثيرة وكانت عقاربها تشير إلى زمن غامض. هناك أيضاً ظلت وانزرعت أجزاء من قلوبهم جميعاً، وهناك مُهر وعد العشاق بالبقاء معاً إلى الأبد. الساعة المحبوبة صاحبة الوقت الواحد شهدت خجل القبلات اليتيمة، السريعة والمُختلسة، احمرار الخدود الصغيرة، وخفقان القلوب وتماسها مع السحاب في لحظة الخوف والرغبة والانخلاع من الحصار. الساعة الحنونة ظلت تنتصب على برج عال ولها أربعة وجوه يمكن لأي كان أن يرى الوقت حيث كان، وفي الوقت نفسه لا تبوح بالأسرار.

حياة هؤلاء البنات جزيرة منفصلة عن الحصار ودمويته وقتله البطيء للبشر، فيها قوة سرمدية اسمها الحب تُبقي هذه القلوب مُتفتحة. لكن قرارات أهاليهن المُتتابعة بالهجرة تسقط كالنيازك الحارقة في قلب جزيرتهن الوادعة. واحدة تلو الأخرى تهاجر البنات مع أهاليهن، كما هاجر مئات ألوف العراقيين. قبل التشظي الأخير وتفرق الساردة ونادية وبيداء... يقررن حفظ «المحلة» وماضيها وذكرياتها وأسماء سكانها وألوان شوارعها وأشكال بيوتها وكل ما له علاقة بها ويكتبنه في سجل خاص، أطلقن عليه عنواناً محبباً لقلوبهن: «ساعة بغداد– سجل المحلة».

كل منهن كتبت فيه كل ما تعرفه من أشياء جميلة وغير جميلة، من عادي الحياة في «المحلة»، وجمالها ويومياتها، حتى التفاصيل. لكن «المحلة» لم يكن أهلها ملائكة، وهذا ما أقرته البنات وقررن أيضاً تسجيله: هيفاء التي تزوجها أسامة عن حب صبرت على تحوله الكبير بعد سنوات من الزواج وإنجابين، حين صار يعود إلى البيت ثملاً ويشرع في تحطيم الأثاث. أسامة العاقل المجتهد في عمله فقد كل شيء تدريجاً مع توغل الحصار، وشارف الجنون، وأهمل زوجته وأبناءه. هيفاء تركته وثارت على حياتها والقت بنفسها في حضن شاب وسيم ظهر في حياتها وعشقها.

في «المحلة» كان هناك أيضاً حسام الذي كشف أن شقيقته المراهقة ميادة عشقت من أراد خطبتها، فقتلها وهرب إلى الأردن، لكنه عاد بعد سقوط بغداد ودخول الأميركيين وقد استطالت لحيته، ووضع يده على البيوت التي هاجر منها أصحابها. بعد سقوط بغداد صارت مروة صديقتهن اللصيقة تعمل مترجمة للجــيش الأميركي. «المحلة» فيها كل شيء، فيها بشر عاديون، لكنها كانت الفردوس الرتيب، الماضي المُرتب، الذي لم تُكتشف روعته إلا عندما حل المستقبل الثقيل بسواده.

كلما توغل نص الرواية إلى الأمام، نحو مستقبل قاتم سوف يلد حرب 2003 الطاحنة والمدمرة للعراق، صار الماضي حيث كانت «المحلة» ورتابتها، وما قد يبدو من ملل على حوادثها وحياتها الصغيرة كأنه المستقبل المشرق غير المنتظر. منذ أن ولدت الساردة خلال الحرب مع إيران وحتى الآن ومستقبل العراق يتوغل في الجرح. في الواقع لم يكن ذلك مستقبلاً أساساً، كما تقول شهد الراوي، بل ماضياً يندفع إلى الأمام يلتهم المستقبل ويمضغه ويلفظه ولا يترك فيه فسحة لأمل. لكن الماضي الذي يصير حاضراً ومستقبلاً هو ماضي الملجأ والحصار والحروب، ما يتركه الماضي خلفه هو ذكرياتنا اللذيذة والحلوة، كأنه يتخفف منها ولا يأتي ليحتل المستقبل سوى في الوجه البشع منه. في التلاعب بالزمن بين ماضٍ وحاضر ومستقبل تقود الكاتبة النص إلى ذروة مُدهشة تبدد أي إحساس أولي خادع بقصة «الرتابة».

القسم الثاني من الرواية حمل عنوان «المستقبل» وهو أقصر بكثير من القسم الأول الذي جاء بعنوان «طفولة الأشياء الواضحة»، و «المستقبل» قصير وهامشي مقارنة بالماضي المستمر والطاغي. وجاء هذا المستقبل على شكل إضافات في «سجل المحلة» سجلته بيداء، وفيه ومن خلاله أبدعت شهد الراوي في إسالة الزمن ومحو الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل... ما وقع وما ظل حبيس الغيب. تصاعدت الرواية من بطء الحياة الرتيبة إلى ذروة مستقبل لم يكن سوى الماضي الذي صار صاخباً بالتشظي والوجع والشتات. صارت «ساعة بغداد» ذات الوقت الواحد تدق بأوقات وأزمان عديدة، يراها المختلفون من زوايا مختلفة ويرون الزمن فيها مختلفاً.

بغداد بعد الحرب صارت بغدادات وساعتها صارت ساعات، وناسها صاروا لا يعرفون بعضهم بعضاً: منهم من صار زمنه التاريخ فدخله وعاد منه مُعمماً بهذا التفسير أو ذاك، مُمتطياً قنبلة أو دبابة أو مسدساً ليقضي على الأزمنة الأخرى، ومنهم من صار زمنه الهجرة فولج فيها وما عاد، ومنهم من توقف زمنه عند «المحلة» بجمالها وتعددها المُنقضي، ومنهم من انشطر بين الأزمنة. بغداد المكان و «المحلة» المكان و «ساعة بغداد» المكان كلها لا تزال في مكانها، زمنها وأزمنتها هي التي سالت فاختلط الماضي بالحاضر واندلقا على المستقبل يريدان خنقه.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)