ساعة التخلي، عباس بيضون (لبنان)، رواية Abbas Beydoun, Liban, Roman

, بقلم محمد بكري


 مقال جريدة الدستور الأردنية


جريدة الدستور الأردنية


التاريخ : 10-07-2013
جريدة الدستور الأردنية
عمان ـ الدستور


«ساعة التخلي» لعباس بيضون.. حرب الاخوة وكشف المخبوء


يعود الروائي اللبناني عباس بيضون في روايته «ساعة التخلي» إلى مرحلة مفصلية هامة في تاريخ لبنان الحديث، وهي المرحلة التي شهدت دخول الجيش الإسرائيلي إلى لبنان وانسحاب المنظمات الفلسطينية نحو العاصمة، مما أدى إلى إحداث شرخ في العلاقة المكانية من جهة، والعلاقات الاجتماعية والحزبية والسياسية من جهة أخرى.

يقارب بيضون في روايته الصادرة عن «دار الساقي» في بيروت مرحلة مترعة بالمتناقضات، يكون التخبط سمتها البارزة، من مختلف الأطراف، ذلك أن الانسحاب الذي أفسح المجال لقوى ناشئة تهيمن على الساحة مؤقّتا بارتجالية، وبنوع من الطفولية الثورية التي تضر أكثر مما تنفع.

أمام تلك الحالة المعقدة يجد عدد من الأصدقاء المتنورين اليساريين أنفسهم في مواجهة واقع مؤلم، يعدمون وسائل تغييره، وهم الذين كانوا مسكونين بأوهام كبرى لتغيير العالم. يتخبطون في تحليلاتهم ورؤاهم وتحبطهم قرارات قادتهم، يتغلغل إليهم التشكيك ويجدون أنفسهم في مواجهة مفتوحة مع أنفسهم وبين بعضهم وبعض.

تحدّ الوقائع التي تجري بوتائر متسارعة من طاقاتِِِ الأفراد وإمكاناتهم، تشتتهم في دواخلهم، وتدفعهم إلى هاوية الفتنة واليأس والتنازع والاختلاف. تبرز جماعة متطرّفة تطلق على نفسها اسم «اليقظة»، تفرض بقوة السلاح سيطرتها على الشوارع، وتدور رحى حرب وفتن داخلية أشد شراسة وإيذاء من العدو نفسه.

يقسم بيضون روايته إلى قسمين، القسم الأول يسميه حصارا، والثاني يسميه تقاطعات.

لا يقتصر اشتغال بيضون على التنويع في مستويات السرد، بل يعتمد تنويعا آخر، وهو التنويع في الخطاب، إذ إن الساردين الذين ينهضون بأدوارهم، يمارسون في الوقت نفسه سلطة الخطاب أيضا، لا يكتفون بالتعبير عن هواجسهم الشخصية، بل يكون كل واحد منهم الناطق باسم فئة أو شريحة، وهنا يكون التلاقي والتنافر بين المخاطبين، كل منهم يستهدف شريحة مجتمعيّة بعينها.

عن موقع جريدة الدستور الأردنية


يمنع النقل أو الاقتباس من أخبار الدستور الخاصة الا بموافقة مسبقة من الصحيفة
اما فيما يتعلق بالمقالات فلا مانع من اعادة النشر شريطة الإشارة الى المصدر (جريدة الدستور)



 مقال جريدة السفير اللبنانية


جريدة السفير اللبنانية

جريدة السفير
الثلاثاء 18 كانون الثاني / يناير 2013 - العدد : 12384
مازن معروف


"ساعة التخلي" لعباس بيضون: توزيع الحدث عبر الأصوات


تطالعك رواية عباس بيضون بذلك المزيج من خصوصية السرد والسيطرة على الأحداث، وضبطه الإيقاعات، ورفع اللغة أو دفعها إلى خفة أكثر، بحسب مقتضيات مناخات الرواية. خصوبة السرد لا تنفصل عن المعنى. والمعنى أو الماهية هي ما يبدو الدينامو الذي يبث الناشط في جملته الروائية. عباس بيضون يبتعد في عمله الجديد “ساعة التخلي” (دار الساقي) عن مزوقات اللغة أو المبالغة في مجازياتها، متحيزاً هذه المرة إلى سلاسة سردية تحكم قبضتها على مغزى العمل وتفسح المجال للقارئ ليتبين جهد بيضون في أسلوب صياغة عمله. إنها ببساطة لغة أنيقة، وموظّفة لتؤطر الشخصيات بحرفة، وتقدم حتى اللحظات الأخيرة من العمل ملامح عن شخصياتها، تبقينا على سكة التحولات.

الشاعر هنا، يخلع صورته بالكامل، دافعاً إياها كي لا تتدخل في الرواية، متكلاً على تفخيم العبارات بالمعنى، أو كما يبدو لنا، أيضاً بالرمز. تحافظ اللغة على تصوير اشتباكات الواقع والإيديولوجيا (الشيوعية تحديداً) والتنقل بين الحاجة الانسانية، أو العاطفية، والفروض “الأخلاقية” سواء باسم الصداقة، أم الدين أم الإيديولوجيا أم الحب. عباس بيضون يضع شخوص الرواية منذ البداية أمام مأزق سياسي عظيم (لحظة الاجتياح الاسرائيلي). مقابل ذلك، يفتح الشخصيات من الداخل على مآزقها النفسية والاجتماعية والجنسية والقيمية والسياسية كذلك. إنها رواية اللحظة المشرّعة على أصوات لتفسرها وتناقشها بوصفها معلّباً للحدث.

تجريب

بيضون رتّب شخوصه في الرواية بحيث أوقف كلا منهم في زاوية أو مستوى أو “وضعٍ” ما، وطالبه بأن يبوح، ويعترف بانكساراته الصغيرة، والمطوية أمام “الواجب” الاخلاقي للدفاع عن الوطن. أسلوبيته هذه في تقسيم السرد، وتوزيعه، رفعا العمل إلى مصافٍ تجريبية في الرواية. فالشخصيات مولودة، لتروي أقساماً من بيوغرافياتها، مقتطعة بحسب اللحظة وهوية الحدث (سياسي، اجتماعي، عاطفي). وأصوات الشخصيات الأربع الأساسية، ومجالاتها الفكرية أو مساراتها الحياتية هي ما يحفر في أساسات الرواية لتعميقها أو تفعيلها أو تحريكها. فالعمل مفصّل إلى أجزاء كل منها مُعَنون بلسان شخصية ما (فواز أسعد، نديم السيد، بيار مدور، صلاح السايس). بحيث أن الانتقال من عنوان/ شخصية، إلى آخر، يمنح القارئ متتالية من الصور التي تبدو وكأن كلا منها تقلبت بأوضاع مختلفة في أيدينا بحسب توترها، وظرفها الخارجي لا النفسي فقط. وهكذا، تُحقن الرواية بديناميكيا الشخوص والمسافات التي تنتهجها من بعضها البعض جغرافياً وعاطفياً ونفسياً أو موقفها العام. ويسيطر عليها عباس بيضون كصوت روائي يطوف بين أربع شخصيات رئيسة (وشخصيتين ملحقتين في النهاية)، موزعاً المعنى بينها. بذلك يُنثر على امتداد الصفحات توتر الشخصيات، وسلوكها وردات أفعالها واستكاناتها الضرورية.

في “ساعة التخلي”، تتوخى الجملة والحوارات المعنى قبل أن تتوخى الصورة. ونوضع رهن الاشكاليات التي تصنعها حالة لبنانية - فلسطينية لحظة اجتياح القوات الاسرائيلية للجنوب اللبناني (بلدة محاصرة بالاسرائيليين/ انسحاب المنظمات الفلسطينية/ تشكّل زمرة مسلحة للـ"مقاومة" أثر ذلك). وهي اشكاليات تتعلق بكيفية الصراع مع اسرائيل وتدخل في مساءلات وجودية وفردية. تقبع الذات المهشمة، بدرجة من الدرجات، تحت غطاء ايديولوجي يمثل بدوره حماية “واهية” لها، وحاجة في الوقت عينه. سواء كان ذلك نظرياً يسارياً أو خرافة اجتماعية أو شأناً دينياً. فالبيئة المرسومة (في القسم الأول من الرواية) تتماهى مع صورة الواقع اللبناني الحديث، إذ يبقى الغموض سيداً والعتبة ملجأ، ويناور الجميع بين التملص أو الانخراط في مقاومة العدو، وتتشكل دوماً شروط نوعية موقتة، تتمخض على أساسها توجهات ووجهات نظر، وانعطافات تاريخية حادة وصغيرة، إلا أنها تنجدل ببعضها في نهاية الأمر لتشكل عقدة سوسيولوجية ونفسية تصيب الشخصيات.

الذاكرة

الرواية ارتداد متمهل عن الذاكرة، عن شطرها الأكثر إحراجاً، وعن الحدث الطارئ الذي يتكثف بسرعة ليستحيل غموضاً. تترك ثغرة في كل جزء من الرواية، ومن ثم تملأ بالقطعة المفقودة في جزء لاحق. الأمر أشبه بسد لوحة بحجارات الأحاجي. خيبات تتشابك واحتجاجات تتقاطع كصدى لانكسارات متعددة وقديمة. والحدث الروائي يصبح الوسيط بين صوت الروائي، أو “ضميره” الثابت والبعيد، وبين ضمائر الشخصيات وتشتتها. استرجاع الظرف السياسي هنا يبدو حجة للدخول في اشكاليات ميتافيزيقية ووجودية، قيمة الفرد، وواجب الجماعة الاحتفاظ بهذه القيمة، ومناورتها بالسبب لرفعها، والتشبث بها كخشبة خلاص أخيرة في الحرب. وتستبطن نقداً سياسياً لمرحلة لم تطو تماماً ولم يتمخض عنها إلا مزيد من الشوائب. يطرح بيضون في متتالية نقدية، إشكاليات ومساءلات تتعلق بالتاريخ، الاشتراكية، الدين، الممارسة والتماس مع أنظمة فكرية أخرى، ومدى انعكاس هذا الفكر على الحياة اليومية، ودرجات تجذره في الوعي. وتقف الحوارات عند مسميات الصراع اللبناني - اللبناني، وتطرح مقاربات اشتراكية للدين والأثر الميتافيزيقي أو المادي في حياة الاشخاص.

يقفل عباس بيضون الزمن والمكان، من دون أن يحددهما صراحة. وبهذا فإنه يصنع البيئة التي تسمح له، داخل الرواية، بأن يجس نبض المجتمع “المعزول”، والمتفاعل مع كابوس ذاته، والمتشظي كخلايا تذهب في اتجاهات مختلفة وترتطم بالظرف السياسي الذي يمثل الحدود العليا التي لا يمكن تخطيها، قبل أن ترتد وتصطدم مرة أخرى بنفسها. تتالي الاصطدامات هذا، والصدامات الفكرية والايديولوجية والاندهاشات، تسهم في تفعيل الرواية، وتركيز حواراتها، وفي خصبها. بذلك يتمم حصاره للسينوغرافيا ويحدد تطوراتها وانسلاخاتها داخل جلدها نفسه، وبناء على الحدث. التاريخ يصبح هو المرجعية الأولى للحظة، بمعنى أن كل مقياس لحركة الزمن، يقاس بساعة الحدث نفسه لا بساعة الوقت. أما في القسم الثاني، فتتفسخ المسافة بين الشخصيات والحدث الرئيس، بمعنى ان الروائي يباعد كل شخصية نحو ماضيها وبيوغرافيتها وتأثير خصوصية العائلة في تحولها إلى الشيوعية، ثم يضعها مجدداً في قلب اللحظة الما بعد الحدث الرئيس. الزمن يتجمد في كتل، أو شرائط لا تتصل ببعضها إلا عبر الواقع المستجد. وفي الواقع هذا، يكمن الحدث ويكمن الفراغ أيضاً، ومن هناك يتولد التذبذب والتوتر وتنشط علامات الاستفهام.

الشخصيات تراوح بين أزمات وخسائر سياسية وإيديولوجية وأزمات نفسية عاطفية تحديداً. ما يصنع إطارين متداخلين للشخص، ومستويين من الصوت. المداخلات العقلانية للشخصيات، تثبِّت صورها جيداً وتمسك بأطرافها داخل النسيج الروائي، وبيضون لا يغالي في إظهار جانبها المكسور بفجاجة، بل أن انكساراتها تتكشّف بسرعات تحاكي تبدل إيقاعات السرد في العمل. كل ما يصبح جزءاً من الواقع يصب في خزان الأصوات (منال حسون التي تقترن بنديم السيد/ عدنان قاطرجي صديق صلاح السايس) وهي الأصوات التي تعاين الأصوات الرئيسة، وتضعها على شاريو التشريح، وتستطيع إعادة رسم ملامحها ونبش ترسباتها القديمة، ودفعها أكثر نحو الوهم، وتنتهي بتمزقات هذه الشبكة الصغيرة من الأصدقاء واختناقها في براغماتية أو عدمية بطريقة ما.

عن موقع جريدة السفير اللبنانية


صدر العدد الأول من جريدة السفير في 26 آذار 1974، وكانت ولا تزال تحمل شعاري “صوت الذين لا صوت لهم” و “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
اليوم، وبفضل تقنيات الاتصال الحديثة والإنترنت، تخطت السفير مصاعب الرقابة والتكاليف الباهظة للطباعة في الخارج وتمكنت من الوصول إلى قرائها في القارات الخمس.
تتضمن صفحات السفير الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
وتتولى تغطية الأحداث اليومية مجموعة صحفيو السفير ومراسلوها في واشنطن وباريس ولندن والقاهرة وفلسطين ودمشق وعمان وموسكو وروما وبون، مستعينون كذلك بالخدمات الإخبارية التي توفرها وكالات الأنباء العالمية.
لقراءة المزيد



 مقال جريدة الأخبار اللبنانية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ١٩٠٦ الثلاثاء ١٥ كانون الثاني / يناير ٢٠١٣
جريدة الأخبار
ادب وفنون


عباس بيضون: «ساعة التخلي» عن السيرة


دخل الشاعر اللبناني المتفرّد إلى نادي الروائيين المحترفين. عمله الجديد (دار الساقي) يجري في ملعب سردي آخر، حيث الشخصيات والأحداث خاضعة لتقنية تعدّد الأصوات على خلفية الاجتياح الإسرائيلي عام 1978.

حسين بن حمزة

في روايته «ساعة التخلّي» (الساقي)، يتجاهل عباس بيضون استثمار سيرته الذاتية. لا تحضر شذراتٌ ووقائع حقيقية منها كما كان الحال في روايتيه «مرايا فرانكنشتاين» و«ألبوم الخسارة». يغيب الشخصي والمتذكَّر في روايته الجديدة، ويبدو صاحبها كما لو أنّه قرر مواجهة القارئ عارياً من السيرة التي كانت (مع النبرة التي كُتبت بها) سلاحه السردي الأكثر فتكاً وإدهاشاً. ها هو إذن «يتخلى» عن سيرته التي احتسبها كثيرون استثماراً روائياً مضموناً وآمناً. مفردة «التخلّي» الموجودة في العنوان يمكن سحبها على النص كله. لقد تخلى صاحب «تحليل دم» طواعية عن «شبكة الأمان» التي وفَّرتها سيرته، وانتقل إلى ملعبٍ غير ذاك الذي برع فيه.

لم تعد لعباس بيضون علاقة مباشرة بروايته الجديدة، لكن ذلك لم يمنعه من كتابة رواية متماسكة ومقنعة. لقد غامر باختراع رواية كاملة، ونجح في ذلك، لولا أنّ هذا النجاح يبدو مفتقداً أحياناً لتلك التفاصيل الصغيرة والحميمة التي قرأناها في روايتيه السابقتين. لا نريد من الرواية أن تكون مدونةً أبديةً للسيرة الذاتية طبعاً، ولكن غياب السيرة غيَّب معه فكرة أن تتألف الرواية من تفاصيل وحوادث ونثريات لا من تقنيات أسلوبية ومخططات سردية. هناك بناء قوي للشخصيات الرئيسية الأربع في الرواية، وذكاء لافت في ربط علاقات هذه الشخصيات التي تعيش في مدينة جنوبية (صور)، مع زمن الرواية الذي يبدأ بالاجتياح الإسرائيلي عام 1978. تنجو المدينة حين تسحب التنظيمات الفلسطينية مقاتليها تفادياً لمعركة غير متكافئة، بينما تظهر جماعة دينية باسم «اليقظة» الدينية كبديل محلي في حال دخل الإسرائيليون إلى المدينة. نكاد لا نجد عيباً ولو صغيراً في بناء الرواية. لا يمنحنا بيضون حجةً قوية ننتقد بها عالم روايته. المؤلِّف هنا هو مثل شخصية «نديم السيد» الذي يصفه «بيار مدور» بـ«اللاعب الرائع» الذي يعمِّر «فكرة على فكرة، جملة على جملة، وبالطبع هناك سرعة ومهارة وحذق في العمار». الرواية مصنوعة من هذه المهارة تقريباً. لم يغامر الشاعر المتفرد النبرة بين أبناء جيله باختراع رواية كاملة فحسب، بل اشتغل على فكرة أن يكون السرد مروياً بتقنية الأصوات المتعددة، وقسّم الرواية إلى قسمين، حمل الأول عنوان «حصار»، وتناوب فيه أبطاله الأربعة على رواية الحدث وارتداداته، بينما حمل القسم الثاني عنوان «تقاطعات»، وتكفّل فيه المؤلف بتظهير تفاصيل ملموسة أكثر في سِيَر هؤلاء الأبطال ومآلاتهم. القارئ الذي (قد) تربكه سرعة تناوب الأربعة على الحدث، واختزال التعريف بهم في الصفحات الأولى، سيجد استرخاءً سردياً أكبر في الصفحات الأخيرة إلى درجة يمكن معها المجازفة بالقول إن الرواية تعثر على نفسها أخيراً بعد انشغالها بالجوانب الإجرائية لتقنية تعدّد الرواة. هكذا، يصبح الرواة الأربعة أكثر قرباً من القارئ. يصبحون من لحم ودم كما يقال، بعدما انشغل المؤلف في توصيفهم وحصرهم داخل هذه التوصيفات، حيث يمكن إضافة «عدمية» فواز أسعد والتزمّت الشيوعي لصلاح السايس، إلى نديم السيد لاعب الأفكار والكلمات الذي يتجنّب رغبة بيار مدور المثلي جنسياً فيه. توصيفات تكاد تتحول إلى حلبة ضيقة لتبادل الأفكار وصياغة خلاصات سردية سريعة، قبل أن يحمل القسم الثاني أنباءً سارّة عن «بشرية» ثلاثة من هؤلاء، بينما لا يحظى المثليّ بيار بفرصة مماثلة. هكذا، سيتزوج نديم من منال حسون (التي ستحظى بفصل خاص بها)، ويموت بتشمّع الكبد إثر طلاقه وإدمانه على الكحول، بينما يهاجر بيار إلى كندا ويعثر هناك على بديل لمحبوبه نديم. في المقابل، يتضاءل حضور فواز الذي يواصل حياته في المدينة الجنوبية بعد انتقال أصدقائه الثلاثة إلى بيروت، حيث يترقّى صلاح السايس ويصبح أميناً عاماً للحزب الشيوعي.
كأنّ عباس بيضون انتبه إلى الخلاصات السريعة التي فرضتها تقنية الأصوات عليه، فحرَّر نبرته منها، وبدأ بتصديع شخصياته، وخلق شقوق وتشوشات في سِيَرها. التصدّع الأبرز حدث في العلاقة الجنسية بين صلاح والخادمة سلوى، بينما نسي المؤلف توسيع حضور بيار أو تحريره على الأقل من سجن ميوله الجنسية المثلية، إذْ لا يُعقل أن يُحصر داخل هذه الميول طوال الرواية، وأن لا يخوض مغامرة جنسية (عابرة مثلاً) أثناء انتظاره لتجاوبٍ مستحيل من صديقه نديم.
لعل ملاحظاتٍ مثل هذه تبدو بلا وجاهة أمام مهارة عباس بيضون الهائلة في كتابة رواية تشبه ما يكتبه المحترفون في هذا الفن. لقد امتدحنا شعرية عباس في دواوينه، وامتدحنا استثماره لسيرته في روايتين، وبات عليه أن يتلقّى هذا النوع من الملاحظات طالما أنه صار روائياً كاملاً، وليس شاعراً يجرّب حظه في الرواية.

عن موقع جريدة الأخبار


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 مقال جريدة الحياة اللندنية


جريدة الحياة


الأحد ١٣ كانون الثاني / يناير ٢٠١٣
جريدة الحياة
رشا الاطرش


رواية تبدأ في منتصفها... هكذا، يطلق عباس بيضون سرده فجأة. كأنه قرر، في القسم الثاني من «ساعة التخلّي» (دار الساقي)، أن يجعل للشخصيات حيوات وعوالم، أي أن يجعل منها أناساً بأن يمنحها استدارات وقصصاً كان قد حجبها عنها في القسم الأول لصالح التاريخ – بطله الأصلي وحكايته المطلقة. ليس التاريخ بمعناه الماركسي، أو لعله بالضبط تمرّد بيضون على ذلك المعنى الماركسي... بنقائضه، وبمفرداته أيضاً. التاريخ بما هو ذاكرة، بل ذكريات، تُروى بالـ «أنا» على ألسنة الرفاق اليساريين، صلاح ونديم وفواز وبيار، في مدينـــة متــاخمة للشريط الحـــدودي الجنوبي عشـــية الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982.

الذاكرة بما هـــي خـــصوصية وذاتية لحـــدث واحد لا يعود هو ذاته، إذ يُقدّم كمجموعة سِيَر، كفرديّات. صراع الرؤى على المرئي السياسي، السياسي وحده تقريباً، الذي يثبّته الكاتب عمود روايته وجناحيها. أما الحكّاؤون فليسوا سوى فضاء رباعي الأبعاد تحلّق فيه تلك المرويّة.

هي لعبة عباس بيضون، حِرفة الشاعر والناقد. وفي خلال ما يلعب، تلتمع أفكار، وتتراكم التمارين الذهنية طبقاتٍ يستِّفها استنطاق الشخصيات الأربع، لحظة انسحاب المقاتلين الفلسطينيين واستحواذ «تنظيم اليقظة» الإسلامي على المدينة بدعوى الدفاع عنها ضدّ الغزاة. هي لحظة يمدّها بيضون في عشرات الصفحات، ويتمطّى فيها التخلّي بأشكاله: التخلّي عن الحزب، عن القضية المركزية، عن الأب أو الآخر أو الحليف، عن الأحلام دون القناعات، عن العقلانية كما الشغف الأعمى، التخلّي عن الحب، وأحياناً عن الذات. وعلى رغم تباينات الرفاق (صلاح الكادر الشيوعي والحزبي المنضبط، نديم المتحذلق الوسيم، فواز الثوري اللائق، وبيار المثلي جنسياً)، قد تبدو أصواتهم تنويعات على نبرة واحدة، كمقام موسيقي ترندح به آلات أربع. ثمة مستوى ثقافي ووعي سياسي نقدي، يختار بيضون ألا ينزل عنه فيما يحكي بضمير هذا الرفيق أو ذاك، مُعنوناً كل فصل باسم شخصية تعيد سرد الحدث عينه من وجهة نظرها، مُسقطةً عليه حمولتها الخاصة وعُقدها. حتى من يصطفيهم، فيسمّيهم، من أهل المدينة وعناصر «اليقظة» واللاجئين الفلسطينيين، يستحيلون مطيّات روائية لصيف 1982. هكذا، يتبدّى صوت الكاتب مهيمناً، ويكرّس الحدث فروسيته التي لا ينازعه فيها أحد سوى الكاتب نفسه الذي قد يشعرك بأنه يصفّي حساباً قديماً مع اليسار اللبناني، ومع تاريخه المتقاطع وتاريخ المدينة الجنوبية. يقارع عقيدة دينية أو فكرية، ومعها حزبا وفوضوية وعنصرية وشوفينية وعدمية ونضالية. يسترجع ذلك كله ليعاود ترتيبه أو خربطته، مخترعاً نظامه الخاص الذي يشيّده على أنقاض النُّظُم المعروفة لوضع رواية.

ها هو صلاح السايس، الحزبي المطيع للقيادة وإن فاقها ثقافة وتبصّراً (لأن الحزب دائماً على حق!)، يروي نقاشه مع نديم السيد الذي لا يتجمّل في عينيه واقع الطائفية اللبنانية واقتتالها في خضم حرب أهلية. نديم الذي لا يؤمن بشيء سوى لا إيمانه بشيء، ويستمرئ المراوغة والخداع أسلوباً للحياة، مهنئاً نفسه على عودته منه سالماً كل مرة، حتى آخر يوم في عمره. أما صلاح، العقائدي حتى النخاع، الذي لا يني يحاول مصالحة الإسلام مع الاشتراكية أو حتى تزويجهما (كما كانت حال كتّاب ماركسيين كثيرين في تلك الفترة)، فيفتّش بصدق عمّا يجعل الصورة ذاتها تستوي في إطار الصراع الطبقي. ويقدّم صلاح أيضاً حواره مع فواز أسعد الذي انضوى في الحزب قبله وتركه «كأنه أنهى مدة خدمته وتقاعد أو تخرّج... لا يتكلّم عن الحزب ولا يكترث لأي من شؤونه، كان في الحزب منذ مراهقته وشبّ فيه لكنه غادره من دون أن يترك له أي ذكرى أو أثر».

وها هو فواز، يستمع إلى جاره الغاضب بعد ليلة من القصف الإسرائيلي تلت انسحاب الفصائل الفلسطينية، فلا يوفّر كلمة في حق الأخيرة على رغم أنه كان، قبل سنة، منخرطاً في إحداها. ويفكّر فواز: «هو الآن يقطر عصبية لبنانية وأنا، الذي احتفيت مثله بدخول المسلحين الفلســطينيين إلى جنوب لبنان، شكرتُ في سرّي (منظمة) فتح لأنها وفّرت معركة كهذه على البلدة. لكنني كنت أيضاً أسال نفسي، ما جدوى دفاعنا عن السلاح الفلسطيني إذا كنا نشكر لهم أنهم يغادرون في ساعة الصفر؟».

أما بيار مدور، فلعلّه الوحيد المؤنسن منذ البداية، سبق في ذلك رفاقه الذين يُحصرون في كونهم «حيوانات سياسية» (وفق التعبير السوسيولوجي)، ولا يظهرون كبشر ذوي ماضٍ وحاضر وملامح حتى تشرف «ساعة التخلّي» على نهايتها. ربما لأن المثلية الجنسية لبيار ظِلُّه الوحيد، هو الذي لا يعتنق السياسة مثلهم، وهم الذين أرادها لهم بيضون كينونات. حتى التنــظيم الإسلامي الذي انتشر في المدينة، مقيماً في شوارعها الحواجز ومربكاً أحاديث أصدقائه بالإيديولوجيا والعسكرة الجديدة، يتفاعل معه بيار على نحو يشبهه: «أحب شبان اليقظة. خالد، صفوان، أمين، أحبهم. لا تهمني أفكارهم السياسية، يهمني أنهم مستعدون للقتال في سبيلها، هذه درجة من الحب تعصر قلبي. أراهم شهداء جميلين، ملائكة على الأرض، شُهُباً ساقطة. أحبهم. كم هم جميلون، كأن تنظيمهم فرقة للجمال». والحال إن جُملة بيضون لم تخنه شاعراً ومثقفاً منشغلاً بالأفكار. الأرجح أنه استقوى بها على الرواية. وكل فكرة يرميها في حضن قارئه، يرمي معها عُدّة تفكيكها، كأنما ليلاعبه ويتواطأ معه ويُحرجه في آن. الصراع آنذاك، لبنانياً – إسرائيلياً ولبنانياً داخلياً وفردياً كامناً، يحضر عابراً للحدود، ومســـتعراً في حدود، كما يريده الكاتب اليوم.

الشاعر روائياً... بعد اكتمال القصيدة

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)