روايات مترجمة

سارق الجثث، باتريسيا ميلو (البرازيل)، رواية ترجمة هبة ربيع - دار العربي للنشر والتوزيع - 2016

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 07-05-2016، العدد : 10268، ص(16)
الصفحة : ثقافة
العرب - عمار المأمون


حكاية بوليسية عن جثة سقطت من السماء


لا يمكن التنبؤ بمن يمكن أن يكون المجرم التالي بين من هم حولنا، ملامحهم تشبهنا، كلماتهم، أفعالهم، لحظة التحول واختراق القانون للمنفعة الشخصية لا يمكن رصدها بدقة، قد تكون حدثا يوميا أو جللا، فدراسات البنية العقلية للمجرم تسعى للتنميط وتحاول تجنب خصوصية كل حالة. لكن حقيقة، لا يوجد ما يثبت كيف يمكن لأحدهم أن يصبح مجرما، هذا الهوس بغموض العقلية الإجرامية يعتبر مادة أدبية تكثر الروايات حولها، ففعل القتل أو مخالفة القانون من أكثر الموضوعات التي تم طرحها في الأدب وتنوعت زوايا معالجتها من كاتب إلى آخر.

ترسم رواية “سارق الجثث”، للكاتبة البرازيلية باتريسيا ميلو، عوالم البرازيل الفقيرة والهامشية، إلى جانب تجارة المخدرات التي يمكن بسهولة الانقياد وراء غوايتها، كذلك البطش واللامبالاة المرتبطة بـ”المجرمين” ومهربي المخدرات، كما تصف عوالم الفساد في الدولة وسهولة فعل أي شيء طالما أن النقود متوافرة، فكل شيء يمكن شراؤه، حتى الجثة، والمشرحة والشرطة، الكل يمكن أن يوضع له ثمن، حيّا أو ميتًا.

لعبة المصادفة

يجد الراوي بوركو – كما يدعوه أحد مهربي المخدرات – نفسه وسط سلسلة من الأحداث التي يتورط فيها طمعا في المال والهروب من المسؤوليات، فالأخير الذي كان مستلقيًا تحت الشمس ينتهي به الأمر تاجرَ مخدرات ثم سارق جثث، ثم مجرمًا يبتزّ أسرة غنيّة مقابل جثة ابنها التي لا يمتلكها. هذه السلسلة من الأحداث والمصادفات ترسمها بحيوية، دون ثرثرة أو مجانية، الكاتبة البرازيليّة باتريسيا ميلو في روايتها “سارق الجثث”، التي صدرت هذا العام عن دار العربي للنشر والتوزيع، من ترجمة هبة ربيع.

يشهد بوركو مصادفة حادث تحطم طائرة، يركض نحوها وهي توشك على الغرق، هناك يجد جثة الطيار، يسرق ساعته، وحقيبته التي يكتشف فيها أكياسا من الكوكايين، لا يفكر بوركو كثيرًا، الكوكايين يعني النقود، أما الجثة فلن تكسب أو تخسر شيئا، لن يتغير شيء إن اختفى الكوكايين.

يقرر بوركو بعدها رهن الساعة وبيع الكوكايين كي يتابع حياته بعد أن طُرد من وظيفته كبائع عبر الهاتف لصفعه موظفة انتحرت بعد الصفعة، لكن – وكما تشير الرواية التي استمدت عنوانها من قصة روبيرت لويس ستيفنسون “سارق الجثث” التي تحكي عن بيع الجثث في لندن في القرن التاسع عشر- يجد بوركو نفسه أمام معضلة، لا بد من جثة جديدة، مختلفة عن تلك التي سقطت من السماء، والسبب هو النقود.

الطريق إلى الهاوية

خيانات، شمس حارقة، تجّار مخدرات ثم استرخاء في المياه، كل ذلك تحكمه تصورات بوركو عما فعله، هو لم يقتل أحدا، هذا ما يكرره دائما حتى أمام خطيبته.

بوركو وبعد تورطه أكثر في تجارة المخدرات يفرض عليه التاجر مبلغا كبيرا من النقود، لا بد من حل لهذه المشكلة، ونتيجة عمله بالمصادفة لدى أسرة الطيار/ الجثة، وبالتعاون مع خطيبته التي تعمل في المشرحة يدبر الاثنان وسيلة لابتزازها، أن تدفع الأسرة فدية مقابل جثة ابنها الميت، ومع ذلك يؤكد الاثنان دوما أمام نفسيهما أنهما لم يرتكبا أي جريمة، هما فقط يتحكمان في مصير من مات أصلاً، في مصير جثة لم تعد موجودة.

براءة الضحية

تتسلل ميلو لعقلية بوركو، هو ليس بقاتل، هو فقط يندفع وراء ما يراه مناسبا له ولأحلامه، هو خائن لخطيبته، والد لطفل غير شرعي، تاجر مخدرات، مُبتزّ لأسرة تتعذب، بل ويراقب عذاباتها عن قرب، فاسد وورّط خطيبه في الفساد، لكنه ليس بقاتل، حياة بوركو لا تحوي شيئا مميزا قبل هبوط الجثة من السماء، ومصيره مشابه لمصائر غيره، أناس مسحوقون، مهمشون، حيواتهم مجانية ومتشابهة، الجثة كانت التغيير الجذري في حياة بوركو، إلى درجة أنها غيرت اسمه، هو بوركو الآن، الذي يحاول ضبط نفسه في سبيل خلاصه الذاتي، كأن ما هبط من السماء ميتا هو خلاص للأرضي الحي.

مفاهيم الجريمة ومشاعر الآخرين لم تعد مهمة، المهم الخلاص بأقل أضرار ممكنة، حتى لو كان ذلك يعني توريط خطيبته وأسرتها في سبيل الحصول على جثة جديدة مقابل الفدية، فالجثة الأصليّة اختفت، أكلتها أسماك البيرانا أو جرفها التيار إلى حيث لا نعلم، لا يمكن تحديد مصيرها وأسرة الطيار اقتنعت بالحل البديل وأقامت مراسم دفن للجثة البديلة بعد أن دفعت الفدية ورفضت الفحوص الطبية للتأكد من أنهم يدفنون فعلاً ابنهم.

من جهة أخرى اكتُشف تورّط بوركو في عملية الابتزاز وتخطيطه لها، لكن ببساطة تم صرفه من عمله لدى الأسرة التي اكتشفت ما فعل، لنراه لاحقا يتابع حياته في مزرعة للبقر، ويستمتع بشمس البرازيل.

لم تكن لبوركو أحلام أو فانتازيات بأن يصبح فاحش الثراء، كان يبحث عن الاستقرار، حتى ضميره لم نره شديد الحضور، وخطيبته التي ما إن تجاوزت الصدمة حتى قامت بحساب أدق التفاصيل هي وإياه للقيام بعملية الابتزاز، ما أقدم عليه الاثنان هو جريمة بلا ضحايا، لا يوجد دافع أخلاقي ولا أسئلة كبرى تتعلق بالموت والحياة وقيمة الإنسان، هناك فقط أشخاص مسحوقون بوظائف بيروقراطية يسعون للخلاص في بلاد تسحقهم.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


تحميل الرواية بالـ Pdf

رابط آخر

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)