زياد الرحباني : عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة

, بقلم محمد بكري


 يوم كان كل شيء ممكناً...


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٧٩٠ الإثنين ١٨ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
زياد الرحباني: عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة
بيار أبي صعب


كم كانت خيبة السينمائية المصرية الشابة كبيرة، حين وصلت من القاهرة لتكتشف أن زياد الرحباني لن يعيد تقديم مسرحيته «بالنسبة لبكرا، شو؟»، كما شُبّه لها على فايسبوك اللعين.

هذه فرصة ذهبية لا تفوّت، فكرت، فقطعت تذكرتي سفر لها ولصديقها، وهرعا إلى بيروت! كلا للأسف عزيزتي، ما يمكنك مشاهدته هو شريط سينمائي، قائم على ترميم وثائق فيديو، صُوّرت على دفعات في النصف الثاني من السبعينيات، خلال عروض المسرحية الأسطوريّة التي نعرفها عن ظهر قلب، من خلال أشرطة كاسيت عبرت متاريس وخنادق وحدوداً... لكن خلافاً لبعض ما سمعتِه وقرأتِه ربّما من انتقادات وتنظيرات، هنا وهناك، منذ وصولك إلى مدينة الغرائب والعجائب، فإن الأمر يستحق بحد ذاته عناء السفر.

الفيلم الذي يشكّل مفاجأة حقيقية، ستشعل بيروت فور انطلاق الفيلم في الصالات التجارية، يبعث على الشاشة الكبيرة تلك اللحظات التي يخيل إلينا أننا عشناها في حياة أخرى. يحييها ويخلّدها ويضعها في تصرّف الأجيال القادمة. ويحتفي بعبقرية زياد الرحباني وموهبته، بوعيه النقدي وحسّه الشعبي وفطرته الكوميدية ومقدرته على توظيف اللغة والشخصيات والحبكة والحالات والسخرية لتفكيك الواقع وفضحه، في خدمة رؤية سياسية، استشرافية، متقدمة، ما أحوجنا إليها اليوم، في زمن الطاعون المذهبي، والاستلاب السياسي، وقاطعي الرؤوس. بعض الجمهور شاهد المسرحية حقاً، لكن معظمه لم يكن هنا، قبل 35 سنة، أو لم يتمكن من عبور خطوط التماس بين «الشرقية» و«الغربية». مع أن أغنيات زياد وكاسيتات مسرحياته واسكتشاته الإذاعية، كانت قد تفشت في «الغيتو الانعزالي» حسب مسميات المرحلة.

لا شك في أن المغامرة التي خاضها إيلي خوري، منتج فيلم «بالنسبة لبكرا، شو؟» وموزعه، تستحق تحية إعجاب، وتشكل درساً سياسياً وثقافياً. يوم قرر رجل الصورة والإعلانات وفنون التواصل أن يحصل على حقوق أشرطة فيديو عمرها عقود، في أرشيف زياد الرحباني، بهدف إحيائها، وإعادتها لجمهور لا يعرفها إلا من بعيد، فكر بعضهم أنه مجنون يهوى ركوب المخاطر. لكنّنا نفهم الآن أساس رهانه: لقد لعب ورقة الحنين ضدّ التكنولوجيا، وشعبيّة زياد الرحباني ضد تصدعات الزمن، وقدرة فنّه على مخاطبة الراهن من قلب ضباب الحرب الأهلية اللبنانية. إنه الفن كآلة لعبور الزمن، ومساءلة الوثيقة وترميمها، وبعثها الآن وهنا. الفيلم يعيد الاعتبار إلى الأرشيف بصفته مادة فنية. هكذا تصبح الهنات الطبيعية في الصوت والصورة من تشويش وغبش وصدى، وفقر حركات الكاميرا، وغياب التقطيع، وأخطاء الراكور... جزءاً من جمالية العمل وسحر أسلوبه، وتعبيراً عن «شعرية» المسافة. سيحب الناس الفيلم رغم المشاكل التقنية، بل بفضلها: المسرح الشعبي على خشبة «مسرح وسينما الأورلي» بالأمس البعيد، هو على الشاشة اليوم «المسرح الفقير» المتقشف الذي يأخذ إلى الجوهر.

وهذه التجربة الخاصة التي ستوحّد اللبنانيين، كما جمعت النقيضين إيلي خوري وزياد الرحباني، تسلّط الضوء على خطاب سياسي استشرافي، يبدو راهناً أكثر من أي وقت مضى. لقد تنبّأ زياد بالحريرية الاقتصادية سنوات قبل بروزها، وفضح «اقتصاد الكاباريه» الذي بنى عليه الرئيس الراحل فلسفة إعادة الإعمار الكارثيّة. «بلد ما فيه مواد أولية» قدره أن يتحول إلى ماخور لطيف للرساميل النفطية، وأن يجند طاقاته الإنتاجية في خدمتها. كيف نتلقى كل ذلك اليوم وقد أصبح لبنان مستنقعاً استهلاكياً، وازدادت غربة المثقفين والشعراء، و«هوت سنونوتهم على الرماد»، وبعنا كل شيء، وصرنا تحت رحمة اقتصاد الخدمات، ونمط الإنتاج الطفيلي الذي يختزله الناس إلى تسمية «الخليج»؟

في فيلم «بالنسبة لبكرا، شو؟» هناك أيضاً الحنين. قبعة جوزيف صقر الكولونيالية، وفتنة نبيلة زيتوني، وسالفاً فايق حميصي، وصوت بطرس فرح، واستدارة رفيق نجم، وطبعاً زياد بالبيريه والنظارتين واللحية. نحن اليوم في الـ «بكرا» الذي تسأل عنه ثريا طوال الوقت، وتلاحق به زوجها زكريا البارمان الشهير في «ساندي سناك»، في الحمرا، بيروت 1978: بكرا أسوأ مما توقعناه. المسرحية التي أثّرت في الوعي السياسي لجيل كامل، نستعيدها اليوم كأيقونة، كبوصلة، في الزمن النغل. زياد بيننا، شفيعنا، نسبق شخصياته، نردد حواراته كتعاويذ سحرية أو أدعية. نعود، بسحر ساحر، إلى تلك اللحظة التي كان فيها كل شيء ممكناً!

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 ترميم «بالنسبة لبكرا، شو؟»: الرهان الرابح


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٧٩٠ الإثنين ١٨ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
زياد الرحباني: عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة
محمد همدر



«بالنسبة لبكرا، شو؟» (1978 ــ كتابة وإخراج زياد الرحباني) المسرحية التي استمع إليها الناس لأكثر من 35 عاماً، تخرج إلى الشاشة في الصالات السينمائية، وشركة «ميركوري» تعلن عن مفاجأتها التالية، مع إعلان عن عرض مسرحية «فيلم أميركي طويل» قريباً.

ورغم أننا حفظناها عن ظهر قلب، كم مرّة ضحكنا من قلبنا مع زكريا (زياد الرحباني) ونجيب (رفيق نجم) حين يتكلمان هاتفياً مع رامز (جوزيف صقر) التائه عن الحمرا؟ كم مرة انفعلنا مع ثرّيا (نبيلة زيتوني) الخائفة من العودة إلى الفقر؟ وشعرنا بمرارة مع زوجها زكرّيا الذي يبرّر عمل زوجته «البرّاني» ويرفض الذهاب إلى الخليج؟ كم مرة بحثنا في خيالنا عن هذه الوجوه، وتساءلنا كيف جسّدت الشخصيات هذه المشاهد التي علقت في أذهاننا؟



خرجت تسجيلات هذه المسرحية بالصوت منذ أكثر من 35 عاماً، والعديد ممّن لم يتسنّ له مشاهدتها عام 1978، بحث عن هذه الصورة، بأي ثمن وبأي حالة كانت. تساءل عن الصورة بدافع الفضول وبدافع اكتشاف هذه القوة الكامنة في نجاح مسرحية واستمرارها سمعياً جيلاً بعد آخر. تسرّبت دقائق قليلة مصوّرة من أعمال أخرى كـ «شي فاشل» و«فيلم أميركي طويل» (1980) في برنامج «حوار العمر» على شاشة «ال. بي. سي» عام 1997، فازداد الحديث والتساؤل عن وجود هذه المسرحيات بالصورة.

في أواخر التسعينات، بدأ ايلي خوري رئيس مجموعة «كوانتوم» التي تضم Mmedia و«ميركوري»، محاولة لإقناع زياد الرحباني الإفراج عنها أولاً، وهو لا يملك نسخاً مصوّرة تستوفي شروط العرض على شاشة السينما أو شاشة أخرى. المرحلة الثانية بعد الموافقة، استغرقت أكثر من عامين من العمل على تنقية الصوت وتحسينه في ألمانيا، وأشهراً من العمل على الصورة في أميركا. وقبل ثلاث سنوات، خرجت النسخة الأولى من مونتاج نفذته ريما الرحباني، يتضمن المقاطع الأفضل مع الحفاظ على سياق المسرحية من حيث المشاهد والحوارات. بقيت أمام هذه النسخة رحلات أخرى من العمل التقني. يقول محمد حمزة من Mmedia، أنّ النسخة النهائية كانت جاهزة قبل العرض الصحافي بخمسة أيام فقط! عرض «بالنسبة لبكرا، شو؟» تحيّة إلى ذكرى جوزيف صقر وليال الرحباني. الأخيرة هي التي قامت ـــ بطلب من شقيقها ــ بتصوير عروض عدة من «بالنسبة لبكرا، شو؟» لغرض الإدارة الفنية. فمخرجه وكاتبه موجود على خشبة المسرح أيضاً، ما يمنعه من مراقبة العرض والأداء. صوّرت ليال العروض بكاميرا «سوبر 8» الأفقر نوعية والأقدم من كاميرات الـ «16 ملم» أو الـ «35 ملم» التي كانت تستعمل آنذاك في السينما والتلفزيون.



انتقت ليال ـــ بحرّية أو ربّما بالتنسيق مع زياد ــ ماذا تصوّر في كل مقطع، من مسافة واحدة، من دون أي إضاءة إضافية عن إضاءة العرض الخافتة، لأنها أصلاً إضاءة مقهى ليلي، على عكس الإضاءة في المشاهد التي رأيناها مثلاً في إعلان مسرحية «فيلم أميركي طويل»، حيث الإضاءة خاصّة بغرف في مستشفى.

الجهد الكبير التقني الذي بُذل لإنقاذ هذه النسخة، لم يؤد الى نتيجة كاملة في الصورة والصوت، لكنه نجح في عرض مقاطع عديدة واضحة مشهدياً من المقاطع الأهمّ من المسرحية. محمد حمزة الذي كان يُشرف على عملية تجهيز هذه النسخة المصوّرة تقنياً يذكّر بأنّ حالة الصورة في هذه النسخ (البكرات)، كان كارثياً، إذ «كان هناك سواد في الصورة، وبعض الأماكن المعطوبة في الشريط، والتسجيل الصوتي لم تكن حالته أفضل، ولا حال الشريط أصلاً (البوبين)». ويضيف أنّ الفكرة في الأساس كانت أن تعرض المسرحية على الإنترنت على صفحة Mmedia، ثم طُرحت فكرة صالات السينما، «فهذه مسرحية أكثر من جيل، وليس كل الأجيال في لبنان هم روّاد الإنترنت». هي خطوة تجارية كبيرة نظراً إلى حجم شعبية هذه الأعمال ومؤلّفها، لكنها في صالح الجماهير أيضاً، فمن سيتشارك هذه الذاكرة وهذا الإرث الفني من جديد، هو من شاهدها بعينه ويدفعه الحنين لأن يطلّ مجدداً على هذه الخشبة وأبطالها وإن عبر شاشة، أو هناك من سمعها مراراً وتكراراً ويريد أن يرى تلك الحبكة بعينيه، أو من لم يتعوّد على الاستماع لمسرحية لأكثر من ساعتين، وستحلّ له الشاشة مشكلته. الأهمّ من هذا كلّه أن مضمون المسرحية ذاته يستحق أن يخرج دائماً لأنه حاضرُنا، ليس عملاً من السبعينيات عن ظروف انتهت وواقع ولّى.



«بالنسبة لبكرا، شو؟» صوّرت الواقع الذي كان أهمّ أسباب انفجار الحرب، وأهم اسباب التردّي المستمر الى اليوم. لم تعد هناك أرض لأن أهلها هجروها الى المدينة بحثاً عن عمل. لم يعد هناك إنسان لأنّ العلاقات بين البشر في المدينة تتحوّل أرقاماً وحسابات. الأم والأب يعملان تحت أي ظرف ليسدّا الديون والأقساط، والمرتّب قليل، فيما مصروف المدينة كبير. الشاعر المثقّف يبيع قصائده بالجملة مع الجزادين. المحسوب على زعيم يفرض نفسه في مكان العمل. المدير والتاجر يستغلّان، والحلّ فرصة للعمل في الخليج. المزارع يغني للخسّة التي زرعها ثم اشتراها بأضعاف ثمنها. الجميع يشرب ويرقص في هذا المكان الصغير ويفرغ جنونه ومكنوناته. بجملة مكتوبة في البيان الصحفي، يتمنى القائمون على المشروع غضّ النظر عن رداءة الصورة والصوت حيث وُجدت، مذكّرين بأن تصوير هذا العمل لم يحصل بهدف العرض. ويضيفون: «أساساً كم بكرا صار قاطع علينا وبعدنا ما عرفنا شو بالنسبة لبكرا». عاش نصّ هذا العمل وظلّ في الذاكرة لأنه - الى جانب جماله الفنّي وقوّته - بقي واقعاً نعيشه منذ حينها. لذا صورة الكلام والمضمون تبقى أقوى بكثير، من صورة العرض نفسها، بغضّ النظر عن جودتها. لكن ما ستضيفه الشاشة هي تلك اللحظات التي سنرى فيها بالصورة أداء الممثلين وتفاعلهم مع النصّ، وتلك القفشات التي سمعنا منها سابقاً ضحكات المتفرجين المتواصل، من دون أن نتمكّن من تخيل المشهد الذي بعث على هذا الضحك.

«بالنسبة لبكرا، شو؟»: بدءاً من 21 كانون الثاني (يناير) في الصالات اللبنانية


«بالنسبة لبكرا شو» كتابة وإخراج وموسيقى زياد الرحباني الذي يجسّد أيضاً دور البارمان زكريّا. شاركه تمثيلاً الراحل جوزيف صقر (رامز)، نبيلة زيتوني (ثريا)، رفيق نجم (نجيب)، سامي حواط (رضا)، فايق حمصي (أستاذ أسامة)، بطرس فرح (موسيو أنطوان)، غازاروس ألطونيان (الخواجة عدنان)، وزياد أبو عبسي (هارولد)، ووجوه كثيرة اجتمعت على المسرح مع سينوغرافيا للراحل غازي قهوجي.

الفضل في مشاهدة هذه المسرحية اليوم يعود أوّلاً إلى الراحلة ليال الرحباني، التي صوّرت أكثر من عرض، والى مجهود فريق تقني وإداري من شركتي «أم ميديا» و«ميركوري» وتقنيين وخبراء في أميركا والمانيا. ومن إحدى الجامعات في برلين، شارك فريق أبحاث في الصوتيات، للعمل مع الجميع بهدف الوصول الى النتيجة الحالية وإنقاذ وتوثيق عمل بمثابة ذاكرة جامعة.





عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 «فيلم أميركي طويل» قريباً


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٧٩٠ الإثنين ١٨ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
زياد الرحباني: عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة


العمل المسرحي التالي على شاشة السينما، هو «فيلم أميركي طويل» (1980). ما زال في مرحلة العمل على الصوت للوصول الى النتيجة النهائية. مرّت هذه النسخة في المراحل نفسها التي مرّت بها «بالنسبة لبكرا شو»، من أميركا الى ألمانيا، مع مونتاج أولي لريما الرحباني، وهي أيضاً مجموعة من عروض صوّرتها شقيقتها ليال.

في ألمانيا، تمّ العمل على الصوت بإشراف رالف كسلر، أحد أهمّ الإختصاصيين والخبراء في هذا المجال، وقد استعمل برنامجاً معلوماتياً لوغاريتمياً جديداً، هو بمثابة إنتاج لفريق بحث ألماني من «جامعة هلموت شميت» في هامبورغ. «فيلم أميركي طويل» بمثابة نقاش في الحرب الأهلية ومجتمعها، مع البحث عن أجوبة في يوميات مرضى داخل مستشفى للأمراض العصبية خلال الحرب. العمل من إخراج وكتابة زياد الرحباني، شاركه أيضاً زياد أبو عبسي، وجوزيف صقر، وسامي حواط، وبطرس فرح، ورونيه الديك وباقي المجموعة. العملان سيكونان متوفرين لاحقاً على صفحة «أم ميديا» بعد انتهاء العروض السينمائية، ولاحقاً، أي بعد التوزيع على الإنترنت، سيتوفران على DVD.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 ترميم «بالنسبة لبكرا، شو؟»: الرهان الرابح


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٧٩٠ الإثنين ١٨ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
زياد الرحباني: عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة
بشير صفير



لمسرحية «بالنسبة لبكرا، شو؟» شريط موسيقي يُعتبر من أجمل ما كتب الفنان زياد الرحباني في هذا المجال. هذا طبعاً بالإضافة إلى الأغنيات الثلاث («إسمع يا رضا»، «البوسطة» و«عايشة وحدا بلاك») التي وردت في المسرحية وانتشرت يومها بسرعة كبيرة بين الناس لجمال لحنها وكلامها ولحسن أداء الراحل جوزيف صقر الذي بدا صوته كأنّه خُلِق لهذه الأغنيات تحديداً، أو لهذا النوع من الأغنيات الأنيقة والعفوية، عموماً.

في الواقع، أغنيات مسرحية «بالنسبة لبكرا، شو؟» نالت نصيبها في الصحافة، والأهم، في السمع. ذلك بخلاف المقطوعات الموسيقية التي ــ أغلب الظن ــ لم يتم التطرّق إليها أبداً في المقالات الصحافية التي تناولت المسرحية آنذاك (وقد اطلعنا على عدد لا بأس به من المقالات التي نُشِرَت بعد العروض الأولى عام 1978) أو تلك التي غطّت العرض الخاص للعمل في السينما الأربعاء الفائت. أمّا السمع، فلا هو متاح خلال عرض المسرحية (أو في النسخة الصوتية المنشورة) إذ ترافق المقطوعات، كلّياً أو جزئياً، مشاهد وحوارات تلهي الأذُن عن الموسيقى، ولا في الإذاعات اللبنانية التي لا تبثّ موسيقى «صامتة»، وإن حصل ذلك، فهو نادر. هذه الأعمال، القيّمة جداً، يسمعها من لديه في مكتبته أسطوانة موسيقى وأغاني المسرحية التي صدرت قديماً على أسطوانة 33 دورة (وعلى كاسيت) وأعيد إصدارها على CD منتصف التسعينات، وهي أساساً غير متوافرة اليوم بسهولة في السوق.



في البداية، يجب القول إن «بالنسبة لبكرا، شو؟» ليست مسرحية غنائية (كما ورد في الإعلان الترويجي الأصلي) بالمعنى التقليدي للتصنيف. إنها مسرحية تتخللها أغنيات (عددها 3، وهذا قليل جداً نسبةً إلى المسرح الغنائي) تشكّل أصلاً جزءاً لا يتجزأ من السياق الدرامي (بالأخص «إسمع يا رضا» و«عايشة وحدا بَلاك»). هذا غير كافٍ ليجعل منها مسرحية غنائية خصوصاً أنها تخلو من عنصرٍ يميّز المسرح الغنائي وهو الحوارات الملحّنة أو شبه الملحّنة. أمّا وجود أغنيات في هذه المسرحية، فله سببان: أولاً، زياد الرحباني هو صانع أغنية شعبية من الطراز الأول، بالتالي قادر على تزيين عمله المسرحي الشعبي بدُرَر من هذا النوع، ثانياً، وجود جوزيف صقر يحتّم عدم الاكتفاء بدوره كممثّل مهما بلغت أهمية مساهمته. الرجل صاحب صوت عظيم، وعلى هذا الصوت أن يصدح خلال العمل والناس تريد أن تسمع منه ولو موّالاً (بيت عتابا مثلاً). غنّى إذاً جوزيف هذه الأغنيات، ثم غنّت فيروز «البوسطة» بتسجيل مختلف يبدأ بموّال «موعود بعيونِك» (مع وتريات ممدودة في الخلفية ومرافقة فانكية غير مألوفة: نحاسيات، ضربات درامز، باص، غيتار كهربائي،…) وصدرت الأغنية في ألبوم «وحدُن» (1979) ولها تسجيل حي في حفلة «فيروز في الأولمبيا». بالمناسبة، الموّال المذكور موجود في الأصل بصوت جوزيف صقر، لكن التسجيل غير منشور… على أمل أن نسمعه يوماً. أما «عايشة وحدا بلاك»، فقد صدرت أيضاً في تسجيل حيّ ضمن أسطوانة «زياد في قلعة دمشق — 2008» (2009). والسنة الماضية، أدرج زياد في برنامجَي حفلتيه في «مهرجانات زوق مكايل» و«إهدنيات» أغنية «إسمع يا رضا» الطربية التي أدّاها ببراعة الفنان المصري حازم شاهين، وسمعنا فيها إضافات في التوزيع. من ناحية ثانية، وبعد تجربة الموسيقى التعبيرية والتصويرية في «نزل السرور» (وبالأخص موسيقى مشهد دخول الثوّار وموسيقى المشهد الأخير)، دفع زياد هذا الجانب من مكوّنات عمله المسرحي التالي، أي «بالنسبة لبكرا، شو؟»، إلى حدود أبعد.



كتب لهذه المسرحية مقطوعات عدة، بعضها تعبيري وبعضها تصويري بحيث تصف الحبكة الدرامية بدقة ووضوح مذهلَين (مثل موسيقى «مشهد الجريمة»). في «المقدّمة الموسيقية الأولى» محاكاة لموسيقى بعض الأفلام الأجنبية (الفرنسية والأميركية) في تلك الفترة وقبلها، مع دخول للوتريات، قبل أن تنتقل المقطوعة إلى البوسا - نوفا مع طرح «التيمة» الموسيقية الأساسية التي تشكل هوية العمل بأكمله. هذه الموسيقى جعلت زياد رائد البوسا - نوفا في العالم العربي، ذاك النمط البرازيلي الذي لم يعمل عليه كثيرون بعد زياد، إذ يفضل معظم الموسيقيين أنماطاً «أسهل» متى أرادوا الاستعانة بالغرب (روك على أنواعه، فلامنكو، راب، بلوز، ريغي…). بعد ذلك، تأتي موسيقى «مشهد حساب القناني» وهي تنويع على الجملة الأساسية (مع نحاسيات إضافية خصوصاً) للمقدمة الأولى. كذلك بالنسبة إلى موسيقى «مشهد باقة الورد» التي تُقسَم إلى مطلع تعبيري يُنبِئ بأمر غير طبيعي، يليه تنويع على «التيمة» (مع وتريات إضافية خصوصاً)، ما يدلّ على استمرار الأحداث بعد «الصدمة» التي تحدثها باقة الزهور.

في المسرحية «مقدّمة ثانية» (تَرِد مرّتين، مرّة ترافقها أصوات ضحكات مسجّلة ومرّة ثانية أثناء التحية في ختام المسرحية)، تعتبر من أجمل مؤلفات زياد الأوركسترالية، وهي غير قابلة للتصنيف، إذ تبدو مزيجاً موفقاً من الفانك والكلاسيك والبوب. من يقارن نسختها الأصلية بالنسخة التي وردت في أسطوانة «قلعة دمشق»، يدرك كم ظُلِم زياد الرحباني في هذا البلد. كل التوزيعات موجودة لكن لا (أو بالكاد) نسمعها، بسبب التسجيل والميكساج الرديئَين، هذا إن لم نتوقّف عند أداء بعض الموسيقيين الذين يضطر زياد إلى التعامل معهم في وطننا «الأعجوبة» الذي يفتقر إلى عازفين يرتقي مستواهم الفني والتقني إلى مستوى التأليف المحترم.

في حفلات دمشق أخذت حقّها في الأداء (بوجود أوركسترا كاملة وموسيقيين محترمين) والتسجيل، وأضاف إليها زياد بعض التزيين بريشته الذهبية الخاصة بالتوزيع لآلاف النفخ. هذه المقدّمة وردت أيضاً بنسخة جيّدة (لكن من دون وتريات) في تسجيل حيّ مصوّر خلال حفلة في أبو ظبي (Da Capo — 2005). تلي «المقدّمة الثانية» تنويعات إضافية على «المقدّمة الأولى» في موسيقى «مطعم بيبرم»، وهي من أعقدها وأجملها، نظراً إلى قوّتها التعبيرية في خلق شعور «الدوخة» التي يسببها دوران المطعم المزعوم. بعدها، تأتي مقطوعة جميلة من فئة الـballad التي ترافق مشهد «زكريا ونجيب». حمّل زياد هذه الموسيقى الهادئة حزناً كبيراً قد لا نسمع مثيلاً له عنده سوى في أغنية «كبيرة المزحة هاي» لفيروز (ألبوم «إيه في أمل» أو حفلة «بيت الدين — 2000»). قبَيل الختام، تشهد المسرحية جريمة محاولة قتل، ولهذا المشهد موسيقى هي من أجمل ما كتب زياد (أو حتى من أجمل ما كُتِب) في مجال الموسيقى التي تصوِّر التسلسل الدرامي بحذافيره.



إنها فعلاً تحفة في مجالها، ينهيها زياد، الذي دخل حديثاً إلى عالم الجاز، بتنويعات (أو أقل من ذلك، أي تلميحات فقط) على المقدمة الأولى، يتولاها البيانو على طريقة الأميركي الراحل بيل إيفانز. تستحق هذه القطعة تفصيلاً لا مجال لكتابته الآن لضيق المساحة، لكن سبق أن قدّمناه في حلقة قديمة من «المكتبة الموسيقية» على موقعنا، وتمكن مراجعتها (الحلقة رقم 36). أما لـ «المشهد الأخير» فقد كتب زياد، مرة أخرى وأخيرة، تنويعات على المقدمة الأولى، ويمكن إيجادها أيضاً بنسخة مختلفة في ألبوم «هدوء نسبي» الذي حوى مقطوعة بعنوان «بالنسبة لبكرا شو» والمقصود بها تحديداً هذه القطعة. لنلخّص المقالة: موسيقى وأغاني «بالنسبة لبكرا، شو؟» هي بقلم فتى لبناني عمره 21 سنة، وضع لهذه المسرحية خلاصة ما درسه واختبره وبحث فيه من الأنماط الموسيقية والغنائية الغربية والشرقية التالية: الطرب المصري، الشعبي اللبناني، الشعبي اللبناني الحديث، البوسا - نوفا، الموسيقى الكلاسيكية الغربية، الفانك، والجاز…






عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 برامج إذاعية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٧٩٠ الإثنين ١٨ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
زياد الرحباني: عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة


إلى جانب المسرح، تناول زياد الرحباني مجتمعنا في ثلاثة برامج إذاعية، بأسلوبه الجدي حيناً والفكاهي حيناً آخر. هكذا، قارب مواضيع عدة، من السياسة إلى الاجتماع والمرأة والحياة بتفاصيلها اليومية ذات الدلالات الكبيرة.

البرنامج الأول حمل عنوان «بعدنا طيّبين، قول الله» (الإذاعة اللبنانية — 1976)، قدّمه مع السينمائي اللبناني جان شمعون، وركّز فيه على الحرب الأهلية التي كانت قد شهدت جولتها الأولى والكبيرة، أو ما يعرف بحرب السنتين. كان اللبنانيون بجميع فئاتهم ينتظرون البرنامج اليومي، وحتى الجبهات كانت تهدأ في أثناء إذاعته، كما ذكر الكاتب المصري الكبير صنع الله ابراهيم في روايته «بيروت بيروت» عن الحرب اللبنانية. جلب هذا البرنامج متاعب كثيرة لزياد الذي عرّض حياته لخطر كبير في سبيل قول الحقائق القاسية التي طاولت أطرافاً نافذة على الساحة اللبنانية. عام 1985 أعدّ برنامج «العقل زينة» (صوت الشعب) وقدمه مع مجموعة من الأسماء مثل سلمى مصفي، رولا بروش، كارمن لبّس، زياد أبو عبسي، عباس شاهين… وتلاه في أواخر الثمانينيات برنامج «يَه ما أحلاكم» (صوت الشعب)، ثم صدرت أواسط التسعينيات مقتطفات منهما في ألبوم من أسطوانتَين بعنوان «تابع لشي تابع شي». إلى جانب المواضيع التي تناولها زياد في البرنامجَين الأخيرين، ثمة عنصر مهم فيهما هو الموسيقى والأغنيات التي رافقت المونولوغات والحوارات، ومعظمها من ريبرتوار الديسكو والفانك والموسيقى اللاتينية والبوسا - نوفا، بالإضافة إلى الموسيقى الأصلية التي كتبها لـ «العقل زينة»، وباتت لاحقاً جزءاً من بعض برامج حفلاته الحية. هنا نضيف برنامجاً إذاعياً رابعاً من إعداد زياد، هو «منّو إلّا موسيقى» (صوت الشعب) الذي تناول معظم التيارات الموسيقية والغنائية الغربية (سول، فانك، أغنية فرنسية…)، لكن مهمة تقديمه أوكِلَت إلى آخرين (مثل الفنان خالد الهبر).

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية



 أعماله المسرحية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٧٩٠ الإثنين ١٨ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
زياد الرحباني: عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة



في عام 1973، أنجز زياد الرحباني في عمر الـ17 عاماً، مسرحيته الأولى «سهرية»، التي كانت لا تزال تسيطر عليها الأجواء الريفية في «قهوة نخلة التنين» (بطولة جوزيف صقر وجورجيت صايغ ومروان محفوظ).

بعدها بعام واحد، كتب وأخرج «نزل السرور»، التي انخرطت أكثر في المواضيع الإجتماعية والسياسية، وفيها تجتمع شخصيات مختلفة (جوزيف صقر، بطرس فرح، غزاروس ألطونيان، سامي حواط، زياد الرحباني، بيار جماجيان،…) في فندق اسمه «نزل السرور». جاءت بعدها «بالنسبة لبكرا، شو؟» (1978)، ثم «فيلم أميركي طويل» (1980) التي تدور أحداثها في مستشفى للأمراض العقلية في بيروت، وتتبادل الشخصيات المقيمة فيه الأحاديث عن الحرب الأهلية اللبنانية وعبثيّتها بمشاركة جوزيف صقر، بطرس فرح، رينيه الدّيك، غزاروس ألطونيان، فؤاد حسن، محمد كلش،… وغيرهم. عام 1983، خرجت «شي فاشل» إلى الخشبة وهي نقدٌ واضح للمسرح الغنائي الفولكلوري اللبناني، وخصوصاً أنها تعرض استعدادات المخرج نور (زياد الرحباني) لمسرحيته «جبال المجد»، التي تتناقض أجواؤها المثالية مع حالة بيروت الشرقية والغربية، حيث ستقدّم. كانت هذه المسرحية الأخيرة في فترة الحرب، حتى إخراجه الثلاثية المتكاملة «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، «الفصل الآخر» و«لولا فسحة الأمل» (1993 — 1994).

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


زياد الرحباني: عبقري الأجيال... ما أشبه الـ «بكرا» بالبارحة

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)