زوبك، عزيز نيسين (تركيا)، رواية ترجمة - الأهالي للطباعة والنشر - 1961

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
السبت 2018/11/17 - السنة 41 العدد 11172
الصفحة : ثقافة
القاهرة


"زوبك" لعزيز نسين.. رواية تسخر من تناقضات المجتمع التركي


مزيج اللغة الساخرة والرمزية والإسقاط السياسي، وإحالة على سيكولوجية جماهير تتعرض للخداع ولا تتعلم من تجاربها.

“الكلب الذي يمشي في ظل العربة ويظن ظل العربة ظله”، بهذه العبارة يفتتح الكاتب التركي الشهير روايته “زوبك” التي تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وحصلت على شهرة عالمية رغم إغراقها في بيئة القرية التركية، إلا أن إنسانيتها تتأتى من كونها تتحدث عن نموذج الإنسان المتسلق وسط مجموعة من الانتهازيين والحمقى والمغفلين.

الرواية تنتمي إلى الأدب الساخر بامتياز، بل تعتبر من روائع الكوميديا السوداء في العالم وتقترب من أجواء شخصية جحا في الأدب التركي الشعبي، وهو نموذج المحتال الظريف الذي يوظف ذكاءه الفطري في خدمة مآربه الخاصة. المبتكر في التقنية السردية لرواية “زوبك” التي كتبت في خمسينات القرن الماضي، أن الشخصيات التي تتناوب الحديث عن ألاعيب وحيل البطل إبراهيم زادة، هي نماذج انتهازية وخسيسة وقعت ضحية بسبب جشعها ودناءة سلوكها وانتهازيتها.

الانتهازي الغبي في مواجهة الانتهازي الذكي، هذه هي اللعبة الدرامية التي أرادها عزيز نيسين في روايته الشهيرة، وأوجد لها حبكة تتمثل في أن القارئ “يحتقر” الراوي ويشمت فيه حين يمسي فريسة سهلة لدى إبراهيم زادة، وذلك جزاء لغبائه ودناءة نفسه. رواية “زوبك” تعطي للانتهازيين “الهواة” دروسا احترافية في الاحتيال والاستثمار في طمع وجشاعة الانتهازيين الصغار.

عزيز نيسين، يريد أن يقول من وراء هذه الرواية الموغلة في السخرية: للأسف نحن الذين نمنح الانتهازيين تأشيرة عبور من خلال سكوتنا والتواطؤ معهم أحيانا بسبب الركض خلف مصالحنا الخاصة.

يقوم زوبك (إبراهيم زادة) في رواية عزيز نسين بلعب أدوار وانتحال شخصيات متنفذة كثيرة، ويحالفه في ذلك الحظ، بالإضافة إلى وضاعة ودناءة الانتهازيين في القرية، بأن يصبح نائبا في البرلمان ويؤسس حزبا فيدمر خصومه جميعا، إلا أنه يرتكب خطأ فيقع في شر ما فعلت يداه ليذكّر بأن “غلطة الشاطر بألف” كما تقول العامة.

عوالم رواية “زوبك” تذكر بشخصية شارلي شابلن، وألاعيبه الساخرة من الفئات الانتهازية في المجتمع، والتي تجعل المتلقي يتعاطف مع الذي يحتال عليها انتقاما من دناءتها

في الرواية اعتمد نسين على ثلاثة عناصر أساسية وهي اللغة الساخرة ذات الطابع الكاريكاتيري والتصوير الماسخ، والرمزية في التسميات، بالإضافة إلى الإسقاط السياسي.

وإن كان ظاهر الأمر في الرواية عن خداع السلطة والكذب الذي تمارسه الحكومة ليل نهار، إلا أن محور الأمر يتمثل في سيكولوجية الجماهير التي تصدق كل مرة ما يقال لها، وكل مرة تتعرض للخداع ولا تتعلم من تجاربها.

ما أراد عزيز نسين قوله في روايته الشهيرة أن زوبك ليس شخصا بعينه، بل هو حالة متفشية بكثرة ولا تتغير من دولة إلى أخرى ولا تختلف من شعب إلى آخر. قام الكاتب بتسليط الضوء على الفساد السياسي والإداري وتفشي الرشوة وسيطرة الجهل والتخلف والوصولية.

ولذلك أمست “الزوبكية” مصطلحا دارجا في القاموس السياسي وكذلك الاجتماعي للدلالة على الاحتيال والانتهازية والاستثمار في دناءة نفوس البعض وغبائهم.

وفي هذا الصدد، يقول أستاذ اللغة الألمانية في مونولوج فلسفي عميق، وهو شخصية شاهدة على الأحداث في رواية زوبك لعزيز نسين “الآن أيقنت أن زوبك ليس شخصا واحدا، ولكن نحن جميعا زوبكات، لو لم يكن في داخل كل منا زوبك لما كان قد ترعرع زوبك كهذا. تجتمع قطعة زوبكية من كل واحد منا فتشكل زوبكا كهذا فوقنا، ومع أن الزوبكية فينا، وفي دواخلنا، فإننا عندما نرى زوبكاتنا متوحدة في شخص واحد، نغضب منه ولا نريده بيننا”.

“زوبك” رواية تحفر عميقا في أذهان قرائها، وتصفعنا بحقائق نظنها ليست فينا، لكنها تسكننا ولا يمكن التنكر لها حين نصارح أنفسنا.

قراءة “زوبك” تمر بمراحل تبدأ بالضحك من ألاعيب البطل، ثم يتحول هذا الضحك إلى نوع من الإعجاب والتعاطف، يصاحبه تشف من الشخصيات التي وقعت ضحية في حيل البطل، وينتهي الأمر بنا عند إتمام قراءة الرواية بالتأمل في حقيقة شخصية إبراهيم زادة التي ابتكرها عزيز نسين.

الحقيقة أن شخصية زوبك لم يبتدعها الكاتب التركي عزيز نسين بل هو نموذج يتكرر كل يوم وفي كل المجتمعات العربية التي ترزح تحت الفساد والانتهازية والجهل والفقر. عزيز نسين (1915 - 1995) غزير الإنتاج، تجاوز إنتاجه مئة كتاب، منها ستون كتابا في القصة القصيرة، وثماني روايات ومسرحيات، وكتابان عن الحكايا إلى جانب سيرته الذاتية ومقالاته اللاذعة ورسائله وكتبه للأطفال. كما أن كتبه بلا استثناء يتجلى فيها الإبداع والتميز، وقد ترجمت إلى ما يزيد على عشرين لغة وعرضت مسرحياته في دول عديدة.

كل ما كتبه عزيز نسين، ممتع ومدهش، لا بل إن كل ما فعله هذا الكاتب الذي تخطت شهرته حدود بلاده تركيا يحبس الأنفاس، حتى بعد مماته، مثل المدفن الذي يرقد فيه جثمانه، والذي أوصى صاحبه رفاقه وتلاميذه، قبل رحيله بأن يدفنوه داخل الوقف، لكي يكون قريبا دائما من الأطفال الذين يسكنون فيه، لكنه في الوقت نفسه، أوصى بأن لا يدفنوه في قبر معروف المكان، له شاهدة، لكي لا يخيف وجوده الأطفال ويذكّرهم بالموت، وهم أحوج دائما إلى الاحتفاء بالحياة التي أحبها نسين بشراهة، وكاد يفقدها بصفة دموية حين حاول متشددون إسلاميون اغتياله قبل عامين من رحيله.

“زوبك” واحدة من الروايات التي تفتن كل من يقرأها وتجعله يضيّع بوصلة الحكم على شخصياتها، ذلك أن “بطلها” رجل محتال كذاب، لكنه حاد الذكاء حاضر البديهة وغريب الأطوار.

هو إبراهيم زادة، الملقب بـ”الدوغري”، بارع في المراوغة، وصولي، أفّاق داخل بلدة تعج بالانتهازيين والحمقى الذين يقعون كل مرة في شراك ينصبها لهم إبراهيم الدوغري الذي توصله ألاعيبه إلى اعتلاء مناصب تبدأ بالمجلس البلدي، وتصل حد الفوز بعضوية البرلمان.. وقد يصل إلى مناصب أعلى وأكثر حساسية وخطورة.. من يدري؟ إنها السيرة الذاتية لكل سياسي انتهازي، يستثمر في طمع وحماقة وأنانية العامة والرعاع.

تغليب المصلحة الذاتية لدى كل فرد من القرية هو المجال الحيوي الذي يلعب فيه بطل الرواية، والخزان الانتخابي لإبراهيم الدوغري الذي ينجح كل مرة في الوصول إلى مآربه مستخدما سلاح الإغواء وسياسة “فرّق تسدّ”.

بنى عزيز نسين، تقنيته السردية في رواية “زوبك” على الأحاديث الشفهية المتواترة للشخصيات المحيطة بالبطل المذموم إبراهيم زادة، والذي لا نعثر في سيرته على أي مونولوج أو اعتراف إلا في ما ترويه بقية الشخصيات المتورطة مع ألاعيبه إلى حد الخديعة، لكن القارئ يزدري في كل فصل راوي الحادثة ويتشفى منه عقابا له على جشعه. هل جعلنا عزيز نسين، حقا، ننتصر لبطله المحتال؟

في كل ألعوبة من ألاعيب إبراهيم زادة الدوغري التي يرويها أحد ضحاياه في البلدة، ينتاب القارئ إحساس بالتشفي إزاء شخصية الراوي المضحوك عليه، ويتعاطف ضمنيا مع شخص البطل المحتال ضد هؤلاء الطماعين والسفلة.

في كل فصل تتقاسم رواية سيرة زوبك، البطل المحتال، مجموعة من ضحايا هذه الشخصية المثيرة للجدل في الحبكة التي نسجها عزيز نسين، بإتقان مدهش ضمن كوميديا سوداء لا يبرع فيها إلا كاتب مثل نسين.

تذكرنا عوالم رواية “زوبك” بشخصية شارلي شابلن، وألاعيبه الساخرة من الفئات الجشعة والانتهازية في المجتمع، والتي تجعل المتلقي يتعاطف مع الذي يحتال عليها انتقاما من دناءتها.

ومن ناحية أخرى يرصد عزيز نسين، في “زوبك” سيرة انتهازي حاد الذكاء، يصبح شخصية مرموقة وسط مجموعة من الانتهازيين الحمقى، وكيف استطاع بطل الرواية أن يصل إلى مآربه في ظل تصادم المصالح الضيقة لمحيطه.

إنه اللعب على المتناقضات، وفن تحين الفرص، والتقرب من الأقوى نفوذا، وإتقان الاصطياد في المياه العكرة، هذا هو ملخص سيرة شخصية إبراهيم زادة الدوغري، في رواية عزيز نسين التي وصفت إحدى شخصياتها البطل بكونه “الكلب الذي يمشي في ظل العربة ويظن ظل العربة ظله”.

الضحك إلى حد التطهر والبكاء في أحيان كثيرة، هذا هو أدب عزيز نسين، الذي رحل في نهائيات القرن الماضي و”لم تفز به جائزة نوبل” لكنه مترجم إلى كل لغات العالم وتربطه صداقات مع قوى تقدمية وشخصيات نضالية من مختلف أنحاء العالم. إنه هو ومواطنه ناظم حكمت قد أدخلا الأدب التركي إلى العالمية بامتياز بفضل نضال الرجلين اللذين عرفا المنافي والسجون وذاقا التعذيب والحرمان.

يقول عزيز نسين “منذ طفولتي كان هاجسي أن أكتب ما يدفع الناس إلى البكاء وفي أحد الأيام أخذت إحدى قصصي إلى مجلة، وبدلا من بكاء رئيس التحرير لدى قراءتها كما توقعت، أظهر عدم فهمه للقصة من خلال ضحكه عاليا ولمدة طويلة حتى سالت الدموع من عينيه. وقال لي حينما تمكن من التقاط أنفاسه أحسنت.. هذا رائع، أكتب المزيد منها وأحضرها إلينا”. ويتابع نسين “كان ذلك أشد ما أثار حيرتي في ما يتعلق بكتابتي، فقرائي يضحكون على أكثر ما يمكن أن يثير البكاء في كتاباتي.

وحتى حينما عرفت ككاتب ساخر، لم أكن أعرف معنى هذا الأدب الذي تعلمته من خلال كتابته. غالبا ما أسأل ما هي أسس الأدب الساخر؟ كأن الأمر يتعلق بوصفة أو معادلة. كل ما يمكنني قوله إن الأدب الساخر هو عمل جاد للغاية”.

يعتبر الناقد السعودي هاشم الجحدلي رواية “زوبك” من أفضل مئة كتاب في تاريخ الأدب العالمي، ويقول عنها “لا أعتقد أن هناك أغزر من عزيز نسين أو محمد نصرت نسين حسب اسمه الأصلي، إلا أن روايته ‘زوبك’ تمثل أقصى درجات ومستويات أدب الكوميديا السوداء، حيث جسد نسين في روايته كل تناقضات المجتمع التركي، شخصية فانتازية تجلت فيها ملامح جحا من كل النواحي”.

الناس بطبيعتهم لا يحبون الشخصية المغفلة أو حتى المتألمة مهما كانت ملحميتها، وإنما يميلون إلى الشخصيات التي توصف بالفهلوية مع عنصري الطرافة والضحك اللذين يغفران ويتسامحان مع الاحتيال، فـ”حلال ع الشاطر” كما تقول العامة. ورواية “زوبك” تتوفر فيها كل عوامل الجذب والتشويق والجاذبية، فهي مضحكة إلى حد الدموع، ساخرة إلى درجة الوجع، ناقدة في الصميم وملتزمة بقضايا الناس البسطاء والمقهورين.

إبراهيم زادة الدوغري في رواية “زوبك” شخصية تنتقم من الانتهازيين والحمقى والمغفلين وذوي النفوس الدنيئة، تتسلق السلم بطريقة أفعوانية رشيقة، لكنها في النهاية تقع في شر أعمالها حسب ما لمح إليه كاتبها عزيز نسين.

“زوبك” رواية تناولتها أعمال كثيرة في الدراما التصويرية من سينما وتلفزيون، ولعل أشهرها عربيا هو المسلسل التلفزيوني السوري “الدوغري” الذي أعده السيناريست السوري المقيم في مصر، الراحل رفيق الصبان. وكان هذا العمل الذي حظي بنسبة كبيرة من المشاهدة من توقيع المخرج هيثم حقي وبطولة الممثلين دريد لحام وأيمن زيدان وعباس النوري وجيانا عيد.

اللافت في هذا العمل المستوحى من رواية عزيز نسين أنه قارب البيئة العربية الشبيهة بالتركية، وسمى القرية التي تدور فيها الأحداث بـ”كومة حجر” في إشارة إلى أن التحجر والجهل والسكوت عن الحق، أمور تصنع الانتهازية والاحتيال والرشوة والمحسوبية.

رواية “زوبك” تمثل أقصى درجات ومستويات أدب الكوميديا السوداء، حيث جسد نسين في روايته كل تناقضات المجتمع التركي، شخصية فانتازية تجلت فيها ملامح جحا من كل النواحي

والمضحك المبكي في حياته أنه وبرغم شهرته الواسعة في كل أرجاء العالم كمبدع فذ، إلا أن بلده الأم تركيا لم تعطه من حقه سوى القليل. نال عزيز نسين عدة جوائز عالمية مثل جائزة السعفة الذهبية من إيطاليا عامي 1956 و1957. وجائزة اللوتس الأولى من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا 1975 وغيرها. “هذه الرواية خطر على اطمئنانك”، على حد تعبير شيخ النقاد في تونس، الراحل توفيق بكار، حين تقع قراءته على أثر أدبي من الحجم الثقيل، وتطرح أسئلة تزلزل الكيان وتحث على إعادة النظر في كل المسلّمات والقناعات.

وكمقاربة لأسلوب سيد الكتاب الساخرين عزيز نسين الذي يحلو لبعضهم تلقيبه بـ”تشيخوف الأدب التركي”، يمكن القول بالنصيحة على الشكل التالي: لا تعر كتاب رواية “زوبك” إلى قارئ أرعن، متسرع وأهوج.. قد يتأثر بشخصية بطل الرواية المحتال إبراهيم زوبك زادة، فتقع في شر اختياراتك، ويقع هو في شر تأثره.

“زوبك”، لمن لا يحسن فهمها، تشبه السحر الأسود، وإعطاء الحكمة لغير العاقلين، فهي، ولفرط جاذبيتها، تغري بالانحدار نحو تشريع الاحتيال وازدراء البسطاء ممن تغريهم المناصب والمكاسب الصغيرة. إنها رواية تختصر المثل العامي القائل في البلاد العربية “قال له يا فرعون من فرعنك؟ فأجابه لم أجد من يصدني”.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF

عن جريدة العرب اللندنية

العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)