زمن طروب الجميل

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٦٨ الخميس ٢١ نيسان ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
ويب خاص بالموقع


زافين يعيدنا إلى زمن طروب الجميل


رامي الطويل



حين توفي الأمير أبو المطرف عبد الرحمن بن الحكم، الملقّب بـ عبد الرحمن الأوسط، والذي كان رابع أمراء الأمويين على عرش الأندلس، في العام 852 م، مات عاشقاً، كما مات أميراً، فحبه وشغفه بجاريته طروب، التي أنجبت له ولده عبدالله، لم يخمد يوماً. ولا شكّ أنّه حين قال فيها: «إذا ما بدت لي شمس النهار طالعةً ذكرتني طروبا/ أنا ابن الميامين من غالبٍ أشبّ حروباً وأطفي حروبا»، لم يكن ليخطر في باله أنّ قرابة ألف ونيّف من الأعوام، ستمضي قبل أن تظهر في المشرق العربي امرأة تحمل اسم جاريته، طروب، وستكون شاغلة الناس لقرابة عقدين من الزمن.

يكفي أن تدندن أمام واحد من أبناء جيل آبائنا وأمهاتنا، كلمات مثل «يا صبابين الشاي» أو «يا ستي يا ختيارة» أو «يللي بيتكبر ع الحب على راسو رح يوقع شك» لتبدأ بسماع حكايات لا تنتهي عن زمن مضى منذ عقود، وبقيت في الذاكرة صورته مضيئة رغم الألوان الباهتة، عمّا يسميّه هؤلاء زمن الخير، والزمن الجميل، وزمن البحبوحة. كما يمكنك عندئذ أن ترصد نظرة شقيّة من رجل عجوز إلى زوجته، يذكرها فيها بما كانت عليه في شبابها، وسيؤكد لك دون شك أنّها كانت تشبه طروب إلى حدّ كبير، وكانت تنتظر أغانيها بشغف، ليس ليرقصا عليها فقط، وإنما لتعرف ما الذي ستشتريه من ملابس لهذا العام، فثمّة جيل كامل من النساء كنّ يرين في طروب بوصلتهن إلى الموضة، وإلى الهيئة التي ستجعلهن محبوبات من رجالهن.

حين ولدت أمل اسماعيل جركس (1937) لأب أردني وأمّ تركية، لم تكن تعلم ما تخبئه لها الأقدار. لكن الفرصة التي أتيحت لها للغناء، وهي طفلة، في أربعينيات القرن الماضي، عبر برنامج «ألوان» على أثير إذاعة دمشق، كانت اللحظة الفارقة في حياتها، التي ستودع فيها اسم أمل، وتحمل اسم طروب الذي ستلهج به الألسن بعد سنوات، وتغدو صاحبته واحدة من نجمات الغناء والسينما الأكثر شهرة.

وباعتبار أنّ خوض غمار الفن في ذلك الزمن لم يكن بالأمر اليسير، وكان يتطلّب الكثير من الجهد والمشقّة، قبل أن يتمكن الفنان من إيجاد مساحة له تحت الأضواء، في زمن كان فيه عمالقة الغناء العربي يتربعون على عروشهم، فقد احتاجت طروب لسنوات حتى تثبت جدارتها بالأضواء، وتعثر على شريكها، محمد جمّال، الذي استطاعت معه أن يشكلا ثنائياً فنياً استطاع أن يثبت حضوره، ويرسّخ نفسه كعلامة فارقة في الأغنية العربية، وكان ذلك تحديداً بعد حفل «أضواء المدينة» في القاهرة، الذي غنيا فيه إلى جانب نجوم ذلك الزمان كنجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ، ونجاح سلام، ليكونا بعده الثنائي رقم واحد في الغناء العربي بعدما كانت ثنائيات كـ «ضياء ـ ندا»، «محمد فوزي ـ ليلى مراد»، «شادية ـ عبد الحليم حافظ» وغيرها الكثير تحتل الساحة الفنية. بدأ الجمهور بترديد أغاني الثنائي الجديد «جمال وطروب» مثل «من فضلك يا ست البيت» و«سامع قلبي ازاي بيدق» وعشرات الأغنيات التي كرّست الثنائي كرقم صعب في الساحة الفنيّة. ولكون السينما في ذلك الزمان، كانت بوابة العبور نحو جمهور عربيّ شاسع يمتدّ من المحيط إلى الخليج، وجدت طروب فرصتها لتقدم عشرات الأفلام أمام كبار النجوم كرشدي أباظة، فريد شوقي، الثنائي دريد ونهاد، وغيرهم، فتصبح أغنياتها على كلّ لسان بما فيها بعض الكلمات التركية التي تعمدت تطعيم أغنياتها بها، مثلما اعتاد زوجها، محمد جمال، تطعيم ألحانه لها بشيء من الموسيقي التركية. المطربة التي امتزجت أصولها العربية التركية، حازت الثقافتين أيضاً، لتضفي على أغنياتها بذلك مسحةً خاصّةً فشلت بعض المحاولات اللاحقة، من قبل فنانين آخرين، في محاكاتها.

حين اتخذت صاحبة أغنية «أبو أحمد» قرارها باعتزال الفن (1990)، تركت في الساحة الفنيّة فراغاً من الصعب ملؤه، لكنها في المقابل تركت لجمهور الفن الأصيل كمّاً كبيراً من الأعمال التي ستبقى إلى أمد بعيد محرضة للذاكرة كلّما اشتاقت لما هو جميل. وستبقى أغنياتها كلّما أذيعت تحصد من جيل الآباء والأمهات تنهدات الحسرة على زمن مضى بكلّ ما فيه من جمال، وربما لن تتردد مراهقة من هذا الزمان، تعرف مدى حبّ والدتها لطروب، بأن تغني لها غامزة، وهي تستعد للخروج من البيت، بعد أن تسألها الأم إلى أين تذهب، فتقول «يا ستي يا ختيارة يا زينة كل الحارة حبيبي يللي بحبو ناطرني بالسيارة» فتحصل من أمها على ضحكة خجولة، وإيماءة مرحة ما زالت تحتفظ بها من زمن طروب الجميل.



عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


طروب على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)