رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل من تأليف الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي صدرت عام 1974

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8741 الاثنين 20 شباط (فبراير) 2017 - 23 جمادى الأولى 1438 هـ
رامي أبو شهاب - كاتب فلسطيني أردني


متشائل إميل حبيبي… نتاج الصدمة خطاب متشكك محموم


تعدّ رواية «المتشائل» من أبرز الرّوايات التي تعتمد مبدأ الصدمة حيث تتقاطع مستويات التعبير بمرجعيات واقعية بأخرى فوق طبيعية. ثمّة وجود لعالم متشكك ساخر عبر ثلاثة كتب عكست الاقتلاع الفلسطيني وتمثلات الغربة والنفي والمقاومة ونقد الذات؛ ولهذا جاءت السّردية متميزة على مستوى التشكيل والبناء الفني. إن حدثاً كضياع وطن سوف يدفع إلى هذيان محموم، فغالباً ما تقود غير الطبيعية إلى حالات سريرية نفسية حيث تتجلى الذات في عالم يتداخل فيه الحقيقي بالمتخيل، هي ثنائيات ما انفكت تنتشر في المتون السردية الفلسطينيّة كما تتضح أبعادها عبر تكوين إميل حبيبي لشخوصه السردية، ومنها شخصيات «يعاد الأولى» و»يعاد الثانية». فالنسق السردي قوامه التوالد والتناسخ، وكل ما يمكن أن يؤدي إلى توصيف شعوري نفسي، وما نتج عن الاحتلال من نزع الذات عن كيانها، وتحقيق اغترابها عن نفسها.

من أهم ملامح الصدمة بيان جغرافية فلسطين التي تتحول بفعل الاحتلال إلى منفى، أو اغتراب، فالإحساس النفسي يفوق النفي في بلدان الاستضافة المجاورة أو البعيدة، فأن تتحول إلى غريب في وطنك فهذا يفوق في ارتطامه الشعوري أي حدود أخرى. فالأمكنة تتحول إلى نموذج للاغتراب، ولكن أمام أعين سكانها الأصليين، فالأمكنة تحمل أسماء عبرية، وهذا يحيلنا إلى الجغرافية الكولونياليّة التي تهدف إلى إقصاء الذاكرة الثّقافيّة للمكان عبر محوه دلاليا وعلمياً، فهو بناء متخيل ثقافي جديد من خلال نفي الفلسطينيين عن أمكنة ألفوها، فمن «لم يهم هيموه». لا شك بأن مفردة «هيموه» تعني فعل اقتلاع ممنهج.
بدأ الاقتلاع سنة 1948 فلا جرم أن يؤرخ المتشائل حياته» بين ما قبل وما بعد». وبين الثنايا محطات سردية، تحتفي باسترجاع المكان، بحدود ما قبل النكبة، و سرد فعل الخروج بوصفها نسقاً بدأ يؤسطر وعي المقتلعين، وهذا يطابق رحلات الخروج اليهودي في العصر الحديث كما احتفى بها الخطاب الصهيوني في أدبياته باعتبارها نواتج الصدمة النفسية تبعاً للممارسات النازية في الحرب العالمية الثانية. فهنالك غير نص للتعبير عن التّحولات التي طالت المجتمعات اليهودية في ألمانيا والنمسا، وغيرهما، وهنا نستعيد كتابات جورج كلير، أحد الكتاب الناجين الذي يحاول أن يبرز بكتابته ذات الطابع السيري إيقاع مدينة فيينا، التي توصف بامرأة تتعرض لهزة جماع بعد أن تم اغتصابها من قبل الألمان، الذين دخلوها يوم الاثنين 14 مارس/آذار. هذا النسق السردي يهدف إلى استثمار كل حادثة تاريخية عانى منها اليهود بدءا من السبي البابلي إلى النفي في العصور الحديثة؛ ولهذا أنتجت الصهوينية نصوصاً تحتفي باستعادة الوقائع، كما تفعل الذاكرة الفلسطينيّة التي استفاقت على العصابات الصهيونية في شوارع حيفا ويافا، إنها لحظة طباقية بين مرويتين، تتنازعان المتخيل والتاريخ، وهذا ما نواجهه على سبيل المثال لمشاهد وسهول، تمتلئ بشقائق النعمان، أو تلك الشوارع والبلدات الفلسطينيّة بوصفها فردوساً مفقوداً.

تنهض رواية «المتشائل» على نسق اختلاط الهويّة أو تلك الهجنة، ولكن ثمّة حاجة لبيان الشخصية الفلسطينيّة، وتتبع جذورها في ذات المتشائل الذي يمزج بين معطيات عرقية مختلفة، ففي رحلة الاستعادة للتاريخ الذاتي، نرى المتشائل في معرض تعريف ذاته بأن بعضا من أصوله تعود إلى جارية قبرصية من مدينة حلب، وهذا يعني النحس الأول، في حين أن النحس الثاني يتمثل بالاقتلاع الحديث. ثمّة خطاب طباقي واضح الملامح، كما هنالك احتفاء واضح بتلك التنافذية على مستوى الاختلاط والتبعثر الذي يطال مستوى التعبير النسقي السردي، أو على مستوى الشخوص، فبعد النكبة تبعثر الفلسطينيون حيث أقاموا في بلاد العرب، وحتى في داخل فلسطين، أو ما يطلق عليه «دولة إسرائيل»، غير أن ثمّة مقاومة لذلك النفي، فكان لا بد أن يتجلى هذا عبر شخصية» يعاد».

هنالك الكثير من الدّراسات التي ذهبت لمعالجة هذا التشكيل السردي للدلالة السّيمولوجية للعلم في النسق الروائي، وتنهض على فعل الارتباط بين اسم العلم وقيمة العودة أوالبقاء في فلسطين، كما تتجلى في أسماء شخصيات باقية، ويعاد الأولى، ويعاد الثانية، وولاء، فمعظمها يرتبط بأثر الارتحال وأمل العودة.
إن الوجود الفلسطيني في الشّتات العربي حمل معه إكراهات ما زالت مستمرة، وتتمثل بالنبذ والإقصاء، فقد أحب سعيد الغزالة اللبنانية، غير أن نعت «اللاجئ» حال دون تواصله مع «الغزالة» ، وهنا نقرأ سياقاً رمزياً لرفض الفلسطيني، أو احتقاره ما أدى إلى تلاشي إنسانيته، فلا عجب أن يتحول سعيد نحو اللاجئات الفلسطينيات اللواتي يشبهنه.

إن إشكالية الولاء المزدوج من أشد الثيمات تداولاً في الخطاب ما بعد الكولونيالي، وإذا كان ثمّة إشارات لهذا الجانب، وبوجه خاص في ما يتعلق بالحضور الفلسطيني من نبذ كما في لبنان، بالتجاور مع إشارات إلى خروج الفلسطينيين إلى الأردن، وتتبع أخبار المشتتين من خلال البرنامج الإذاعي الشهير الذي كان يبث من إذاعة عمان لينقل أخبار من بقي في الداخل أو بالعكس، وهنا تبرز محورية عبارة «لم الشمل»، وهي عبارة متمركزة في الوعي الفلسطيني بوصفها خطاب مقاومة لفعل التبعثر على مستوى الإنسان والثّقافة.

في حين أن الاقتلاع الفلسطيني في الداخل بدا أكثر تعقيداً، فإذا كان الولاء والتعاون مطلباً يهوديا يطال ابن المتشائل الذي أنجبه من زوجته باقية، وهذا يتضح من خلال اسم الطفل (ولاء) الذي تم تغييره بناء على طلب اليهودي حيث كان الاسم المقترح «فتحي» على اسم والد باقية النازح، ما يحيل إلى الازدواج في الولاء الذي أصبح في غير محله كما برز من خلال الاسم.

يحضر الفضائيون في الرّواية بوصفهم قادمين من عوالم أخرى، فالفضائيون نموذج استعاري يتمركز على نفي آخر، أو ذلك المثيل بالاختلاف، إن قيمة الاقتلاع لا تتجلى فقط بأن الفلسطيني بعيد عن وطنه، يعاني من الحيرة في المكان، أو الثقافة، ولكنها تعاني من حيث انسجامها مع ذاتها، وهنا يتحول الازدواج على مستوى الأرض الفلسطينيّة التي أصبحت تراوح بين الهويّة الإسرائيلية والأردنية، كما تجلت في قرية «برطعة» التي كانت نصف أردنية ونصف إسرائيلية، كما مدينة حيفا التي أبقي على اسمها لكونه توراتياً، كما التنازع على اسم مرج بن عامر.

لا يمكن أن تكتمل مستويات الرواية دون الإتيان على معطى اللغة، أي تلك اللغة الطارئة، التي تحتاج إلى نفي الذات عن ذاتها الجديدة، فالعبرية نسق آخر من النفي، فهنالك الضياع بين لغتين، ولهذا قضى المتشائل أكثر من عشر سنوات ليتعلم اللغة العبرية كي يلقي خطبة باللغة العبرية، بعد أن أصبح رئيس بلدية حيفا. ذلك الازدواج اللغوي لقطاع فلسطيني آخر، أو عملية البحث عن الذات التي تهشمت .

لا تنفك الرّواية الفلسطينيّة تعنى بإفراد هامش كبير للعودة التي صاغت الوعي الفلسطيني المتخيل، فلا عجب أن ترغب «باقية» بالعودة ليتطابق الفلسطيني مع الكائنات الفضائية التي تجسد الاقتلاع، كما نفي الخصائص الإنسانية. وعلى ما يبدو فإن محورية الذهب أو الكنز تبدو بعدا كنائياً، فالاقتلاع لا يقتصر على قيم معنوية فحسب، إنما يشمل منظومة حياتية يعانيها الفلسطيني الذي فقد وطنه، وقيمه، وكرامته، فثريا تتضور جوعاً في مخيمات الأردن لأكثر من ثلاث وعشرين عاماً، وحين تعود لاستخراج الذهب، ومفتاح بيتها الذي خبأته في نقرة الجدار، ولكن إسرائيل تصادر كل ما سبق، وتعطيها وصلاً. ثمّة محمولات دلالية فاعلة في تكوين الأنساق الخطابية، فقراءة ضمن المستوى اللغوي الأسلوبي تكشف عن تلك المضمرات النفسية لتكوين الوطن في أذهان الفلسطينيين ووعيهم، ونعني محمولات المبالغة كما أشار لها كوهين وسافران، فالمقتلعون يرون أوطانهم فردوساً، بالتوازي مع إحساس ملازم مهما طال الزمن بأمل تحقق العودة واستعادة ما كان. ومن هنا نستدل بأن ثمّة خطابا فلسطينيا نمطيا بالاعتماد على أيقونة المفتاح والكنز، وبين ثنايا هذا الناتج تنبثق رمزية الكنز مما يحيل إلى إرث، أو ماض، ولكنه يرتبط بالمستقبل. ولكنْ ثمّة وعياً بأن العودة لن تتحقق إلا بالمقاومة، فولاء ابن سعيد من زوجته «باقية» لم يعرف الولاء لدولة الاحتلال قط، على الرغم من أنه نشأ في ظلالها، فقد نزع عن ذاته ذلك الذي وقع فيه والده سعيد قبل أن يرتهن لبينية الهويّة، فولاء يمثل المستقبل، ولهذا فقد انحاز للمقاومة، وهو الذي استطاع أن يتوصل للذهب ويستخرجه. ولعل التعويل على القيمة المستقبلية للأجيال الفلسطينيّة من أهم المستويات في الخطاب ما بعد الكولونيالي الذي لا يمكن له أن يتجاهل بأي شكل من الأشكال هذا النسق، وبوصفه إحالة، وأثراً شاملاً لتعاقب الأجيال عبر التجربة والممارسة، وخلق فعل التحول لمعالجة الاقتلاع وتداعياته، فسعيد يعود إلى البحر للبحث عن زوجته وابنه ولاء. في هذا المستوى نقرأ نصا ينحاز إلى القيمة الرمزية للسمك ومعطى الوطن، أو ربما إلى التباين بين أجيال من الفلسطينيين الذين نشأوا في ظل الكيان الصهيوني، بالتراصف مع المعطى اللغوي الذي يبرز في نص الرّواية متمظهراً بالإشكالية اللغوية، وقلق الهويّة، كما الالتباس المزدوج الذي تعاني منه الأجيال بوصفها نواتج الشّتات الثّقافيّ، وهذا يتضح من الحوار الذي يدور بين سعيد والطفل اليهودي على شاطئ الطنطورة:

: بأي لغة تتكلم يا عماه؟

 بالعربيّة

 مع من؟

 مع السمك

 والسمك هل يفهم العربيّة فقط؟

 السمك الكبير العجوز، الذي كان هنا حين كان هنا العرب.

 والسمك الصغير هل يفهم العبرية؟

 يفهم العبرية والعربيّة وكل اللغات. إن البحار واسعة ومتصلة، ليس عليها حدود وتتسع لكل السمك».

يعود سعيد إلى السجن، ويلتقي يعاد الثانية» ابنة يعاد الأولى» ونبقى في انتظار يعاد الثالثة، ينتهي سعيد على خازوق، كناية عن الوضع الفلسطيني الذي يتأسس على قبول الازدواج في الولاء والهويّة، القلقة. يكمل سعيد رحلة أجداده باحثاً عن السعادة في نواميس فوق طبيعية، يتشبث سعيد بخازوقه، يرفض قبر الغربة، ويرفض عرض باقية بأن يكون إلى جانب ابنه ولاء في قصره، ويرفض عباءة سعيد الابن، ويرفض عرض الشاب بتحطيم خشب الخازوق، فقط هنالك الكائن الفضائي الذي نستعين به عندما نكون عاجزين عن تغيير واقعنا. يطير سعيد مع الكائن الفضائي ليرى الجميع من أعلى إلى أن تمضي هذه الغيمة وتشرق الشمس.

في ختام الرّواية نقرأ إشارة في فصل «للحقيقة والتاريخ» بأن هذه المروية أو الرسائل قد أتت من لدن شخص يسكن مستشفى المجانين أحد مخلفات الانتداب البريطاني حيث ما زال هنالك في المصح مجنون يدهن حائطاً بفرشاة يغمسها بدلو بلا قاع، . لا شك بأن هذا المستوى المغرق بالسوداوية والسخرية، والهذيانات ما هو إلا خطاب ناتج بفعل الاقتلاع وتداعيات الصدمة التي تُنتج سرديات طافحة بالمعاني المضمرة والكنائية.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



مقال ناصر يعقوب في مجلة جامعة النجاح للأبخاث (العلوم الإنسانية) المجلد 26 (10)، 2012 : مكونات السرد الفنتازي : قراءة في رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”لإميل حبيبي


إميل حبيبي على ويكيبيديا

الرواية على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)