قراءات - Comptes rendus de lecture

روايات للكاتبة والقاصة الفلسطينية حزامة حبايب Romans de l’écrivaine palestinienne Huzama Habayeb

, بقلم محمد بكري


ولدت الروائية والقاصة الفلسطينية حزامة حامد حبايب في الكويت عام 1965، ومن جامعتها حصلت على بكالوريس في اللغة الإنجيليزية وآدابها عام 1990، عملت في حقل الترجمة والتعليم منذ تخرجها، وهي عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وأتحاد الكتاب العرب. المزيد...

 قبل أن تنام الملكة

رواية « قبل أن تنام الملكة » للكاتبة والقاصة الفلسطينية حزامة حامد حبايب

جريدة الحياة

الجمعة، 10 حزيران/يونيو 2011
عمان - جريدة الحياة

عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر صدرت رواية « قبل أن تنام الملكة » للروائية والقاصة الفلسطينية حزامة حبايب. في هذه الرواية تقدّم حبايب سرداً ملحمياً، تطعّمه ببوح حكائي، يبلغ ذرى عاطفية على نحو يقبض على قلب القارئ وفكره، ويشحذ روحه برغبة حثيثة للمضي في الطريق الذي ترصفه كلماتها، متورِّطاً في فصول الحياة التي تعيد الكاتبة بناءها من مجموع مِزق من الحزن والوجع والفرح المنحسر، والحبّ.

ترسم حزامة حبايب صفحات شائكة وشائقة، مشغولة بالألم، مترنّحة بالخسارة، لامرأة تسعى إلى استنطاق الحبّ ومقاربة الحياة ضمن الحدّ الأدنى من الهزيمة، الشخصية والعامة، واستجلاء المعنى المجرد من «مجاز» الوجود، وتوسّل الوطن، كفكرة مخاتلة، من خلال سرد حكايتها لابنتها. الملكة في الرواية هي الأم، كما أنها الابنة، إذ تمنح كل منهما الأخرى سبباً مشروعاً، أو حتى محتملاً، للحياة.

تروي الأم المأخوذة بالرحيل والهجر والفراق حكاية رحلة من عذاب لا يتوقف، لا عزاء فيها سوى ما تجده بين يدي الطفلة التي تكبر، بحيث تفتح حكاية على أخرى، في وثباتٍ سردية تتواصل، كأن الأم من خلالها تحاول – في اللاشعور – أن تشدّ ابنتها إلى البقاء، بينما تشب الابنة عن الطوق، وتبحث عن حريتها في انفصال لا يعني للأم سوى تكريس المزيد من الفقد.

بيد أن الرواية ليست مجرد حكاية لأم مع ابنتها، لأن هذه الرابطة، على الأهمية التي يوليها اياها السرد، توظف كوسيلة له، حتى تقدّم صورة شاملة لحياة امرأة من فلسطين، كانت فقدت وطناً بالوراثة، ففقدت أي إحساس بالأمان وهي تعيش خارجه، في سلسلة لا تنقطع من الفقدان والرحيل والخذلان. ولعلّ الخذلان يتبدى في أكثر صوره إيلاماً، ومهانة أحياناً، في ثلاثة رجال يساهمون، كل بطريقته، في كتابة فصل مشحون بالغصات في تاريخها الشخصي: الرجل/ الأب، الرجل/ الحبيب، والرجل/ الزوج. وإذ تنقطع لحب أصيل، حب الأم لابنتها، كتعويض تكرّس له الحياة بكاملها، تخشى فقد هذا الحب، فتستبقيه بأي ثمن، وسبيلها في ذلك الحكاية.

الحكّاءة في الرواية هي امرأة حزينة، مقهورة، تلبس اسمها – الذي يجرّدها ظاهراً من معنى « المرأة » عنوة، وتتلبّس حياتها وحيوات آخرين من دون اختيار، وفي الأثناء تجاهد كي تصنع حباً وحياةً ووطناً، فتقطع طرقاً وصحارى وبلاداً لا تضمن لها الوصول إلى ما تريد. حتى البيت، إذ يسـتحيل وطنـاً بطريقته، يضيع في كل مرة تحاول أن « تستوطنه » أو تصنعه بأي ثمن! خلال الرحلة، رحلة السرد، تعيد البطلة بناء حياتها وكتابة تاريخها، وتستكشف ذاتها، لعلها تتصالح مع هزائمها ومواسم الخذلان الكثيرة التي طبعت وجودها، ولا يعود الفقد، كإحساس ملازم، ضاغطاً بشدة.

إن الساردة الشغوف، ملكة الحياة الشقية، إذ تشارف رحلتها المضنية على نهايتها، بعد فيض من الحكي المتوهج، تستطيع ربما بعد كل هذه السنين، وكل هذا الفقد، أن تنام بعمق.

من فضاء الرواية :

“حتى إذا أدركنا الليل وأوت الأحزان إلى مخادعها، أتيتِ إليّ حافية، وقد هطل نصف شعرك على وجهكِ، تفوح منك رائحة عرق طازج، من أحلام يقظتك المتهوّرة، وبقايا شوكولاته تتلمّظينها في فمكِ دون كبير شعور بالذنب لأنك خُنتِ حميتكِ الغذائية الهشّة، وخبز محمّص، حدّ الاحتراق، فتافيته ترشم بلوزة بيجامتك. تندسّين في السرير إلى جواري. تتشمّمين ذراعي العارية. تقولين إنك تحبين رائحة لحمي. تقولين إنكِ تفتشين عنها، أو ما يشبهها، في مدينتكِ البعيدة، فلا تجدينها. تغرسين أنفكِ في عنقي، قائلة :

 إحكيلي حكايتك !

تقع الرواية في 322 صفحة من القطع المتوسط والغلاف من تصميم زهير أبو شايب.

عن جريدة الحياة

جريدة الحياة

الجمعة 8 تموز/يوليو 2011
الحياة - محمد برادة

حزامة حبايب ترسم بالحب طريقاً الى فلسطين

في روايتها الثانية «قبْل أن تنام المـلكة» (المؤسسة العربية،2011)، تثبت حزامة حبايب أنها ماضية في حفر مسالك كتابةٍ روائية تتوخى تكسير السرد الطولي، وتعطي الأسبقية لالتقاط تجليات الحاضر عبْر التفاصيل، وتطويع اللغة لاقتناص المشاعر المستعصية والاستفادة من مختلف وسائط التعبير الحديثة... وإذا كنا نعثر على جلّ هذه الخصائص في روايتها الأولى «أصل الهوى» (2007)، فإنها تطالعنا هنا، حاملة موضوعاً مختلفاً يُؤلف بين خصوصية الانتماء الفلسطيني، وكوْنية المشار الإنسانية المحايثة لتجارب الحياة.

يتكوّن النص من ستة أبواب وسبعة عشر فصلاً، وكل باب يحمل عنواناً يحيل على موضوع، أي أن الكاتبة تختار ستة موضوعات لها علائق بشخصيات الرواية ومحكياتها، فتغدو بمثابة «مداخل» يطلّ القارئ عبرها على أحداث ومشاهد وحوارات تتيح له أن يساهم في توليف أو ترتيب حكايات النص وفق الثيمات أو الشخوص أو الفضـاء... من هنا، يبرز عنصر التقطيع السينمائي ليحقق نوعاً من التوازي والامتداد الأفقي الذي يجعل زمنية النصّ ترتكز أكثـر على الحاضر حتى عندما تستحضر الماضي.

وفي الآن نفسه، نجد إحالة على بعض الأشكال التعبيرية المعتمدة على الصورة والتواصل السريع (الفايسبوك، اليوتيوب، السينما...)، فيحضر فيلم «ذكاء صناعي» للمخرج ستيفن سبيلبيرغ، وأفلام وثائقية عن شعراء وموسيقيين تعـرضوا للقمع في الشيلي... أي أن هناك حرصاً داخل البنية على تـوسيع فضاء الرواية، فلا يظلّ منحصراً في فضاءيْ الكويت والأردن اللذين استـوطـنتهـما عائلة نعـيم الفلسطيني مع زوجته وبناته وأبنائه. إلا أن الشخصية الأساس في الرواية، كما في عائلة «نعيم»، هي «جهاد» التي اختار لها أبوها اسم صبيّ لتكون إلى جانبه وتُعينه على أعباء أسـرة كثيرة الأبناء والبنات، ومطالبَة بمساعدة الخالات والعمّات والجدّات، وأحياناً أبناء الجيران.

وكانت بداية إقامة الأسرة في الكويت حيث كان الأب موظفاً في شركة للكهرباء، وحيث وُلدت جهاد ودرست وتفوقت على أقرانها، وارتبطت بالأدب والإبداع، وأخذت تنشر قصصاً قصيـرة لفتتْ أستاذ مادة المسرح في الكلية، إياس سليمان، ومهدت لعلاقة حبّ مستحيل بينهما... لكن منطلق الرواية يبدأ من «النهاية»، أي من اللحظة التي تودع فيها جهاد ابنتها «ملكة» العائدة إلى بريطانيا لمتابعة دراستها. تحكي لابنتها عن رحلتها هي، قبل أن تلدها وإلى أن كبُرت وابتعدت عنها. زمنان متداخلان، ولكنهما مختلفان.

في مرحلة الكويت، كان الأب نعيم هو عائل الأسرة والمنفق على إشباع البطون الجائعة، ومساعدة الخالات والجدة في عمان، والمستجيب لنزوات زوجته «روعة» المولعة بشراء تماثيل تؤثث بها غرفتها. واستطاعت هذه العائلة الفلسطينية المهاجرة أن تصبح نقطة جذب لبقية أُسـر الحي، لا تتأخر في مساعدة من يحتاج إلى معونة أو يعاني خبَلاً، مثلما هو الحال مع الجارة سكينة التي تُغـافل زوجها وتسرع إلى بيت آل نعيم: «... ثـم تباغتنا سكينة التي تغادر شقتها في غفلة من زوجها جميل النائم، حافية بشلحة زرقاء فاهية أصاب الفتق دانتيلها الأبيض من مطارح عدّة. كالمألوف، تفتح سكينة باب شقتنا المشاع بطبيعته من دون أن تطرقه، تنادي على أمي كي تعدّ لها كوباً من الكاكاو الساخن، فتخرج أمي من البانيو بسرعة، تلفّ جسمها بمنشفة صغيرة لا تستر سوى شذرات من لحمها المدور الذي يتوهج تحت ضياء الماء، حيث تصيح علينا كي نحضر شيئاً نغطي به سكينة وتطلب من إحدى شقيقاتي أن تضع الحليب على النار...» (ص 168).

وفي الكويت أيضاً تلتحق جهاد بالكلية وتتعرف إلى أستاذها إياس المتزوج، وتعيش معه قصة حب قوية، لكنه لا يستطيع أن يفارق زوجته فتتزوج جهاد من أستاذ آخر صديق لإياس، ويتعثر زواجها بسبب الغيرة، وتكون «ملكة» نصيبها من هذه التجربة القاسية. لكن الأقسى على العائلة هو غزو جيوش العراق للكويت، واضطرارها إلى الالتحاق بالأردن، حيث ستتولى جهاد الإنفاق على أمها وإخوتها بعدما اضطر أبوها إلى البقاء في الكويت... وهناك عنصر آخر في تشكيل «قبل أن تنام الملكة»، وهو اللجوء إلى الرّصد المرآتي (la mise en abîme) الذي يتمثل، هنا، في الإشارة إلى مسرحيتيْن لكل من جهاد وإياس («نقاش موضوعي»+»ج») تُحيلان على العلاقة المستحيلة بينهمـا، وذلك من خلال تركيب مختلف يعتمد «الفانتاستيك» والشعرية المجنحة؛ وكأن الكاتبة تريد أن تكسـر التفاصيل الواقعية التي تزخر بها الرواية.

كأنّ «جهاد»، الأمّ، وهي تسرد «رواية العائلة» على ابنتها الشابّة ملكة، تريد أن تمدّ جسراً ملموساً بين ماض ٍقريب يتجدّد عبر المخيلة والتخييل، وحاضر مستمر مع منْ عايشتهم في ماضيها القريب. من ثم يمكن القول إن أبعاد النص الدلالية تتوزّع على محورين، وفق بناء الرواية المُتقصد إلى الجمع بين «الموضوعي» المتصل بوصف علائق أفراد العائلة ورسم شخوصها من جهة، والحميمي المتمثل في استبار الساردة لتجربتها العاطفية وخيبتها من جهة ثانية.

المحور الأول يتوخى التأريخ لأسرة فلسطينية في الشتات طوال فترة تمتد من ثمانينات القرن الماضي إلى اليوم؛ والمحور الثاني المتداخل مع الأول، يحكي ويسائل تجربة «جهاد» العاطفية التي تأثرتْ بذلك السياق التاريخي الاجتماعي، وأيضاً بالحساسية الإبداعية لصاحبة التجربة. بعبارة أخرى، لا يحضر التاريخ في «قبل أن تنام الملكة» على شكل وقائع وأحداث، بقدْر ما هو حاضر من خلال استبطان الشخوص والمحكيات لتجليات تاريخية تمتزج بسماتٍ ذاتية تضيء ما يسجله التاريخ في صيغة تعميمية.

والمسألة الثانية التي تثير الانتباه في الحقل الدلالي، هي تلك العلاقة الوطيدة، المتواطئة، بين جهاد ووالدها نعيم. هو قريب إلى نفسها لأنه يثقُ في «رجولتها» على رغم أنها امرأة، ويعجب بذكائها ومجابهتها للصعاب، ويجد عندها صفاتٍ يفتقدها في زوجته. فضلاً عـن ذلك، تجمع بينهما رومنطيقية مشبوبة جعلتهما ينجرفان نحو الحب المستحيل. فقد اكتشفتْ جهاد أن أباها تعلّق من بعيد، بامرأة شابة لبضعة أشهر من دون أن يجرؤ على مفاتحتها بحبّه. وهي عاشت تجربة عشق مع إياس ثم تزوجت من رجل لا تحبه. لذلك سرعان ما تكتشف الخيط الرابط بينها وبين والدها: «جلستُ إلى جانبه فيما كانت الموسيقى الضاجّـة في الأسفل تبلغ نهاياتها، أشعلتُ سيجارة لي وله، ندخن منكسيْ الظهر والنفس. كان أبي رجلاً وحيداً ومهزوماً، وأنا كنت – من دون أن يعرف أبي ربما - امرأة مهزومة أكثر» (ص309).

وتخصص الرواية بضع صفحات مركزة، لاستحضار غزو الكويت وما خلّفه من مآس، فتسلك سبيلاً غير مباشر من خلال تصوير حالة مجموعة من الخادمات السيرلانكيات اللائي وجدْن أنفسهن مهددات بالاغتصاب وفقد ما جمّعنه من مال قليل، لولا أن بيت نعيم الفلسطيني وعطف جهاد قدما لهن المأوى والحماية على رغم الظروف القاسية...

أيضاً، يمكن أن نلفت القارئ إلى توظيف الكاتبة لنصين مسرحييْن في نوع من الرصد المرآتي الذي يُعضد بعض الدلالات الواردة في الرواية، وفي الآن نفسه يخلخل المنحى الواقعي للكتابة ويضفي عليها سمة ما فوق الواقعي؛ كما يتجلى من استحضار مضمون مسرحية «ج» التي كتبها إياس وأهداها إلى جهاد، وأخرجها ابنه بعد موته وعرضها في عمان حيث تعيش حبيبة والده... في مشهد المسرحية الأخير: «تقف جيم في منتصف خشبة المسرح، وتقرر أن تجرب كل شيء لتصبح جميلة (...) وبمصاحبة موسيقى تشارف الصعود، يتفتق من ظهر جيم جناحان يكبران، يفردان فيفترشان سماء المسرح. كأنّ البطلة تبدّلتْ، فالفتاة العادية جداً، تحولتْ إلى امرأة جميلة، ترتدي فستاناً بلون بحر ليليّ غافٍ وجناحيْن بلوْن الهواء». على هذا النحو، يتمّ التشديد رمزياً على ضرورة «التحوُّل» لكي يستطيع الكائن البشري أن يواجه الحياة بشجاعة وتحدّ، على نحو ما فعلت جهاد في تجربتها الصعبة.

ما يستحق الإبراز، في نهاية التحليل، هو أن حزامة حبايب في روايتها «قبل أن تنام الملكة»، عرفتْ كيف تستثمر الماضي القريب، الطازج، لتضيء وتُجسد الحاضر الممتد عبر مراوحة مأساة فلسطين في مكانها، وعبر استمرار الأفق المنغلق الذي لا تجد الشخصية الأساس (جهاد) من وسيلةٍ لمجاوزته سوى أن تتخذ من الكتابة والحبّ متكأً يسند رحلتها على طريق التحدي والأمل. وهي أنجزت ذلك في شكل فنيّ جاذب، ولغة متعددة المستويات، وقدرة على الوصف متدفـقة، وحضور للدعابة الساخرة يتخلل المشاهد... وكلها خصائص تتيح للرواية أن تتخطى إحالاتها التاريخية والاجتماعية، وأن تعلو على السياق المرتبط بظرفيتها.

عن جريدة الحياة


يقدم موقع دارالحياة.كوم، إضافة إلى المحتوى الخاص به الذي ينشر على مدار الساعة، محتوى المطبوعات التي تنتجها« دار الحياة »، بنسخها الإلكترونية، وهي : الصحيفة اليومية « الحياة » الطبعة الدولية على العنوانين الأول أو الثاني، والحياة السعودية الطبعة السعودية، والمجلة الأسبوعية لها. ويضم دارالحياة.كوم أيضاً حاضنة للخدمات الرقمية على العنوان.

دارالحياة.كوم محطة تزود الزوار بالمستجدات والتقارير والتحليلات وبمواد أدبية، من صحافيين ومراسلين من الحياة، ومتعاونين آخرين. ويسعى إلى تأمين التواصل بين القراء وكتاب المطبوعات. كما يؤدي دور الواجهة التي تروج لمحتوى المواقع الثلاثة الأخرى. كذلك، يرعى دارالحياة.كوم مشاريع صحافية مستقلة ويستضيفها.


 أصل الهوى

رواية « أصل الهوى » للكاتبة والقاصة الفلسطينية حزامة حامد حبايب

اخترنا لتقديم هذه الرواية تحليل وليد أبو بكر المنشور على موقع جهة الشعر وتعليق جريدة السفير اللبنانية بقلم صقر ابو فخر :

توازي الشخصيّات بدلا من تقاطعها: أسلوب مختلف في السّرد الرّوائيّ حزامة حبايب في رواية « أصل الهوى »

وليد أبو بكر

عن موقع جهة الشعر

كثيرا ما يرى نقاد الأدب أن الحياة تدبّ داخله بمجرد أن يبثّ الكاتب أنفاسا في شخصياته، ويقنعنا بحقيقة هذه الشخصيات. والرواية في محصلتها ليست سوى مجموعة من السير الذاتية المتوازنة لشخصيات تتحرك داخلها، فتخلق الأحداث التي تنتج تغيّرا يتجه بهذه الشخصيات جميعا إلى صيرورة مختلفة، أو واقع مختلف، يمكن اعتباره المعنى الذي يكمن وراء العمل الروائيّ عموما. ومنذ عرف هذا الفن، واتضحت بعض قواعده من خلال الاستبطان الذي قنن ما أنتجه الكتاب وطوروه، في مجموعة من القواعد التي تتصف بثبات نسبي، دون أن تلغي إمكانيات التطوير، جرت محاولات لا تتوقف لمناقشة هذا الرأي، كان معظمها، في بعض الفترات، يسعى للوصول إلى نفيه، خاصة لدى الحركات الأدبية التي تبنت شمولية النص، دون تحديد للونه الأدبي، بدءا من محاولات إعلان موت المؤلف، الذي بادر إليه رولان بارت، وصولا إلى محاولات إلغاء الشخصيات كليا، واعتبارها عنصرا عاديا من العناصر التي تؤلف الرواية، أو مجرّد عنصر شكلي وتقنيّ للغة الروائية، كما رأت الموجة التي حملت اسم”الرواية الجديدة" في فرنسا، والتي يمثلها كل من ألان روب غرييه، وناتالي ساروت، لأنها لاحظت في الشخصيات الروائية لدى الكتاب السابقين كمالا أكثر من أن يكون صحيحا، أو لأن بعض الشخصيات الروائية، من وجهة نظر نقدية، كانت تطغى على العمل الروائي كله، أو تحيله إلى نوع من الصيغة الثابتة التي لا تنايب الفن، ما يجعلها تبدو مقحمة وغير جديرة بالإقناع، وتعجز عن تشكيل الكائن الحيّ، أو العضوي، الذي كانت الرواية التقليدية تطمح إليه في شخصياتها المحورية.

لكن الشخصيات استطاعت أن تحافظ على وجودها المستمر والمتنامي، وعلى مكانتها المهمة في العمل الروائي، متجاوزة في ذلك كل ما هو تجريبيّ خارج إطار الاعتماد عليها، ومستفيدة منه في الوقت نفسه.

وقد تزايد اهتمام مثل هذا الاتجاه بالشخصية في الرواية، إلى حدود المبالغة، فظهرت آراء عملت على تعزيز موقف الشخصيات الروائية، فاعتبرت هذه الشخصيات في أية رواية، من قبل كتابات نقدية متعددة، حبكتَها الحقيقية plot، أو بمعنى آخر، الأساس الذي تقوم عليه مادة الرواية بشكل عام، بما تتضمنه من أحداث وصراعات وعلاقات، خصائص زمانية/مكانية. وقد وردت هذه الآراء على شكل تنظيرات لفن الرواية، والأنواع الأدبية الأخرى، بعد انحسار موجة الرواية الجديدة.

مع ما استجد من واقع في هذا الاتجاه، لم يكن غريبا أن توصف الشخصيات، من قبل الروائي التشيكي المعاصر ميلان كونديرا، وبلغته التي تتساوق مع أسلوبه في كتابة الرواية، بأنها “تُتابِع استعادة الكائن، وتكتشف أيّ جزء جديد من الوجود” ، وهو ما يعني أنها تشكل عاملا هاما في تحفيز الحراك الاجتماعي، من خلال وعي الشخصيات بواقعها، وتطلعها إلى تغييره. كما يصفها مالكولم برادلي بأنها “تعرِض خياليّة الواقع، وتزيل كلّ السدود بين الحقيقيّ والمتخيل” ، وهو نوع من التداخل الذي يقيس نجاح الرواية بقدر ما تتقن المزج بين عناصره، ما يعني أن الشخصية تقترب من النجاح بقدر ما تقترب من الكائن الواقعيّ في حياته، وهي حياة لا يمكن أن تسير على نمط واحد، وكثيرا ما تلتقي فيها المتناقضات، لأنها إنسانية بحتة، بعيدة عن أي كمال كلي أو نسبي. ومع الأهمية القديمة والمستجدة لموقع الشخصية في الرواية، بات من المسموح به اعتبار الوصول إلى تجسيدها، كتابة، “أهمّ قدرة تخييلية يمكن أن تكون لدى الكاتب، بل قد تكون القدرة الكتابية الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يعلّمه إياها بشكل مباشر” ، وهو ما يعني أن موهبة الكاتب تكون في قدرته على بناء شخصيات روايته، وتحديد سماتها، وهو أمر كائن فيه، بينما تبقى المهارات الأخرى المتعلقة بهذا الفن، والتي تجعل من الرواية عملا ناجحا، قابلة للتعلم.

وفي حين أن من الممكن أن يتم تعليم كتابة السرد أو الحوار أو اختيار الزمن أو غير ذلك من العناصر الروائية، فإن كل ما يمكن أن يقال حول الشخصيات الروائية، في مجال التعليم، لا يزيد عن تحذيرات أو توصيات حول ما يجوز وما لا يجوز، وحول طبيعة الشخصيات المدوّرة في الرواية، أوالشخصيات المعقّدة، والشخصيات المسطحة، وحول نوعيات السرد التي تكون فيها الشّخصنة characterization ذات أهمية، وحول العلاقات بين الشخصيات، وغير ذلك مما يدور حول ما يلي الشّخصنة ذاتها، بمعنى تحديد السمات الأساسية للشخصيات، لأن كل ذلك لا يتم إلا بعد إنجاز هذه العملية. والشخصية الروائية، هي اختراع ذاتي يقوم به المؤلف، لكن هذا الاختراع في الغالب لا يأتي من فراغ، لأن له مقدمات تسبقه، يستند فيها الكاتب إلى ما يعرفه في حياته وتجاربه من أشخاص، بعضهم قد يكون مقرّبا منه، وبعضهم الآخر قد يمرّ عابرا، ولكنه يترك وراءه أثرا لا يمحى. وما يقوم به الكاتب، في العادة، هو إعادة تركيب ما هو موجود في الواقع، لكن بشكل مختلف، ربما يكون بمزج مجموعة من الصفات التي يقوم بالتقاطها من عدد من الأشخاص persons ، لتجتمع في شخصية واحدة character. وتكون أهم هذه الصفات في العمل الأدبي المتقن صفات داخلية ذات وظائف فاعلة في سلوك الشخصية وعلاقاتها داخل هذا العمل، لا ضير في أن ترتبط بصفات جسدية موحية، على ألا تكون مجرد صفات مجانية، لا رابط بينها وبين الأحداث.

والحبكة التي يقوم عليها البناء الروائي تتشكل من علاقات الشخصيات الروائية بعضها ببعض، ومن علاقاتها بغيرها من العناصر الروائية، كالمكان والزمان وما يدور فيهما من أحداث تؤثر على هذه الشخصيات.

وحتى تبنى هذه الحبكة بشكل ناجح، ولا يفتقر إلى التشويق، تعمد الرواية إلى نوعين من الأساليب الكتابية: الأول هو توظيف السارد في التعبير عن مجرى الأحداث، في أشكال كثيرة مطروقة، تتنوع من خلال الاحتمالات الثلاثة للسرد، التي تمثلها الضمائر الثلاثة، الأنا والأنت والهو، من ناحية اختيار الضمير الذي يروي، وماذا يروي، وكيف يرويه. والثاني هو افترض التقاطع الحاد بين بعض الشخصيات المركزية، الذي ينتج عنه نوع من الصراع، ينمو معه العمل الروائي، حتى يصل إلى مداه. ولأن الشخصيات الرئيسية في العمل الروائي لا ينتهي دورها إلا بانتهاء العمل ذاته، فإن تقديمها بنجاح، لا يكون مرة واحدة، تلقى فيها سماتها ومجمل ما يملأ حياتها، ولكنه يتم بالتدريج، متساوقا مع نمو الأحداث التي تستكمل إلا مع النهاية.

الحبكة والشخصيات: تضافر السياسي والجسدي

رواية حزامة حبايب “أصل الهوى” رواية شخصيات بامتياز، وكل بنائها يقوم على ذلك، يدلّ على ذلك أن المراجعات التي كتبت عنها في الصحف العربية اليومية الأساسية، غالبا ماركزت في عناوينها على الشخصيات، فكان هناك عنوان مثل “خمسة رجال وخمسة جروح” وآخر مثل “نصّ عن رجال خمسة لا تستطيع تطريزه إلا امرأة” ، لأن الشخصيات هي العنصر الأكثر بروزا في العمل، وهي التي تواجه الناقد منذ البداية، بل يمكن القول بالضبط إن الشخصيات هي العمل كله، منذ احتلالها جميع العناوين الفرعية فيه، حتى وصولها إلى لحظة النهاية. لذلك سيكون من الملاحظ بشكل أساسي، أن الكاتبة بذلت عناية قصوى بكل واحدة من شخصيات روايتها، التي تبدو بارزة وهي تحتل عناوين الفصول، وتبدو مؤثرة وهي تتضح داخل هذه الفصول، بنمو منطقي وتدريجي، ودون ضجة. وقد عملت الكاتبة على استكمال تفاصيل سماتها الشخصية، من خلال سلوكها الداخلي والخارجي معا، وإن كان اتكاؤها على الوصف الداخلية أكبر، فقد قدمت التفاصيل الحياتية لرجال لم تصف “ملامحهم الخارجية”، وإنما نبشت في كل مكونات الشخصية التي تتعامل معها، وفي الدوافع الخفية التي تقف وراءها، بوعي كامل لكل ما تفعل، استحقت الرواية معه بأن توصف بأنها “رواية جادة ومهمّة من حيث تقنيات السرد أو أهمية القضايا والموضوعات الحساسة التي تتناولها” ، وبأنها تطرّز ماضي شخصياتها “غرزة غرزة، بخيوط متعددة الألوان، مثل ثوب قرويّ جذاب، يخفي تحته أرواحا ذات قدرة على حكايات عشق متعددة الطبقات” ، ما يشير بوضوح إلى أن شخصيات “أصل الهوى” مركبة شديدة التعقيد والعمق، لا مسطحة فارغة.

من أجل التوصل إلى هذا العمق، لجأت الكاتبة إلى الكشف الدقيق والمطلق، عما يتعلق بشخصيات روايتها، وهو كشف “ليس جسديا وحسب، إنما يمتد إلى عمق تفكيرها، وسراديب المناطق المعتمة في بنائها الداخلي، ومكامن قوتها وقدرتها على الإمتاع والإشباع، والإيقاع بالآخرين أيضا” . ولأن شخصيات الرواية يائسة تماما، نتيجة عوامل لا تستطيع دفعها، فقد كان التعامل مع الجنس في الرواية، جزءا من الكشف عن المناطق المعتمة في هذه الشخصيات، فكان “وسيلة لتعرية البؤس والتهميش اللذين يعاني منهما البشر عموما، والفلسطيني خصوصا” . ومن هنا جاءت الرواية على شكل “كتابة أدبية تخترق المنع، لا لادعاء جرأة، بل لكشف مأزق، وتفتح كوّة في جدار الحصار الأخلاقي المتزمّت، لا لتصنّع المواجهة، بل لإضاءة أزمة” . وإذا كان المجتمع العربي غارقا في واقعه المهزوم، فقد أنجزت الكاتبة رواية واقعيّة، هي صورة لهذا المجتمع، من خلال خمسة رجال، وخمسة عوالم فردية وعامة، وخمسة منافذ إلى الألم والخيبة والتيهان في داخل الذات أو في خارج البيئة “عندما جعلت قوام العمل من”الشخصيات المأزومة والمهزومة “وبعد ذلك”صنعت من قصصها المأخوذة من صلب حياة يومية ومعروفة، نصّا أدبيا يشير إلى مسألة ما، بمواربة إبداعية مغلّفة بجمالية أدبية" ، لتخرج برواية سياسية دون “أن تخطّ حرفا في السياسة”.

لأن الخيط الرئيسي الذي يجمع الرجال الخمسة، الذين يحتلون عناوين الفصول، هو أنهم فلسطينيون، يعيشون خارج وطنهم المحتل، ويصرون على ترسيخ هويته، “وسط محاولة إذابتها أو صهرها أو تجاوزها في بعض الأحيان” . مع كل هذه المقدمات التي توحي بأن رواية تقليدية ستكون في الطريق، فإن الكاتبة تفاجئ القارئ بأنها لا تلتزم بالبنية التقليدية للرواية الواقعية التي تقوم على جود الشخصيات، لا من ناحية الراوي، مع أنها تلتزم براو واحد، يروي بضمير الغائب، وهو من النوع السائد الذي يسمى الراوي العليم ، وذلك لأن الراوي، في هذه الرواية، يقوم بمهمة مجموعة من الساردين في النص، حتى يبدو وكأنه راو متعدد، ولا من ناحية العلاقات التي تقوم بين شخصيات الرواية، ما حمل عناوينها الفرعية منها، وكلّهم من الرجال، وما كان صاحب فعل داخلي في تحريك الأحداث أو صناعتها، في الغالب من النساء، لأن مثل هذه العلاقات غائبة تماما. وإذا كانت النظرة الأولى إلى الرواية توحي بأنها تنسج على طريقة ما سبقها في هذا الشكل، الذي يعني تعدد الفصول بتعدد الشخصيات، فإن ذلك سرعان ما يتغير، ليكتشف القارئ أنه يدخل عالم سرد مختلف، لا تخضع الرواية فيه “لشروط الاستيعاب التقليدي، الذي يمكّن قارئها من الإحاطة الشاملة بمفرداتها ومساراتها الزاخرة بالأحداث”، ربما كان وليد الرواية ذاتها، حين خلقت شكلها الخاص، ومن خلاله “خرجت عن التقليدية في اللغة والسرد وتقنيات الطرح”، لا باعتمادها لأشكال سابقة معروفة، وإنما “في شكل جديد للرواية العربية” :

هناك خمسة رجال يتكرّر ظهورهم بالترتيب نفسه في كلّ جزء من الأجزاء الثلاثة، يروى عن كل واحد منهم بضمير الغائب - مستقلا - في كلّ فصل، ما يوحي بأن كل واحد منهم يستكمل سيرة الآخر من وجهة نظره - الروائية - كما يحدث عادة، حتى في الروايات التي اتخذت شكلا حداثيا. لكن المفاجأة تكون، منذ السطور الأولى في الرواية، أن هذا الشكل في السرد جديد كليا، لا سابقة معروفة له. إن استقلال كل شخصية عن غيرها من الشخصيات العناوين، ليس في الاحتلال الكامل لفصل من الفصول في كل جزء، وإنما أيضا لأن سيرة الشخصية لا يربطها رابط من علاقات، بسيرة شخصية أخرى - من الرجال فكل سيرة تروى وحدها، بشكل منفصل، تكاد تختفي معه الشخصيات الأخرى، حتى أن كل ثلاثة فصول عن كل شخصية، في أجزاء الرواية الثلاثة، تكاد تشكل رواية مستقلة، لا تحتاج في حبكتها إلى وجود الرجال الآخرين إلى جانبها، لأن الشخصيات الأخرى لا تتقاطع في حياتها مع غيرها من الشخصيات المجاورة، ولأن الأحداث لا تنتج عن تفاعل هذه الشخصيات الأساسية، بعضها ببعض، ولأن وجودها معا لا يخلق أي نوع من الصراع، بقدر ما يشكّل ما يمكن أن أسميه “الكتلة الشاملة” التي تتقاطع مع الواقع، ثابتا ومتحوّلا، فتنتج مادة الرواية، التي يمكن اعتبارها توحيدا لروايات ثلاث، يمكن أن يقارن بتجارب عربية معروفة، حول مجموعة من القصص، تشكل في محصلتها ما يمكن أن يسمى رواية واحدة.

إن الوصف السابق لهذه الرواية بأنها “متعددة الطبقات” لا يبتعد كثيرا عن واقعها السردي، لأن فلكل واحد من رجال الرواية الخمسة، سيرته الخاصة، التي قد لا يعرف عنها رفيقه إلا القليل الذي لا يمانع في أن يكون معروفا فيبوح به. فرمزي عيّاش، مثلا، الذي يتعذب بسبب حلم يتعلق بابنته سمر، يروي شيئا عن هذا الحلم لعمر السرو، الذي يعمل في تفسير الأحلام في صحيفة المؤسسة التي تعمل فيها معظم الشخصيات، فتحدث عن سيارة الحلم السوداء، وعن الشارع، والعتمة، لكنه لم يحسم “أمره بشأن ما إذا كان يتعين عليه أن يشير إلى تفصيلة الثديين الممزقين في الشارع. كان قد أغفلهما من رواية الحلم عمدا. استحى أن يتحدث عن الثديين أمام عمر، فقد يجد نفسه مضطرا إلى وصفهما. آثر أن يسقطهما، مجازفا ألا يستقيم معنى الحلم دون التطرق إليهما”. مع أن ما يروى عن علاقة هذه الشخصية، بابنته موضوع الحلم، أغرب من أن يكون حقيقيا. إن المرويّ عن ظاهر الشخصيات بين بعضها بعضها، لا يشكّل إلا جزءا بسيطا من الحياة الباطنية السرية التي تكشفها متابعة الدوافع الداخلية والمشاعر، وتردّها بشكل فرويديّ حديث، إلى منابعها القديمة في الطفولة، ليظهر أن الصورة الحالية لكل شخصية، ليست سوى تكوين من التراكمات التي اختزنتها في طبقات متعددة عبر سيرتها، وهي تراكمات تشكل تغيّرا مرافقا للتغيرات التي تحدث في الواقع، وتجرّه في معظم حلقاته، من سيء إلى أسوأ.

ما تعرفه الشخصيات عن بعضها ليس بكل تأكيد العامل الأساسي الذي يغيّر، حتى وإن بلغت العلاقات رابطة دم، كما هو الحال بين رمزي عيّاش وولده فراس، فما يحدث التغيير قضايا أكثر عمومية، وأكثر ارتباطا بالمجتمع، تبدأ من فقدان الوطن، ولا تنتهي عند ما يمكن أن نسميه فقدان الشتات. وهي قضايا حاسمة، تحيل حياة كل شخصية، على حدة، إلى توتّر دائم، ، كما تحيل حياة الشخصيات معا في الوقت ذاته، ما يجعل هذه الشخصيات تتوازى مع بعضها، بدلا من أن تتقاطع، ليمرّ عليها مشرط الحياة الواحد، ويخترقها جميعا، في محطات حياتية تتشابه في غالب الأحيان، حتى وإن اختلفت في الزمان والمكان. ولأن القضايا العامة التي تتناولها الرواية هي التي تشكل الفعل الحاسم فيها، فإن جدّيتها لا تكون موضع شك، عندما لا ينظر إليها بشكل سطحيّ، وسوف يدرك القارئ أن كل الجرأة التي تحملها، في التعامل مع الجسد من ناحية، ومع الواقع المسكوت عنه، سياسيا واجتماعيا، من ناحية أخرى، إنما تشكل إحدى الأدوات الحادة الوعي لدى الكاتبة، والحادة تماما في فتح جروح لا يرغب من ساهم في خلقها بأن تفتح، ففي الرواية “قراءة تتناول الجسد والروح والحياة النفسية والعاطفية للإنسان، ومن خلال تجارب واقعية، ولغة تجمع الواقعية الخشنة والشعرية معا”.

مفاتيح النص وحوار الصورة والواقع

يبدأ واقع الشخصيات في مدخل الرواية - من صورة قديمة لبعض الرفاق، بالأبيض والأسود، “يحمي رفقتهم إطار نحاسيّ عريض، وغطاء زجاجي بصدع جانبيّ”، توازيها صورة أخرى - مع بداية الجزء الأول - لرفاق خمسة، التقطت أواخر الخمسينات. والصورة تتقاطع في كل من الصالتين مع جهاز عصري ملوّن، لم يكن موجودا، بكلّ نوعه، في الفترة التي التقطت فيها، هو جهاز التليفزيون. وإذا كانت كل صورة تطلّ على الماضي بكثير من الغموض الذي يوحي به لوناها الحائلان، حتى ليكاد يخفي أشخاصها، رغم الإطار الباقي مع الزمن، فإن الجهاز ينقل الحاضر بكلّ تفاصيله وألوانه، إلى درجة لا تترك شيئا للخيال، فتثير الملل، ما يدفع إلى إسكات صوته، ربما ليمرّ الحدث الأكبر الذي يعرف الجميع أنه سيحدث، والذي يمنح الرواية هويّتها الحقيقية، دون أن يشعر به أحد.

في مدخل الرواية، الذي يقل عن صفحتين، مفتاح لكل واحد من الشخصيات الخمسة في الرواية، لا في الصور، يصف ما هو عليه حاله الآن، مما سيتم تفصيله خلال الصفحات الطويلة التي تستغرقها الرواية (306 صفحات)، أما في الخاتمة، التي تقل عن صفحتين أيضا، والتي تبدو وكأنها استمرار للتجمّع الأول أمام التليفزيون في بيت كمال القاضي (56 عاما)، ولكن بعد فترة من الزمن، استغرقتها كل الأحداث التي تروى، فإن الشخصيات تبدأ إدراك مصائرها: إنها تتحول إلى أربعة، لأن، رمزي عيّاش (64 عاما)، أكبر الشخصيات سنا، والذي كان حضوره زائرا للشخصيات الأخرى، التي تعمل معا، وتلتقي باستمرار، غلبته الحياة، فمات، (وذلك يوازي الحدث الذي يتوقعه الجميع، والذي يتضح غموضه حين يسأل كمال القاضي، في آخر سطور الرواية: مات أبو عمار؟ ليردّ عليه فراس عياش: ليس بعد )، أما الشخصيات الأربعة الأخرى، فقد استلبت من كل منها السمة التي التصقت بها خلال سيرتها التي تروى: موبايل إياد أبو سعد (43 عاما) لم يعد يدق معلنا عن وصول الرسائل القادمة من امرأة كانت تستمر في الشغب عن طريق الرسائل، وكان يقرر بعد كل لقاء جنسيّ معها أن يتركها. وعمر السرو (49 عاما)، الذي كانت مهمّته الرائجة في العمل هي أن يفسّر أحلام الآخرين، التي يرسلونها إليه، لم يعد يرى، خلال نومه، أحلامه الشخصية، وإنما أحلام الآخرين، كما هي أحيانا، ومتداخلة في أحيان أخرى. وفراس عيّاش (37 عاما)، كان قد عاد من دفن والده الذي رحل، وعرض بيته للبيع، كما أجّل، مرة أخرى، زواجه من خطيبته، ربما كمقدمة للتخلص من خطبة لم يكن جادا تجاهها. أما كمال القاضي نفسه، فهو يتوقف، في اللحظة الأخيرة، عن الاعتراف بعدم صدقية الموضوع الذي شغل به زملاءه سنوات، الاعتراف بأنه ليس أحد أصحاب الصورة التي يتبارون في التعرف على شخصيته فيها، بعد أن يكون كشف للقارئ عن كذبة طويلة المدى، تحوّلت بين الأصدقاء الذين يصدقونها إلى لعبة تملأ فراغهم الهائل، وسط عجز عن الفعل أشدّ هولا.

وفي مدخل الرواية أيضا، يحتلّ التضاد بين صورة الأبيض والأسود، وشاشة التليفزيون الملون الصامتة، والإطار النحاسيّ العريض، والزجاج الذي لم يكتمل صدعه، أبعادا يحسن أن تظلّ في الذهن مع تقدّم أحداث الرواية، لأن تمكن الكاتبة من أدواتها الفنية يبدأ من هذه العناصر الصغيرة التي تكبر، وتتحول إلى ذكريات، وإلى شروخ كثيرة، في زجاج كثير، وقبل ذلك في النفوس جميعا، وهي توظف في تشريح الشخصيات، بكثير من الدقة، وكثير من الوعي. في الأسود والأبيض خمسة من الشباب، التقوا في مرحلة العمر تلك، دارسين في الكويت أول الأمر، عاملين فيها بعد ذلك، حتى طردوا منها بعد “حرب تحرير الكويت”، فتوزّعت بهم السبل، في نكبة حادة ثانية، خلقت من جديد، شتاتا في مجتمع فلسطيني واسع، شعر هناك بشيء من الاستقرار، الذي يرافقه الهوان بشكل أو بآخر. كان كل واحد في الصورة يخطط لمجموعة من الأحلام، تنمّ عنها نظرته المتفائلة نحو الأفق. وهذه الصورة تشكل نوع من المعادل، مع الرجال الخمسة الآخرين، الذين تروي عنهم الرواية، لتتداخل تفاصيل حياتهم مع التجربة الكويتية، من خلال رمزي عياش، الذي عاشها كاملة، بكلّ حلوها القليل ومرارتها الكثيرة، والتي بشرته بها بداية رحلته إلى هناك قبل عقود، حين استقبلته بعضّة جرذ، تلك البلاد الصحراوية، التي كانت ما تزال على عفويتها، وتتطلع إلى أن ينهض بها أمثاله. وقد رقد بسبب العضة في الفراش أياما، غارقا في الكوابيس والهلوسات إلى حد كبير، ما يوازي كثيرا من أحلام الحياة المريحة هناك، التي تحولت في نهاية الأمر إلى هلوسات وكوابيس.

التجمع الجديد يكون في مرحلة جديدة لخيبة أخرى، وفي بلد خليجي آخر، وهو يحمل معه كل الوقت خوف الطرد مرة أخرى، بحيث يتحول إلى قلق وجودي، يظل مثل حمل ثقيل فوق كتفي الفلسطيني، أو مثل حقيبة السفر، أو مثل أشيائه التي لا يستطيع أن يتركها خلفه، أو أن ينساها كلما رحل. هذا القلق يشكل واحدا من عوامل التكامل داخل الرواية، فيضبط وحدتها، إضافة إلى عوامل أخرى، طبعت حياة الفلسطيني، التي تقوم على القلق، حتى أصبح مناسبا أن تكون نوعا من “جغرافيا الخروج والدخول الفلسطيني” . والغموض الذي لا يستطيع أن يحدّد الشخصيات في الصورة الأولى، يعني، بكل وضوح، أنها شخصيات رمزية، قادمة من زمن الحلم القديم، وليست مقصودة بذاتها - تماما مثل شخصيات الصورة الثانية، وشخصيات الرواية - ولا أفعالها مقصودة بذاتها أيضا. والتفاصيل التي تعلق بكل شخصية من شخصيات الرواية بعد ذلك، لتحدد سماتها، هي جهد كبير في تشريح الواقع الذي يعيشه الفلسطيني - عموما - في “أوطان” لا يستطيع أن يقبلها بديلا لوطنه، وهي في الوقت ذاته لا تقبله مواطنا غير منقوص، وإن كان الطرفان، لدى الحاجة، أو الضرورة، يتصرفان بغير ما يمليه مثل هذا الشعور المتبادل.

جاء هذا التشريح من خلال فتح أدقّ التفاصيل، وأدقّ الخصوصيات، وربما أدقّ التابوات التي تملك الرواية جرأة غير عادية على الدخول فيها بشجاعة وصدق، ما يمكن أن تعتبره العقلية العامة لأيّ رقيب متجسّد أو معنويّ، التي تمارَس على الفن الصادق، مما يخدش حياء المجتمع، لتتخفى وراء هذه الصفة الغبية والقابلة للاتساع، وتعلن قرار المنع أو التحريم، وهو في الواقع قرار حرب ضدّ كل ما يعرّي ما يشكل خطرا على بقاء الحال كما هو، أو بقاء الثوابت فيه، مكرّسة بالكامل لخدمة من يستثمرونها لممارسة سلطة لا يمكن أن توصف إلا بالقمع. لكل ذلك، ينبغي النظر إلى هذه الرواية باعتبارها كتابا “في الحبّ والجنس والسياسة والبيئة الضيقة للمجتمع العربي” ، حتى يمكن الوصول إلى تجلياتها، لأن الوقوف المباشر عند ظاهر بعض المشاهد، أو حسيّتها، هو الذي يخدش طبيعة الوعي ذاته، لا حياء المجتمع.

وجهة النظر هذه تنسحب على الشخصيات الخمسة التي تروى سيرها في صور توحي بما كانت عليه في طبيعتها الأولى، ثمّ في صيرورتها الأخيرة، مع الخيبات الكثيرة التي تعرّضت لها، وهو ما تؤكده الرواية في نهاية الأمر، عندما تشير إلى أن صورة الأحلام القديمة، التي تحتلّ سطح التليفزيون الحديث، لم تكن حقيقية، فهي لا تضمّ صورة لأي من الأصدقاء، وإنما كانت تخصّ مستأجرا سابقا، نسيها في خزانة ما حين رحل، فوضعها كمال القاضي، المستأجر الذي جاء بعده، فوق جهاز التليفزيون، حتى يجدها حين يطلبها صاحبها، ثم بقيت منسية هناك، لا يستفاد منها إلا في تسلية الأصدقاء.

بنية التقاطعات وتوالد الخيبات

إن تفاوت الأعمار بين الرجال الخمسة، وتحديد ذلك بشكل مقصود، إضافة إلى تعدد الأماكن، يشير إلى تواصل في الخيبات التي عايشها الفلسطيني عبر أجيال متلاحقة، في زمنه الأخير، وهو استمرار بدأه الأكبر سنا مع النكبة الأولى، واستمرّ فيه بعد النكسة، إلى جانب كل ما استجد ومن استجدّ في خضم ذلك. لكن تفاوت الأجيال غير الكبير، الذي يقع بين الولد (37 عاما) ووالده (64 عاما)، ليستغرق ثلاثة عقود أو أجيال، لم يكن عائقا أمام أسلوب التوازي الذي اختارته الرواية، والذي يتمدد على مساحة أجزائها الثلاثة. وقد رأت الكاتبة، من أجل هذا الأسلوب، أن تقدّم كل شخصية وحدها، وأن تقدّمها في ثلاث مراحل من حياتها، وأن يكون ذلك بالترتيب الذي يعتمد نسبة عالية من السيمترية، “إذ تقدم في الجزء الأول اللحظة الراهنة المأزومة المتمثلة في الحياة الجنسية لكل من هذه الشخصيات،[...] وفي الجزء الثاني تعود إلى طفولة هذه الشخصيات وشبابهم، لتختم في الجزء الثالث بما وصلت إليه مصائرهم” . ورغم وجود بعض التداخل في مثل هذا التحديد، يفترضه الاستخدام المتكرر لصور الذاكرة، عندما تتداعى في ذهن الشخصية، وهو ما يتكرر باستمرار، ليشكل معظم مادة الرواية، إلا أن الخطوط العريضة تبقى صحيحة، وقادرة على أن تكشف التوازي الذي يكاد يكون مطلقا بين الشخصيات، وغياب التقاطع المؤثر، رغم علاقة الدم بين شخصيتين، وعلاقة الصداقة التي ترتبط بها الشخصيات جميعا، وعلاقة العمل الذي يجمع أربعة منهم تحت اسم له إيحاءاته أيضا، هو مؤسسة “العالم العربي”.

ومع تعديل في ترتيب الفصول في كل جزء من أجزاء الرواية، للبدء بما يمكن تسميته “فترة التكوين”، صعودا زمنيا إلى الفترات التالية، والتعامل تنازليا مع أعمار الشخصيات، يتجلى هذا التوازي بشكل أوضح، وتتجلى معه العناصر التي تربط هذه الشخصيات، وهي تحافظ على استقلالها، لتقدم رواية بشكل مختلف. كل واحدة من هذه الشخصيات تعبر مجموعة من المحطات التي تعبرها الشخصية الأخرى، في إطار يكاد يتشابه، وإن اختلفت أسبابه أو دوافعه، ما يؤكد أن حالة التوازي حقيقية، وأنها ليست عفوية، في صيغتها الكتابية، حتى وإن جاءت كذلك بالفعل، أو بدت كذلك في بعض الأوقات، لأن البنية التي اعتمدت للرواية، هي التي عمدت على التوصل إلى توازن أجزائها، بوعي أو دون وعي. وإذا كانت لكل شخصية جذور في طفولتها لسلوكها الذي يتكشف في لحظتها الحالية، فذلك أمر علمي إلى حد كبير، وإذا كانت كل شخصية تتعرض للخيانة، أو تمارسها على غيرها، فإن الخيانة نتاج مجتمع يعيش أزمته، وتعيش فيه الشخصيات جميعا، وذلك ما ينسحب على كل خطوط التوازي بين الشخصيات، وما تتعرض له.

رمزي عياش

ولد رمزي عياش قبل النكبة، في إحدى قرى يافا، ومع النكبة، غادر مع من غادروا، برفقة والدته هاجر، بينما تخلّف والده محمد، بحجّة الدفاع عن الوطن. وتلوح لرمزي باستمرار علامتان استمرتا ترافقان ذاكرته، عن حياة والده، في كل منهما نوع من الخذلان: الأولى مع كوثر، الجارة التي تفتحت مشاعر الطفل الحسّية على مداعباتها، والتي ظل لسنوات، “يحنّ إلى ملمس باطن كفّها وهي تفرك الصّابونة على جسده العاري، ثم وهي تصبّ الماء على جسمه الصغير فوق اللجن، وتمرّر أصابعها في الأماكن الضيقة الدافئة المعشّقة بالماء والصابون والرغبة المتبرعمة”، حتى يظل راضيا، ويقوم بدور الرسول بينها وبين والده. والثانية مع فريال، التي تخلّف الوالد من أجلها، وبعد أن رحلت، لحق بها، ليعيش إلى جانبها في بلدة أخرى، مما حدا بزوجته أن تعتبره ميتا، بشهادة وفاة حقيقية، وتتفرغ لتربيته مع شقيقيه. فالموت المعنويّ للأب، المرتبط كليا بالخيانة، والتصاق الطفل بالأم، شكّلا شخصية رمزي كما صارت عليه بعد ذلك. وهذان الحدثان الرئيسيان يتكرران في المراحل التالية من حياة رمزي، الذي سمح له اليتم المزيّف بأن يكون عضوا في مجموعة تدرس في الكويت، على حساب أميرها حينذاك، ثم تعمل هناك، وتشكّل مع غيرها ممن لجأوا إلى ذلك البلد الخليجي الذي كان يتطور بسرعة، مجتمعا فلسطينيا شبه مستقر، وقريبا من الاطمئنان، حتى تفاجئه حرب الخليج، ويحمّل تبعتها زورا، ويطرد بقسوة بعد الحرب، ليستعيد قناعته التي تقول إن الشتات فرض عليه، ما دام وطنه تحت الاحتلال، وهو الهاجس الذي تلحّ عليه الرواية باستمرار، ولا تسمح لقارئها بأن يسرح خارجه، رغم التفاصيل الكثيرة والمثيرة التي تطرحها أمامه.

علاقة الولد بالأم، التي تعتبر صيغة من عقدة أوديب، تتكرر مع رمزي في علاقته مع ابنته سمر، توأم أخيها فراس - الذي تشكّل معه وجهين لشخص واحد - وهي علاقة توحي بعقدة إلكترا، لكن بشكل معكوس، لأن التعلّق يكون من قبل الأب تجاه البنت، وهو يكاد يتجاوز الحب الأبوي في مشاهد كثيرة، ليصبح تعقيد هذه العلاقة، من ناحية الأب، خوفا مستمرا من الفقدان، يؤثر على حياة الفتاة، فتحاول أن تهرب نحو الحبّ، ويلجأ الأب إلى اعتراض طريقه، بقدر ما يسعه ذلك. ثم يتحول الفقدان - بعد زواج سمر، ثم رحيلها إلى بلد خليجي - إلى كابوس، يرى فيه رمزي ابنته الأثيرة “عارية، ممزّقة الجسد، استلقت على الشارع بساق واحدة وذراع واحدة. تدلت من خاصرتها إحدى كليتيها. مدّت ذراعها الوحيدة نحو ثدييها اللذين استلقيا، كرتين منبعجتين، بعيدا عنها”، ليصحو في حالة هستيرية تجعله لا يتردّد في إيقاظ ابنه، الذي يعيش في بلد خليجي أيضا، ليسأله عنها. مثل هذا الحلم/الكابوس، المبرّر فنيا كل مرة، بدأ مع رمزي منذ الصغر، واستفادت منه الرواية في الخروج من قسوة الواقع، لكن إلى قسوة الفانتازيا، في بعض الأوقات.

وقد كان زواج سمر، بالنسبة لوالدها، نوعا من الخيانة، ويمكن الإحساس بما يشف عن نوع من التشفي الذي يولد لديه، وهو يرى ابنته في زواج يستهلكها، ويغير كل ما أحبه فيها، لذلك لا يتردد، عندما يزورها، في محاولة استعادتها، بصورتها التي يحب، “طلب منها أن تعود معه إلى بيتها في الزرقاء، إلى غرفتها، إلى سريرها، وإلى سريره [...] عليها أن تفقد ما تراكم في جسدها من شحم زواجها البائس [...] ثم أشار إلى شعرها الطويل الذي عقدته إلى الوراء، قائلا: وعليك أن تقصي هذه الزوائد البشعة” . أما الخيانة الواقعية، في سيرة رمزي، فهي تتخذ شكلا آخر: لقد ربطت الصداقة بين رمزي وضابط في الجيش الكويتي اسمه سالم. وبسبب هذه الصداقة حاول أن يحمي صديقه عندما شعر بأن الجنود العراقيين الذين احتلوا الكويت يبحثون عن الضباط.

فلم يتردد في التصرف بروح الصديق: “أخذ جواز سفره وبطاقته العسكرية وأوراقا أخرى، ووضع بزّته العسكرية، بالنجمات، وجزمته وحزامه الجلدي وقبعته ومسدسه في كيس قمامة أسود بلاستيكي سميك، ووضع الكيس في صندوق سيارته التيوتا كراون، وهي آخر سيارة مستعملة اقتناها في الكويت، وانطلق نحو طريق المطار. انحرف باتجاه طريق ترابية، حيث قطع عشرة كيلومترات في الصحراء قبل أن يتوقف في محيط الرمل الشاسع. أوقف سيارته، متلفتا حوله في صرامة الصمت الذي شمل الليل الغامق. باستخدام الرافعة الحديدية الخاصة بتركيب الإطارات حفر حفرة حشر فيها الكيس الأسود بعدما أحكم إغلاقه. ثم هال عليه التراب ووضع حجرا كبيرا فوق مكان الحفرة كعلامة”. وهو لم يكتف بذلك، بل ساعد سالم في نقل متاعه القليل وزوجته إلى شقة فرغت في عمارة قريبة من عمارته الكائنة في حولي، بعد أن أشار عليه أن يغادر فيلته في ضاحية كيفان. أحضر له هوية تعود لسائق من فئة “البدون” يعمل في دائرته في وزارة المواصلات. كان يمرّ عليه يوميا حتى عندما بدأ القصف الجويّ لقوى “التحالف” على العراق والكويت، يؤمن له الطعام والشراب. لكنه، ثقة بالصداقة، حدّث صديقه عن الجندي العراقي الجائع، وكيف تعامل معه إنسانيا، فما كان من الصديق الكويتي، “بعد التحرير”، إلا أن أبلغ السلطات عن تعاون صديقه مع الاحتلال، وتسبب في تعرضه للإهانة والتحقيق والطرد.

هذا التحقيق سوف يتكرر في حياة الشخصيات الخمسة، بشكل يكاد يكون متشابها، أو متوازيا، مع أنه يحدث كلّ مرة في بلد مختلف، ولأسباب مختلفة. يقول المشهد المتعلق برمزي: “من بين حزمة من الأوراق والملفات تكدست فوق مكتب رمادي في غرفة رمادية بباب رمادي وشباك بستارة رمادية مسدلة، رفع المحقق الكويتي رأسه، ثم سأله متصنعا الصبر والحكمة، وإن أوحى له أن صبره لن يطول كثيرا :

 ما زلت أنتظر جوابا منك. هل كنت تهرّب الطعام والشراب للجنود العراقيين في خنادق القتال ؟”

كان ممكنا أن تسير حياة رمزي، منذ طفولته، مثل حياة الأطفال في عالم مختلف، لكن النكبة أجبرته على الرحيل طفلا، ليعيش حياة أرادها هادئة وهو شاب، فتعلّم وعمل وأنجب، وجاءه فرحه المحتمل الأخير بإنجاب توأميه، متزامنا مع النكسة التي كادت تفقده عقله وهو يرى كل أحلامه تنهار مرة واحدة، ثم جاءت حرب الخليج لتكسره حتى لحظة نهايته. وبسبب التربية التقليدية المرتبطة بالأم، والزواج التقليديّ، الذي منعه من ممارسة الجنس مع نساء عموميات في بيت ربيحة العام، حين كان يرافق صديقه الضابط الكويتي إلى البصرة، ويبقى في انتظاره خارج الفعل، وبسبب ظروف الحياة والعمل في مجتمع مغلق ظاهريا، لم يبرز لدى رمزي من الميول الجنسية إلا ما يمكن تلمسه من ثلاث ملاحظات، تستعيد خبرة الطفولة: الأهم بينها هي علاقته بابنته، وهي علاقة فيها من الغموض والتلميح ما يجعل وقعها صاعقا، يغني عن أي تسلل آخر إلى الزوايا الدفينة من نفس الإنسان، والثانية هي أنه كان يمارس الجنس مع زوجته نعمة، في الغالب، أمام المرآة، وكأنه كان يتفرج على ما يقوم به شخص آخر، مستعيدا بعد ذلك صورة والده مع الجارات، أما الثالثة فهي أن كوثر، القادمة من طفولته البعيدة، كانت تعير صورتها لنعمة، “وقد تكون الصورة لفريال. حتى ربيحة و”بناتها" كان لهن مكان في ألبومه".

بقية الشخصيات، الأصغر سنا، يكاد التعبير عن حياتها كاملة، فرحا ويأسا، انفتاحا ومأزقا، يتم من خلال الحياة الجنسية التي تجعلها الرواية جزءا من لحمتها، دون أن تهدف من ذلك إلى أي نوع من الإثارة المجانية، لأن الجنس، في كل مشهد، له فعله الحقيقي في تركيب الشخصية، وفي تشكيل الحدث.

كمال القاضي

كمال القاضي، الشخصية الثانية من ناحية العمر، مرتبط بوالدته رقيّة منذ طفولته، مثل رمزي. كان يختفي تحت السرير في غرفتها، يراقب عريها وهي تخرج من الحمّام. كانت الأم معتزة بذاتها كامرأة، ولم تحبّ الأب قط، ولذلك كانت لها علاقاتها الأخرى، وانتهت بأن تهرب مع شخص آخر، ليذوق كمال طعم الخيانة التي تأثر بها، ربما أكثر من والده، وطعم الفقدان الذي حمله معه كل حياته، والذي لم تستطع جدّته القاسية مسعدة أن تعوّضه. في حياته الجنسية، غالبا ما استمر كمال في البحث عن العري الذي شاهده في طفولته، وهو عري مرتبط بالبياض الناصع، الذي طارده في جارته صباح، وافتقده في صديقته نائلة، ووجده أخيرا في زوجته الشامية ختام، لكن كل ذلك لم يشبع جوعه إلى المشهد الأول، الذي تحول إلى هوس بالأفلام الجنسية، التي يرى فيها المزيد من اللحم الأبيض، فيلجأ إلى العادة السرية، عندما تغيب الزوجة. وإذا كان الأب اعتزل الزواج بعد هرب زوجته، فإن الولد استمرّ يعاقب الخيانة بمزيد من الجنس، بكل الأشكال المتاحة أمامه: كانت صباح أول غيث اللحم ناصع البياض في حياته، وكانت علاقته بها اختلاسا، مثل علاقته بوالدته، لكن هذه العلاقة لم تستمر، لأن أحلام صباح انهارت مع إصرار والدها على تزويجها من ابن عمها راجح، ومع إصرارها على الرفض، الذي انتهى بها مقتولة، فانتهى الأمر به، باعتبارها جارها، الذي منحها أول دروس الجسد، وتعلّم من جسدها كثيرا، أن وصل غرفة التحقيق، في موازاة ما وصلت إليه الشخصية السابقة، وبتهمة مختلفة، يقول مشهد التحقيق فيها: “توسطت الحائط الرمادي المتقشّر أمامه بقعتان بيضاويتان متجاورتان فبدتا، بلونهما المصفر من أثر القدم، مقلتين غائرتين في وجه بال، تحدّقان فيه [...] لم يسعفه أثاث الحجرة المتقشف في الهرب من عيني المحقّق الرصاصيتين اللتين خرقتا بصره. لاحظ أن أظفر إبهام المحقق نشفت فيه الدماء فاكتسى بلون دخانيّ مزرقّ [...] قال له المحقق إن جثة صباح وجدت في أحد الأحراش على طريق السلط. ماتت خنقا. هذا ما جاء في تقرير الطبيب الشرعي. ليس هذا فقط، بل تبين بأنها ليست عذراء. [...]

  • هل كنت تعرف المجني عليها؟
  • جارتنا في صويلح. والدي يعرف والدها، وجدتي تعرف أمها.
  • وأنت؟ كيف كانت علاقتك بها ؟
  • ساعدتها في مذاكرة امتحان التوجيهي.
    اتسعت الحدقتان في الحائط الرمادي. قرّب المحقق وجهه إليه، هامسا:
  • فقط ؟

ولأن زواج رمزي عيّاش، أكبر الشخصيات سنا، كان تقليديا، وحدث مع فتاة لم تكن تروق له، فإن ذلك سوف ينسحب على الشخصيات الأخرى، التي سينطبق عليها ما ينطبق على ما يصل إلى مرسال القلوب من فيض هائل من حرقة وعذاب وقنوط وزهد في العيش، حدّ اشتهاء الموت واستعجاله، لأن”الكل يحب، والكلّ لا يطول من يحب “. وبدءا من كمال القاضي، لن يتاح لأيّ رجل أن يتزوج المرأة التي يحبّها وتحبّه، أو أن يحبّ - بشكل سويّ - المرأة التي تزوّجها: كانت صباح الحب الحقيقي الذي عايشه كمال القاضي، ثم استنزف قدراته التحليلية ومشاعره مع نائلة، زميلته في الجامعة، لينتهي بعلاقة عكسية مع ختام، تبدأ بالجنس، ثم تتحوّل إلى حبّ، أو شيء على غراره.

عمر السرو

وإذا كان الأثر الذي تركته إنصاف والدة عمر السرو يقتصر على أنها جعلته شبيها بها في تفسير الأحلام، إلا أنه استعاض عن ذلك بعلاقته التكوينية مع حسنا، زوجة شقيقه، التي تفتح الجنس لديه على يديها، في طفولته، وهي تداعبه، وتسمح له بأن ينام إلى جوارها، قبل أن ترتدي الحجاب، وتتوقف عن مرحها الطفوليّ النزق.

حسنا هذه، هي التي ستصبح زوجته، بعد وفاة أخيه، دون أن ينجب منها. وهو يجبر على الزواج منها، حتى لا يضيع المنزل الذي كتبه أخوه باسمها، ولكنّه، في علاقة أوديبية أكثر وضوحا، يستعيد خلالها ذكريات تلك الطفولة معها، ويرتوي منها كزوجة لها تجربة كبيرة ومستوعِبة، تمارسها بشكل مباشر، في مقابل جهله، وهو يطالبها بأن ترتدي ما كانت ترتديه حين كانت تداعبه صغيرا، ويكتفي بها عن أي زواج آخر وعده به والداه، دون أن ينسى تجربته الأولى والوحيدة في حبّ هنادي، النقيض التام لزوجته حسنا، التي أحبّها في الجامعة، وكانت تسبقه في طرح الفكرة التي يفكر فيها، أو الاعتراف، أو الفعل، لكنها ظلت تفلسف كلّ شيء بطريقة دقيقة ومملة، تثير غيظه باستمرار. وقد أرادت أن تمنحه، في اللحظة الحرجة، كل شيء، بطريقتها التي تبطل ما خطط له، ثم تزوجت بعده، ورحلت إلى بيروت، ليكون اتصالها به، بعد كل العمر الذي فات، مفاجأة أراد أن يستثمرها، حين مضى إلى بيروت ليرى كيف أصبحت، لكنه تخلى عن ذلك، كعادته المتأصلة في التخلّى، في اللحظة الحرجة التي رآها فيها، لأن قدرته على تجديد حياته، كانت توقفت منذ زمن بعيد.

الحياة الأسرية لعمر السرو لم تبدأ طبيعية، لذلك فإنها لا تنتهي كذلك، وهو ينجب من زوجة أخيه التي ظنّوها عاقرا، لكن ابنه الأصغر يولد معاقا، فتبقى حسنا إلى جانبه لترعاه، ويرحل هو وحيدا إلى أبو ظبي، حيث تتجمع الشخصيات في المؤسسة، ليكون عمله الأساسي من شقين: الأول هو تفسير الأحلام، الذي يتحول إلى ما يشبه تقمّصه لأسلوب أمه، والثاني هو الرد على رسائل العشاق، محاولا أن يسري عن معاناتهم، بسبب حبّهم الذي لا يكون إلا مستحيلا.

من خلال هذا العمل، تجيء التجربة الجنسية التي تمثل الخييبة الأخيرة، مادتها فتاة تتصل به ليلا عبر الهاتف، تحمل اسم حكي، فيمارس الجنس مع صوتها الذي ينقر على نافذة أذنه بلطف، وهو يستمع إلى وصفها لشعورها بالذنب تجاه علاقة آثمة، لا تنكر أنها تستمتع بها، مع زوج أختها التي تستضيفها في بيتها، فيزداد إحساسها بالإثم. وهذه الممارسة لا تختلف كثيرا عن الطريقة التي يلجأ إليها كمال القاضي، وهو يتفرّج على أفلام الجنس. وفي سيرة عمر ما يوازي هذه الخيانة التي ترتكبها الفتاة، من ناحيته هذه المرة، ولأول مرة بين الشخصيات، فهو الذي تخلّى عن حبيبته طمعا في بيت يخشى والداه أن يضيع. لذلك فإن السيرة تختلف هنا، وتتوازى في الوقت نفسه، ليجيء التحقيق الطريف في مرحلة تالية، قريبا من هشاشة الحياة التي عاشها عمر السرو: شبه عاشق أول الأمر، وشبه متزوج بعد ذلك، وشبه منجب، وخاليا من المغامرة إلى حد كبير.

ابنه الأول ضاع في توجّهه نحو الأصولية الدينية، التي تهتم بالقشور فقط، وابنه الثاني سافر إلى أمريكا ليدرس، وانتهى أمام كشك يبيع فيه التحف المقلّدة للسياح. وبعد تردد كبير، قرر عمر السرو أن يزور ابنه، لتتحول الزيارة إلى خيبة كاملة، من أولها إلى آخرها: الولد استأجر لأبيه مسكنا، دفع الأب أجرته، وبسبب انشغال الولد بعمله نهارا، وبصديقته ليلا، لم يجد الأب ما يتسلى به، سوى السير في شارع المشاهير، مدقّقا في واجهة محل يذكّره كلّ مرّة بما أوصاه عليه كمال القاضي من”أشياء" جنسية. وقبل رحلة العودة، واتته الجرأة على شراء “الأشياء”، لكنه خشي أن يضعها في الحقيبة، ثم خشي أن تكشفها أجهزة التفتيش الحديثة في المطار الأمريكي، فقرر أن يتخلّى عنها في الحمام، ملفوفة بجرائد قديمة، لتكتشف أجهزة المراقبة الدقيقة فعلته، ويخضع مثل غيره من الشخصيات للتحقيق: “جلس في غرفة ذات إنارة واهنة، على كرسي ذي قاعدة صغيرة فاضت مؤخرته من على جوانبها وقد أسند مرفقيه على طاولة شكلت الأثاث الوحيد، مع الكرسي، في الغرفة. اكتظت حوائط الغرفة وأرضيتها وسقفها والطاولة والكرسي الوحيد الذي جلس عليه باللون الرصاصي. لم تكن فيها نافذة أو طاقة. حتى الباب كان كأنه امتداد طبيعي للأرضية أو الحائط، أو كأنه انسكب من السقف. خمسة رجال صنعوا حوله دائرة. كانوا أشداء ضخاما، ببزّات رصاصية، وكانت لهم عشر عيون كبيرة لم ينزح نظرها عنه”.

إياد أبوسعد

ويصعب التأكيد على أن إياد أبو سعد تزوج عن حبّ، حتى وإن بدا الأمر كذلك، لأنه يقول بوضوح إن “ليال (التي تشعر بأنها لا تستطيع أن تمتلكه سوى بالجنس ) ، هي الحياة التي تجعله يتواصل مع فاديا بموت أقل”، ومع ذلك، فبعد كل لقاء حب، يصفه بأنه مبدع، والإنصات إلى ما باتت تطلبه من عاطفة لا يستطيع أن يمنحها إياها، والعودة إلى الجسد القريب من الموت لزوجته، يقرّر إياد أن ينهي علاقته الخيانية بليال، لكنه، بعد أن يمرّ بعض الوقت، ويشتاق إلى جسدها، لا يفعل. ويمكن النظر إلى سيرة إياد باعتبارها نموذجا يمثل بقية السير، فقد عاش تجارب كثيرة ومؤلمة، وتعامل مع آمال كبيرة، وانتهى إلى خيبة يحاول أن يدفنها داخل الجنس، مثل غيره من “الكتلة” الخماسية. ليست الأم هي التي خلقت التشكيل الأول لإياد، لأنّها رحلت في وقت مبكر من طفولته، ولم يبق منها في ذاكرته سوى “ذراعيها الحاسرتين الممتلئتين لحما مشدودا واحمرارا خفيفا كارتداد لبياضها السخيّ[...] بقمصان نوم قطنية بيضاء كريمية سماوية وخضراء ريحانية وصفراء ليمونية، وحمراء كخصور الدرّاق التي تنهنهت من الاستواء، مقطوفة من حبل الغسيل حديثا، تفوح من شعرها الأسود المستلقي بتكاسل على كتف الوسادة رائحة الصابون النابلسي”. وهذه الصورة، في المرأة/الأم، هي النقيض التام، لصورة فاديا، المرأة/الزوجة.

أما التعويض الذي حظي به إياد فقد جاء مزدوجا: من قبل زوجة أبيه الشابة، رباب (19 عاما)، وعمته صفية، العانس التي تكبر والده بعامين، يضاف إلى ذلك ما حظي به من دلال من قبل والده، في محاولة منه للتعبير عن حبه لزوجته التي تركته موتا. تنافست المرأتان في اجتذاب الطفل من خلال تدليله، لدرجة أن الواحدة منهما كانت تترك ما تقوم به، مهما كانت أهميته، لتلبي له حاجة، مهما كانت غريبة. ثم اتفقتا في نهاية الأمر على تقاسمه بينهما، فواحدة تحمّمه، والثانية تلبسه، وواحدة تطبخ له، والثانية تطعمه، وحين تصفعه صفية بسبب قذارة ملابسه، تفزع له رباب، وحين تشد له رباب أذنه عقابا على ذنب، تشد لها صفية أذنها، وهكذا نشأ وسط هذا التقاسم، “أحبّ صفية أكثر بوجود رباب، وكره رباب أقل بوجود صفية” وهو ما استمرّت عليه حياته بعد ذلك، بدءا من انسياقه الكامل وراء مازن الناطور، الذي تقاسم اهتمامه مع شقيقته فاديا، وصولا إلى مشاعره نحو الأخيرة، وما آلت إليه آخر الأمر: تقاسما بين المرأة غير القابلة للاشتهاء السويّ ، التي تزوّجها، والتي تبتعد عن أي احتكاك جسدي معه، بقدر ما تستطيع، لأنها تشعر بالإرهاق، والاختناق، وتقاوم الرغبة بقوة، والمرأة الأخرى، التي كانت في البداية لا تقدّم له سوى “جنس صاف، خالص لوجه ذاته، للمتعة التي تتأتى من المتعة، مشفّى تماما من مشاعر لا لزوم لها” .

حياة إياد، التي تكاد تكون بعيدة عن اختياره، لم تسر في خط انسيابي متصل، فالخلية الحزبية التي كانت تجتمع في بيت الناطور، وقعت في قبضة السلطة، وكما حدث مع زملائه من قبل، مثل أمام التحقيق، في غرفة جديدة، تتشابه في بشاعتها مع غرف التحقيق الأخرى، كما تتشابه طرق التحقيق: “رمقه المحقق من خلف مكتبه الحديديّ الرماديّ العريض المقشورة زواياه بنظرة من يطابق بين الشكل والاسم المكتوب أمامه [...] ريح باردة، هبت من لا مكان، طوقت جسده المطوي على مقعده. عرق غزير تفصد من جسده، خاصة بين فخذيه، وسط لفحة البرد. تركه المحقق في الغرفة الطويلة، كنفق عريض، ذات المكاتب الرمادية الخالية إلا من جاكيتات رمادية معلقة على أكتاف الكراسي أو على مسامير مائلة على الحائط” . وكما اعتنت به صفية و رباب، وجد إياد عناية من مازن الناطور، عندما التقى به، بعد أن تناسى فترة النضال، وأصبح رجل أعمال يتمتع بكثير من الثروة والنفوذ. ثم اكتشف إياد، عندما التقى فاديا، بعد ثماني سنوات من تكتّمه لمشاعره تجاهها، أنه “لم يتعاف من تأثير شحوبها وتعاليها على الحب، حبّه أو حبّ أيّ رجل سواه” ، فتزوّجها ضمن هذا الشرط، زواجا لا يختلف كثيرا عما حدث لبقية صحبه.

فراس عياش

فراس عيّاش هو أصغر شخصيات المجموعة سنا، ومع ذلك فإن نموذجه في الخيبات لا يختلف، بل يمكن القول إنه يزداد عمقا، لتوحي الرواية بأن الأجيال الفلسطينية جميعها، لا مستقبل لها، خارج إطار وطنها.

في المسألة الجنسية، يبدو فراس وكأنه يتعرض لحالة من الاغتصاب، لا يمكن إغفال ما ترمز إليه، بالنسبة للفلسطيني، الذي يعيش في الخليج، بعد تجربة الحرب المريرة والتهجير. ومن الطريف أن حالة الاغتصاب هذه، تقوم بها امرأة قوية، من مواطنات البلد الخليجي الذي تعيش فيه، تكتفي بأن تلتقطه من الشارع، صدفة بعد صدفة، وأن تسيطر عليه جنسيا، بشكل إرادي وواع، دون أن تقدّم له أية إشارات عمن تكون، وحتى دون أن يعرف اسمها، ليكون الأمر بيدها كل الوقت، وليكون قطع العلاقة بيدها أيضا، حين لا تعود سيارتها الفخمة تتوقف صدفة، رغم انتظاره المرير لهذه الصدفة، مرات بعد مرات. ومثل هذه العلاقة، يصعب أن يوجد لها شبيه، سوى في فترات العبودية والإقطاع، وهي تكاد تعيد تشكيل صورة جديدة لبطلات غوستاف فلوبير، أو، بشكل أكثر دقة، لبطلة رواية د. هـ. لورنس، عشيق الليدي شاترلي، لكن مع اختلاف في السلوك، يستلزمه اختلاف العلاقات بين عصرين، إضافة إلى الأدوات الحديثة، التي تسمح بالتخفي، وتحمي من الغرق في فضيحة اجتماعية، إذا كان مثل هذه الفضيحة ممكنا في مثل هذه العلاقة السيادية، في مثل هذا المجتمع الخليجي.

علاقة فراس بهذه المرأة تشكل مثالا لعلاقة الفلسطينيّ بالبلد الخليجي الذي يعمل فيه: إنها علاقة سيادية دون رتوش، رغم الجهد الذي يبذله الوافد من أجل أن يرضي البلد. وليس صدفة إذن أن تكون المرأة هنا، هي صاحبة السيادة، حتى في لعبة الجنس. إنها تقلب اللعبة تماما، كما تفعل نساء كثيرات في الرواية، فهي التي تبادر، وهي التي تحدّد زمن الفعل، وهي التي تمتطي، وهي التي تبدأ وتنهي، ما شاءت لها سيطرتها التامة على الوضع، فيبدو الرجل، في اللعبة، مسلوب الإرادة، رغم المتعة التي يحس بها، وفي ذلك معادل لمتعة الحياة المستقرة/القلقة هناك. إن الرجل، في هذه العلاقة، هو الذي ينتظر، والمرأة هي صاحبة القوة، التي تأتي أو لا تأتي. وفي لعبة الجنس هذه، تبدو قدرة الكاتبة على كشف الوهم الذي يفترض سيادة الرجل، كبيرة إلى حدّ المفاجأة، لا مع المرأة الخليجية، التي تستطيع أن تحشر الرجل الوافد في زاوية لا يستطيع التمرّد عليها، بسبب ما يشعر به من التهديد، ولكن ذلك يحدث مع المرأة المجرّبة أو القوية أو الواعية جنسيا أو غريزيا، كما هو الحال مع حسنا وختام وليال وربى مع شخصيات الرجال في الرواية، التي يربهن معها بعلاقات جنسية. هؤلاء جميعا، تستخدم حول ممارساتهن الجنسية أوصاف وأفعال كانت قاصرة على الرجال، في المزاج الشعبيّ، إلى حد كبير.

في المسألة الجنسية، لم يختلف فراس عن بقية الشخصيات، خاصة في فترة التكوين: عندما اختار والده رمزي حصته من التوأمين، بات فراس حصة أمّه نعمة، التي كادت تتخلى عن سرير الزوجية، أو جزء منه على الأقل، لابنتها سمر، حصة الوالد، لتتفرغ لفراس، الذي تأخر حتى نزل من حضنها، فنال تدليلا لا يتوقف، وتغطية لعيوب قد تحرجه، أبرزها أنه استمر يبول في فراشه، حتى عمر متأخر(وهي حالة مرَضية تؤكد النظريات النفسية، خاصة الفرويدية منها، أنها إذا لم تكن ناتجة عن سبب عضوي يمكن علاجه، فهي نتيجة لخلل ما، في علاقة الولد بأمه). حياة فراس في حضن والدته، مثل علاقته بفتاة الخليج المجهولة. إنها مجرد انقياد. وهذه الحياة، التي يشعر بسببها أنه “جاء في الزمان والمكان الخطأين، البعيدين جدا عن فلسطين، حتى بالمنطق النظري”، تستمر من أول تكوينها، حتى آخر مآلها: إنه ينقاد، بالصدفة، إلى المشاركة - وهو طالب - في مظاهرة فلسطينية في الكويت، إلى درجة الصعود على الأكتاف، وقيادتها، ثم ينقاد - قسريا - إلى المشاركة في مظاهرة مفتعلة لتأييد الاحتلال العراقي للكويت، ما يوحي للأجهزة الأمنية في عمان، بأنه سهل الانقياد، يمكن أن يطوّع للعمل معها، بعد أن عاد من الكويت، فلم يحب الأردن ولم يحبه الأردن. كان ما فعله أن تقدم بطلب لتجديد جواز سفره، وهو يتصور أن الأمر سيكون عاديا، كما يهو عادي مع غيره، لكن التحقيق من قبل الأجهزة كان ينتظره: “لم تترك له الكنبة الرمادية الضيقة مجالا ليتحرك في مساحتها بحرية، فانحشر فيها ملتزّ الساقين، متجاور القدمين مقابل الرجال الثلاثة المتفائلين به، السعيدين كما بدا عليهم بوجوده معهم، الأنيقين ببذلاتهم الرمادية المتماثلة. أحدهم جلس على مكتب رماديّ تغطى بلوح زجاجي مشعور، تحته صور أطفال قديمين، في حين وقف آخر عند باب المكتب نصف المفتوح على يمينه، ما سمح له برؤية رجال آخرين رماديين كانوا يقطعون الممر الخارجي وينظرون إليه نظرة يفترض أن لها مغزى، أما الثالث فكان يجلس على كنبة رمادية إلى يساره”.

وفراس عياش، رغم أنه الأصغر سنا، يتضاعف عدد الخيانات في حياته، من ناحيته هو، ومن ناحية الآخرين، بكل الأشكال. إن ربى، المرأة المطلّقة، التي تعرف عليها في عمله قبل الرحيل من الكويت، تشكّل واحدة من سلسلة الخيانات، على هذا المستوى. وقد سبقته إلى الخيانة هذه المرأة التي منحته كل ما يمكن أن تمنحه المرأة لمن تحب، ورجاها أن تبقى، ليتزوجا، بعد أن ينتهي كل شيء، وكان يبكي عندما غادرته، بعد أن اختارت أن تعود إلى طليقها، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، هربا من حرب لا تستطيع أن تفهمها، ولا أن تقبلها، ولا أن تحتملها، وبذلك فقد مثل غيره، فرصته في الزواج من امرأة أحبها وأحبته، ولم يملأ حياته مع النساء سوى الجنس، الذي بدأ بوصال ابنة عمه، ونهديها اللذين انطبعا في ذاكرته، حجما ووفرة لحم، والتي تزوجت غيره، حين شعرت بأنه لا ينوي الزواج منها، ثم مع أماني، ابنة خالته، التي طالت خطبته لها، وظل يخونها بتأجيل الزواج، والتفكير في إلغائه، خصوصا بعد رحيل والديه، الذي يضع حدا لزيارته السنوية لمدينة الزرقاء، حيث تعيش. ورغم وفرة الجنس في حياته، إلا أن الهروب من الفخّ الذي وقع فيه الآخرون لم يكن متاحا، وكثيرا ما كان يتحول إلى أحلام يقظة، مرتبطة بممثلة ظلّ يشاهد فيلمها مرة وبعد مرة، في دار السينما، دون أن يملّ الإعجاب بتفاصيل معينة من ملامحها.

نماذج التوازي في الشخصيات بين

سارت حياة كل شخصية في الرواية في خطّها الخاص، من بدايته حتى نهايته، مستقلة إلى حد كبير، عن كل شخصية أخرى. وكانت لكل واحد من الشخصيات الخمسة، ارتباطاته مع أشخاص داخل سيرته الخاصة، لا علاقة لهم بزملائه، يتفاعل معها، فيغير ويتغير، وبلغ الأمر حدا يمكن الإشارة معه إلى أنه لا توجد شخصية تحتل عنوانا داخل الرواية، تعرف شيئا عن الشخصيات الفاعلة لدى مثيلاتها، خاصة ما يتعلق من ذلك بالعلاقات الخفية. ورغم غياب هذا التقاطع، يمكن القول إن كلّ شخصية تمرّ في حياتها بمحطات مشابهة لما تمر به الشخصيات الأخرى، إلى حد يكاد يكون متطابقا، ما يعني أمرين: الأول هو أن التوازي حقيقي بين جميع الشخصيات، لدرجة أنها تشكل في آن معا حدا واحدا، والثاني هو أن هذه الشخصيات جميعها، مثلت ثلاثة أجيال من المجتمع، عايشت كل النكبات التي عرفها الزمان الفلسطيني، وواجهت خلال ذلك واقعا تتوالى عليه الهزائم، فلم يمنحها إلا المزيد منها. وتتلخص عناصر هذا التوازي في خمسة أمور أساسية، مثقلة بالرموز الخاصة والعامة، وبذلك شكلت حياة الشخصيات منفردة ومجتمعة في وقت واحد، فشكلت بالتالي حياة المجتمع ككل. وإذا كان التوجه كبيرا نحو حياة جنسية مختلة، فإن من الممكن النظر إلى ذلك كشكل من أشكال التعويض، لا الهروب، أو كشكل من أشكال الانكسار، أو كاختيار محدد لهذا النوع من الحياة، وسط الفشل العام، والجذور النفسية التي ترافقه، والتي يمكن إرجاعها، من خلال التحليل النفسي، إلى فترة الطفولة، أو فترة التكوين، سواء أكان ذلك عن طريق الارتباط بالأم، أو بمن هي بديل لها.

والخيانة التي يرتكبها كل واحد من هذه الشخصيات، أو ترتكب في حقه، سواء أكانت خيانة جنسية، أو سياسية، هي تعبير آخر عن هزيمة المجتمع، بشكل فردي، يوحي بالشكل العام. أما التحقيق الذي يتعرض له كل واحد، لأسباب غير متشابهة، لكن من محققين متشابهين، في غرف متشابهة، فهو صيغة أخرى لوضع وحدة الهزيمة في إطار يكاد يكون واحدا. وأخيرا، فإن الفشل العام في زواج أي من الشخصيات من المرأة التي يرتبط معها بحب متبادل، سواء أكان ذلك بسبب ضغط الظروف، أو الفقدان، أو أي سبب آخر، وسواء أأقدمت الشخصية على الزواج بعد ذلك، أو تهربت منه، لا يخرج عن الخط العام الذي ترسمه الرواية لمجتمع الخيبات، الذي لايسمح لنصر صغير وشخصي بأن يتحقق، لأن مثل هذا النصر لا يكون لائقا في زمن الهزيمة. مع كل هذه الخيبات، تنتهي الرواية عند الحد الأقصى الذي وصلت إليه كل شخصية، على مستوى علاقاتها الجنسية، كما بدأت بهذه العلاقات. وإذا استثنينا رمزي عيّاش، الذي استنفد كل طاقته مع زوجته، وكل قلقه الجنسيّ مع ابنته، فسوف نجد أن كمال القاضي ينتهي به الأمر أن يشتري كلّ الأفلام الجنسية المعروضة عليه من الفتاة الصينية، لأن أغلفتها أعجبته، مع أن تجربته تؤكد له أن الغلاف لا يكشف أبدا عما يوجد داخل الفيلم. لكن الأمر كان مجرد اندفاع نتيجة شعوره بأن هذه الأفلام تكفيه ذاتيا، في غياب زوجته التي باتت تزور أقرباءها كثيرا.

أما عمر السرو، فإن رحلته إلى بيروت لرؤية الحبيبة القديمة بعد اتصالها به، لم تصل إلى غايتها، بعد أن راقب الحبيبة القديمة عن بعد، لكنه لم يقترب منها. وانقطعت علاقة إياد أبو سعد بالمرأة التي عاش معها حياة جنسية صاخبة، بعد أن بدأت تطلب قلبه، إضافة إلى جسده، وهو غير قادر على أن يمنحها ذلك، فلم يعد أمامه سوى الانتظار، ومراقبة هاتفه النقال، على أمل أن تعود من خلاله إلى شغبها القديم. أما أكثر الشخصيات شبابا، فراس عياش، فإن المرأة التي لا يعرف اسمها، والتي التقطته من الشارع دون سبب يعرفه، لم تعد تلتقطه من الشارع، رغم أنه كرر الانتظار فيه، ومواجهة السيارات التي تقذف بأضوائها في عينيه، دون أن تتوقف. وقد حدث انقطاعها، مثل إطلالتها الأولى، دون سبب يعرفه أيضا، وبذلك انطبقت على الجميع، وعلى الرواية، وربما على الواقع كله، مقولة ربى القديمة، وهي تودعه: عندما ينتهي كلّ شيء، يكون كل شيء قد انتهى . هل يمكن لكل هذه الخيبات أن تحدث لأية شخصية، إلا إذا كانت فلسطينية؟ هذا هو بالضبط ما تحاول الرواية أن تقوله، بكل الأشكال، وبكل الوسائل التي وظفتها في رسم شخصيات تكاد تكون حية، وفي التعامل مع وقائع، كانت سببا في كل ما نال هذه الشخصيات من عذاب.

إن كون الفلسطيني فلسطينيا يعني، منذ البداية، أنه مؤهل للاضطهاد اليومي. حتى فراس عيّاش، الشاب الذي لم يعش النكبة، ولا النكسة، والذي لم يولد في فلسطين، ولا في جوارها، ولا في مخيّم ينتمي إليها، شعر في الكويت، حيث ولد وتعلم وعمل وعاش، بأنه “لا يستطيع أن ينسى للحظة، أو لجزء من لحظة، أنه فلسطيني. وهو أمر كان يثقله، لا لأنه كان يريد أن ينسى ذلك، بل لأنه لم يكن بحاجة لأن يتذكر بإلحاح، ويحاصر، بناء على ذلك، في عيشه اليومي. كانت فلسطينيته حاضرة معه بقوة، رغما عنه [...] لشدّة ما حضرت فلسطينيته وطغت عليه، كرهها أحيانا”. لكن الفلسطيني يوسع دائرة الحزن في حياته أيضا، فهو يعتبر كلّ عمل إيجابي جزء من مهمته، ويعتبر كل هزيمة تحل بمن حوله، هزيمة شخصية له، سواء أكانت سياسية أو حربية. لقد انضم إياد أبو سعد إلى الحزب الممنوع، وهو يظن أن فلسطين، “رغم البعد، قريبة في الجامعة، مع مازن والرفاق المؤمنين بحقّ، حاملي الرشاشات في قلوبهم”. لكنه أدرك مع الوقت أن الطريق إلى فلسطين لم تعد قصيرة، كما أنه لم يعد ممكنا السير في خط مستقيم لتحريرها. “لم يكن يتخيل أن عليه أن يحارب أعداء كثيرين كي يصل إلى فلسطين”.

أما رمزي عيّاش، الأكبر سنا، والذي ولد قبل النكبة، وذاق كل المرارات التي جاءت بعدها، فقد اعتبر هزيمة الدول العربية في حزيران هزيمة شخصية له، ومع فشله في أن يصدّق أن الحرب قامت، وأن الهزيمة حلت، وفشله في أن يشعر بالفرح، حتى أمام ولادة توأميه، رغم تأخر ذلك، لأن زوجته حملت وأجهضت أربع مرات، “انسلت دمعة من عينه لتنزلق بعد تردد على وجنته. تشجعت دمعات أخريات، فلحقت بها، ثم استحالت سيلا جرف وجهه. من وراء ستارة الدموع السميكة، انطلق صوته يغني: ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال... في النضالي [...] أخيرا هوى فوق الجرف”. هذا المزاج العام هو الذي يشكل خلفية مستمرة لأحداث الرواية، فيمنحها هويتها الفلسطينية، من كلمتها الأولى، حتى نهايتها. ولأن الهوية الفلسطينية ليست هوية إقليمية خاصة بفلسطين، حتى وإن كانت القضية مركزها، فإنها، كما توحي الرواية، هويّة نضالية، وهي بالتالي هوية موقف ثابت من القضايا التي يعايشها المجتمع العربي، والفلسطيني داخله، سواء ما كان منها متعلقا بالبعد السياسي المباشر، أو بعيدا عنه.

الفلسطيني، في الرواية مثلا، يرد على الضابط العراقي الذي يقول له إنهم سيحرّرون له القدس، وهو يجبره على التظاهر في شوارع الكويت: “القدس في الخريطة التي أحفظها جيدا لا تمرّ عبر الكويت”. ومن هذا المنطلق، كان موقف الفلسطيني واضحا في رفضه للاحتلال العراقي، رغم أنه لا يرفض التعامل الإنساني مع من يحتاجونه، من الجنود الكويتيين أو العراقيين، دون أن يؤثر ذلك في موقفه الأساسي الرافض للاحتلال، والرافض في الوقت نفسه، لكل التحامل المبيت، الذي طبع المجتمع الكويتي تجاه الفلسطينيين، والسلوك الذي مارسوه تجاههم بعد ذلك. وهذا الموقف السياسي يتوسع ليكون اجتماعيا، يتعلق بترسيخ الهوية الفلسطينية، في مواجهة ما يقع على المنتمين إليها من اضطهاد في الشتات، من خلال محاولات “إذابتها أو صهرها أو تجاوزها في بعض الأحيان”. ويتلخص هذا الوقف بعدم التخفي، وبالإعلان عن الهوية بكل وضوح، رغم التبعات التي يمكن أن تتبع هذا الإعلان، في بعض الأوقات، أو المواقف، أو البلدان.

وفي الإطار الاجتماعي أيضا، تصرّ الرواية على أن تكون المساواة حقيقية، بين الرجل والمرأة، إلى الحد الذي يمكن أن يلاحظ فيه أن التصرفات لا تكاد تمثّل النوع الإنساني الذي يقوم بها، إلا بقدر الخصوصية التي يتميز بها عن نوعه الآخر، عضويا على وجه التحديد. ولا شك في أن التوظيف الفني المتقدم للجنس في سياق الأحداث المركبة والمتلاحقة ، بكل صدقه ومباشرته وتكراره بإلحاح شديد، في كثير من الأحيان، كان مقصودا بشكل واع، بهدف تكريس هذه المساواة إلى أبعد الحدود. إن الرواية، تبدو معنيّة بالإلحاح على المشاهد الجنسية، رغم معرفتها أن الجنس هو أبرز المحرّمات, وأكثرها تعرضا للكبت والمطاردة والقمع فعلا داخل المجتمع، وأهمها تأثيرا في خلق الفوارق بين الرجل والمرأة، وفي العمل على استمرار سيادة الذكورة، المكتسبة تاريخيا، على الأنوثة، وهي تفعل ذلك من أجل كسر هذا التابو، بقوة الإلحاح، التي تحيل المشهد الجنسي إلى ممارسة طبيعية إنسانية، وتليق بالإنسان. والجنس هو التعبير الأعلى عن درجة المساواة داخل النوع الإنساني.

وقد امتازت المرأة، في علاقتها بالرجل داخل الرواية، بأنها تعرف حقوقها الجنسية، وبأنها غير مستعدة للتخلّي عنها، كحقوق طبيعية مشروعة، حرمها منها مجتمع ذكوري ظالم، ومن ضمنها حقها في الحصول على المتعة. والمرأة لم تكتف بالتعرف على هذا الحقّ، أو مطالبة الرجل بأن يصونه، بل لجأت إلى المبادرة بكل قوتها، وعمدت إلى المشاركة في الفعل، على قدم المساواة مع الرجل، بإرادته أو بطريقتها الخاصة، لا في علاقة السيطرة التي تمارسها المرأة المجهولة على الرجل الذي لا تعرفه وحسب، وإنما في العلاقات الندّية، والتقليدية أيضا، دون أن يعني ذلك أن تتخلى المرأة عن سماتها الأنثوية، أو تميل إلى التشبه بالرجال، لأنها في واقع الأمر تظلّ واعية لقوتها الذاتية كامرأة، مهما كان مستواها الثقافي أو الاجتماعي. وقد وصل الأمر في الرواية حد أن تكون الزوجة غير مختلفة في سلوكها الجنسي عن العشيقة، وأن تتصرف الفتاة التي تحبّ، بطريقة لا تختلف في هذا السلوك عن المرأة المطلقة.

ومن المؤكد أن كلّ مشاهد الجنس، المتقنة الصياغة والوفيرة العدد داخل الرواية، لم تكن تهدف إلى مجرد الإثارة، (وهو ما يمكن أن يشعر به القارئ دون لبس، بسبب غياب الإثارة كليا، بشكلها الساذج والمبتذل، عن هذه المشاهد) بل إلى تأكيد هذه المساواة، التي وإن كانت مساواة نظرية، كما يمكن أن تلاحظ إذا ما قورنت مثاليتها بما يحدث في الواقع، إلا أنها تعبّر بوضوح تام عن موقف الرواية من موضوع الجندر، وهي تتعامل معه بعمق ودراية، ودعوة شديدة الجرأة والوضوح. وفي غير مجال، كانت المرأة تشارك الرجل دراسته ونضاله، وكانت لها اختياراتها ومواقفها، وخيباتها في الحياة، وفي العلاقات أيضا، ولكن كانت لها القوة على النهوض، ولملمة جراحها، من أجل أن تبدأ من جديد، شعورا بأن الحياة، على المستوى الشخصي، أو العام، لا يمكنها أن تتوقف، إذا فشل أحد الخيارات فيها،. من هذا المنطلق، ورغم كثرة العلاقات التي لا تقرّها الأعراف السائدة والثابتة وشبه الثابتة في المجتمع الأبوي الذي تعيش فيه شخصيات الرواية، يصحّ القول إن الرواية لم تمل إلى إدانة الرجل بسبب خروجه عن السياق، لأنه خروج مقصود لكسر السائد، كما أنها لم تدن المرأة ، فساوت بذلك بين النوعين الإنسانيين في هذا المجال، حين اعتبرت كل العلاقات التي يتجه إليها الإنسان، كإنسان، إنما تنطلق من خيارات حرة.

هذه الخيارات، التي تغرزها الرواية في قلب الواقع الاجتماعي، مثل مشرط حاد، كان لها هدف وحيد، هو التشريح الدقيق لما تعمل الفئات السائدة على إخفائه، مما يمور داخل هذا المجتمع. ويمكن القول إن مشرط الرواية الذي يستمد قوته من الكلمات، لا يختلف في حدته وتوجهه إلى الداء بشكل مباشر، عن مشرط الجراح، لصالح القول دون مواربة، إن إخفاء عناصر الخلل، هي التي تقف وراء الهزائم المتلاحقة، مهما غلّفت بالمبررات الكلامية أو الدينية أو الاجتماعية، وهي بالتالي تدفع الإنسان المهزوم إلى الانكفاء داخل ذاته، معبرا عن هذا الانكفاء بالجنس، وبمزيد من الجنس، الذي قد يحقق فيه نصرا من نوع ما، لكن الهزيمة سوف تلحق به في النهاية.

مجلة (الكلمة)
اغسطس 2007


حزامة حبايب في رواية «أصل الهوى»: الأدب العاري لا أدب العري

صقر ابو فخر

عن جريدة السفير اللبنانية

الأدب المكشوف أو الأدب اللذّي لم يكن غريباً البتة على الثقافة العربية أو على فنون السرد العربية. وكان دائماً أحد العناصر التوليدية في فن القص العربي، ولا سيما في حكايات «ألف ليلة وليلة»، أو حتى في العهد القديم، وبالتحديد في «نشيد الإنشاد». والأدب المكشوف اليوم الذي راح ينتشر، بالتدريج، في الكتابات العربية المعاصرة هو، في بعض نصوصه، استعادة للعصر الذهبي في الأدب العربي الكلاسيكي، وهو وسيلة لتحطيم الأقفال الحجرية، ولخلخلة امتثالية المجتمع العربي وفصاميته، وتدشين واع وجريء لأدب لا يخجل من البوح ومن مكابدات الجسد. وبهذا المعنى فإن الأدب اللذّي ينطوي على طراز باهر من تشقيق المحرمات البالية، ومن الإمعان في طلب الحرية، والعبث بما هو مسكوت عنه. وينطوي أيضاً على الرغبة الجامحة في تمزيق الحجب والأستار المضروبة على وجدان الكائن الإنساني. والأدب الرفيع، في نهاية المطاف، ليس البوح بما هو مباح، بل هو، في الجوهر، كشف وفضح وتحطيم وإيلام: كشف لآليات القمع التي ما برحت تستبد بالجسد البشري، وفضح لعناصر التدمير التي ما زالت تفتك بالحيوية المكتومة للفرد التائق إلى الانطلاق والتحرر والمرح، وتحطيم للأطواق التي ما انفكت تكبّل انبثاق الجديد المشاكس في الفن والأدب والحياة، وإيلام للروح الإنسانية الساكتة على هذا العسف المتمادي.

قصارى القول، ان العرب عرفوا الأدب اللذّي، وخاضوا في غماره، وتنافسوا في الكتابة عنه. وقد حفظ لنا الأدب العربي الكثير من المصادر في هذا الحقل من التأليف. ولعل «ألف ليلة وليلة» أشهر كتاب في هذا الميدان. لكن قبل «ألف ليلة وليلة» صاغ الجهشياري كتابه «عروس العرايس»، ثم انتشرت «الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة»، فضلاً عن مئات الكتب التي وضعها أئمة وفقهاء من عيار جلال الدين السيوطي صاحب «الوشاح في فوائد النكاح» و«رشف الزلال من السحر الحلال»، والقرطبي الذي كتب «التدبير المعين على كثرة الجماع»، وأبو حامد الغزالي الذي ألّف «القول في شهوة الفرج». وقد اشتُهر من بين هذه المؤلفات أيضاً: «الروض العاطر في نزهة الخاطر» (الشيخ النفزاوي)، و«الإيضاح في أسرار النكاح» (عبد الرحمن بن نصر الشيرازي)، و«رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه» (ابن كمال باشا)، و«رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب» (أحمد اليمني)، و«النكاح» (الشيخ عبد الله الموصلي الحنفي)، و«تزيين الأسواق في أخبار العشاق» (داود الأنطاكي). وفشت في الحواضر العربية كُتب الأسمار مثل «الخليع الدمشقي» و«جلنار البحرية» و«الأربعون جارية»، وكتب الأخبار مثل «أخبار النساء» (ابن قيم الجوزية) و«الاحتراز من مكائد النسوان» (الإمام الأبوصيري) و«المستظرف من أخبار الجواري» (الإمام السيوطي)، وغير ذلك الكثير. أما الأدب المكشوف الشفهي فقد شاع في القرن العشرين بعد انتشار «تائية» إبراهيم طوقان، وقصيدة الشاعر اللبناني نور الدين نور الدين «في رثاء عكوبة»، ثم قصيدة «ليلة الدخلة» للشاعرة المصرية ميرفت عادل (وهو اسم مستعار على الأرجح) التي عارضت فيها قصيدة «ماذا أقول له؟» لنزار قباني، وفُصلت بسببها من جامعة عين شمس في القاهرة.

اليسار الجديد

ربما كانت الحضارة العربية، إلى جانب الصينية والهندية، إحدى أكثر الحضارات القديمة شغفاً بالحب والجنس وولعاً بالنساء. ومع ذلك، ولأسباب دينية، تقدم الصينيون والهنود وتخلّف العرب في هذا الحقل من الاختبار، ولم يبدع العرب كتاباً بمستوى «الكاماسوترا» وهو كتاب فن الإغواء الهندي الذي كتبه الحكيم «فاتسيايانا ملاناغا» قبل نحو ألفي سنة. كذلك لم يعرف العرب، لأسباب دينية أيضاً، التصوير الجنسي الذي برع فيه الهنود والصينيون أيما براعة. وتجسِّد صور «برفاني وشيفا» وتماثيلهما، المتعانقان منذ ملايين السنين، الإيروسية الهندية القديمة والمتواصلة حتى اليوم. لكن الإيروسية العربية لم تكن لتستطيع أن تجد لها مكاناً خارج الشعر والحكايات. ومع أن التراث العربي طالما زخر بمختلف ضروب الكتابة اللّذية، إلا أن ذلك لم يكن متاحاً بسهولة للفرد العربي حتى وهو يطوي وراءه النصف الأول من القرن العشرين. ولهذا انصرف الفرد العربي التائق إلى اكتشاف أدب مغاير ومختلف، إلى قراءة «عشيق اللايدي تشاترلي» للكاتب د. هـ. لورنس، وهي رواية جريئة لا تتورّع عن وصف مشاهد المضاجعة، وعن استخدام الألفاظ الجنسية، وتمجّد الزنى والعلاقات الغرامية خارج الزواج الرسمي، ورواية «مدام بوفاري» للروائي غوستاف فلوبير، و«لوليتا» لفلاديمير نابوكوف وغيرها.

في ستينيات القرن العشرين، بدأت أفكار اليسار الجديد المناوئة للشيوعية السوفياتية تنتعش بقوة بعد أن أفاق العالم ذاهلاً على نيكيتا خروشوف وهو يكيل الشتائم للرفيق جوزف ستالين وعهده. حينذاك راح المثقفون العرب يميلون إلى قراءة الأدب الوجودي الأوروبي. لكن، ما إن اندلعت ثورة الطلاب في باريس في أيار/ مايو 1968 التي تزامنت مع انتفاضة المجر الثانية ضد الوجود السوفياتي في تلك الدولة، حتى كانت أفكار اليسار الجديد تعم العالم مستندة إلى الموت البطولي لتشي غيفارا في أدغال بوليفيا، وإلى الفكر الماركسي النقدي الذي حطّم قدسية الدولة السوفياتية باعتبارها دولة رأسمالية بيروقراطية، أو ما سُمّي «رأسمالية الدولة». وفي هذه الحقبة انصرف الشبان العرب إلى قراءة فرويد ولا سيما كتابه «ثلاث مقالات في نظرية الجنس»، وهربرت ماركيوز خاصة في كتابه المهم «الحب والحضارة»، وكذلك ولهلم رايش وكتابه «الثورة والثورة الجنسية»، ورايموت رايش وكتابه «النشاط الجنسي وصراع الطبقات»، وإريك فروم وكتابه «فن الحب». باختصار، شقت الماركسية ـ الفرويدية طريقها إلى عقول الشبان العرب وأفئدتهم من خلال كتابات رايش وجيزا روهايم وفروم. ولعل الطبيب السوري صبري القباني كان له شأن مهم جداً في نشر الكتابات الجنسية الجريئة والعلمية، وهو شأن أجدى بمئات المرات من الأحزاب الماركسية، من خلال مجلة «طبيبك» على سبيل المثال. وفي هذا السياق نشر بو علي ياسين كتابه «الثالوث المحرّم»، ونشرت نوال السعداوي كتابها «المرأة والجنس»، وتُرجمت رواية «مدار الجدي» لهنري ميلر وغيرها من الروايات الجريئة.

إن هذا الفضاء الثقافي والنقدي معاً الذي صنعه مثقفون عرب مهاجرون إلى بيروت بالدرجة الأولى، أمثال أدونيس وغادة السمان وصادق جلال العظم ومحمد الماغوط ونزار قباني، شقق الكثير من المحرّمات الفكرية والثقافية. وأفسح في المجال، لاحقاً، لإنضاج هذه الخمائر النافعة. ومع أن ليلى بعلبكي كانت نشرت رواية «أنا أحيا» في سنة 1960 ورواية «سفينة حنان إلى القمر» في سنة ,1963 إلا أن ذلك كله كان التمهيد الذي لا بد منه، أو المقدمة التأسيسية لظهور روائيين جريئين من عيار رشيد الضعيف خاصة في روايتيه «تصطفل ميريل ستريب» و«إنسي السيارة»، وعلوية صبح في روايتيها «مريم الحكايا» و«دنيا»، وأحلام مستغانمي في روايتيها «ذاكرة الجسد» و«عابر سرير»، وعبده وازن في «حديقة الحواس»، وحتى إلهام منصور في روايتها «أنا هي أنتِ»، علاوة على «الخبز الحافي» لمحمد شكري، و«برهان العسل» لسلمى النعيمي و«مرسال الغرام» لفواز حداد، وحتى ديوان «إيروتيكا» لسعدي يوسف... وهكذا.

أدب العري والأدب العاري

ربما من الجائز، مع بعض الاحتراس، أن نختار مصطلح «أدب العري» في مقابل مصطلح «الأدب العاري». فأدب العري هو الأدب الذي يكون السرير هو البطل الوحيد في نصوصه؛ وهذا ليس أدباً سيئاً في جميع الأحوال. إنه يندرج في حقل «الكتابات المنزلية» ذات الطابع الفضائحي. والكتّاب الذين يتوسلون هذا الضرب من التعبير، إنما يرغبون في رواية مآسيهم وتجاربهم واختباراتهم. إنه نوع من البوح أو الاعتراف، وهو يصب، في نهاية المطاف في نقد أخلاقيات المجتمع. وربما تكون القيمة الفنية والإبداعية لهذا الطراز من الكتابة محدودة، لكن القيمة الإنسانية والعاطفية والنقدية عالية جداً. وهذه الكتابات، ومثالها الروايات السعودية الجديدة، تدور، في الغالب، على سطوة الأب واضطهاد الأم وانتهاك الطفولة والاغتصاب وخيبات الحب والزواج... إلخ. إنهم شبان وشابات «زهقوا» من الصمت، وما عاد «الموبايل» و«الشات» يرويان ظمأهم إلى التواصل البشري، فأرادوا الإفصاح والبوح والكشف والإيلام.

لقد ازدهر هذا النوع من الكتابة في لبنان ومصر في الخمسينيات والستينيات، وتألق على أيدي بعض الصحافيين ممن عملوا في الصحافة الفنية أمثال بيار روفايل وجورج إبراهيم الخوري ووفيق العلايلي. وهذه «الروايات» كانت مرصودة للنشر في حلقات في المجلات الفنية الأسبوعية. والروايات السعودية الجديدة، باستثناء رواية «الآخرون» لصبا الحرز وربما غيرها، هي من طراز الروايات الشعبية الخفيفة، أو مثل الروايات البوليسية أو روايات المغامرات والجريمة والجنس التي تلقى رواجاً واسعاً في الغرب، بل إنها تشبه الروايات التي تُشترى في محطات القطارات، وتُقرأ في الرحلات الطويلة، ثم تُرمى في محطة الوصول.

وعلى خلاف ذلك كله شقت علوية صبح ثلماً مهماً في بيداء الرواية العربية الجديدة. فروايتاها : «مريم الحكايا» (بيروت : دار الآداب، 2002) و«دنيا» (بيروت : دار الآداب، 2006) طراز جريء من الأدب العاري؛ أي الأدب الذي يعرّي المجتمع وعلائقه النفاقية، ويكشف بعض جوانب الروح الذئبية للرعاع من أفراد الميليشيات في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. وهاتان الروايتان عبارة عن حفر متواصل في سوسيولوجيا الأرياف، وبالتحديد حينما يهبط الريفيون المدينة. إنها حكايات النازحين إلى ضواحي بيروت ورصد لتفصيلات حياتهم اليومية وحبال الغسيل المعلقة على الشرفات والمسلسلات المكسيكية والممثلة «استرليتا» والندابات اللواتي يبكين صخور الصوان والسحر والربط و«الفرشخة» والحَبَل والفتيات المنحرفات، والنساء اللواتي يمارسن الجنس مع مجنون، وقصص الضباع التي تكركر فرائسها قبل التهامها، وفوق ذلك كله محاولة الشبان الاندماج في الوسط المديني من خلال الانخراط في العمل السياسي، وبالتحديد في الأحزاب اليسارية. و«مريم الحكايا»، بالدرجة الأولى، هي رواية مبنية على اللغة؛ هذه اللغة التي تروي وتقص وتسرد وتتحدث عن العلاقات البشرية تحت اللحاف، وعن «تفقيع» القلب وعن الزبل والرثاثة و«الهردبشت»، وكيف تخاطب الأمهات الريفيات بناتهن مثل : يا بنت السايبة، يا هبلا، سدي بوزك، يا بهيمة... إلخ.

غير أن العري في هاتين الروايتين هو العري من الخارج، أي كأننا نشاهد فيلماً. إنه العري من خلال العين والأذن : العين الراصدة على طريقة السينما، والأذن اللاقطة التي تُسمعنا الأمثال الشعبية والشتائم بلهجة أهلها. لقد اشتغلت علوية صبح، بمهارة فائقة، على السوسيولوجيا، فأبدعت نصاً روائياً جريئاً، وفتحت الأبواب على مصاريعها أمام الأدب العاري الذي بات، في مواجهة السلفيات الحديثة، كالسم الذي يقطع مصارينها.

حزامة حبايب و«أصل الهوى»

للوهلة الأولى اعتقدت أن عنوان الرواية هو «أهل الهوى»، على غرار أغنية أم كلثوم المشهورة التي كانت صاحبتها تتثنى وتتدلع وتردد : «أكل الهوى». وفي سهرة مترعة في أبو ظبي مع حزامة وعبد الحليم حزّين وماهر الكيالي، سألتني حزامة: «هل اكتشفت، إذاً، ما أصل هواك ؟». والحقيقة أنني حرت في الجواب أيما حيرة، ورحت أتفكر وأتأمل : هل هو الكائن البشري العادي جداً «هذا الكائن المعشوق (الذي هو) أصل العذاب ومبعثه (والذي) تغزو الفطريات قدمه وتكون له رائحة فم مزعجة عند الاستيقاظ، ويضرط وينسى أن يشد حبل السيفون على خرائه في الحمام»؟ (ص 62) ؟ هل هو ذلك البعض البسيط من الجسد البشري، أي الجاذب الأبدي للذكر إلى الأنثى وللأنثى إلى الذكر؟ هل هو ذلك الدافع الغريزي والخفي للإفلات من رهاب الوحدة وللاندماج الجسدي في الكائن الآخر؟ هل هو هلع الموت أم الخوف من العيش والبقاء؟ أم هو ذلك كله معاً ؟

المفارقة أن اللذة التي تسعى إليها الكائنات كلها تقريباً، أكانت لذة الجسد أم لذة الامتلاك، إنما هي اقتراب من الفناء وانصراف عن الحياة في الوقت نفسه. أليست هي، بحسب علوية صبح، «ارتفاع إلى غيبوبة الموت المؤجل، ورجوع إلى سكينة الحياة» («دنيا»، ص 88).

مهما يكن الأمر فإن رواية «أصل الهوى»؛ هذه الرواية المدهشة لحزامة حبايب، تتيح لنا القول إن روائية جديدة وعالية الكعب قد وُلدت في العالم العربي. فقد اشتُهرت حزامة بأنها قاصة متميزة، وكاتبة مقالة رشيقة وجريئة. وبعد أربع مجموعات قصصية هي: «الرجل الذي يتكرر» (1992)؛ و«التفاحات البعيدة» (1994)؛ و«شكل للغياب» (1997)؛ و«ليل أحلى» (2002)، ها هي روايتها الأولى تدشن شوطاً جديداً في الرواية العربية. وفي هذه الرواية (بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007) لا تتورّع حزامة حبايب عن «تقشير» الرجل بقسوة، تماماً كما يقشّر اليافاوي برتقالته بسكينه. ولعلها أتقنت، ببراعة لافتة، قلب داخل الرجل إلى خارجه مثلما يقلب الريفي جواربه بيديه، أو كما تقلب عجائز بلادنا مصارين الأغنام لحشوها. والرجل بين يدي حزامة حبايب عار تماماً في هذه الرواية، عاجز، مسكين، مفضوح، قليل الفائدة. ومع هذا لا يمكن الاستغناء عنه. واللغة في هذه الرواية ليست لغة استعمالية على الإطلاق، أي أنها ليست مجرد وسيلة للوصف والرصد والسرد وكفى، وإنما هي أسلاك خفية تنقل الارتعاشة والشهقة والرغبة والنشوة كما هي، وتسري فيها خيوط من القلق والخوف والصغائر والضغائن والنكايات وجميع عناصر العيش البشري. إنها حكايات الحَبَل والعقم والعجز الجنسي، وقصص الأمعاء المتخمة والمعدة الفارغة، والنساء اللواتي تنتفخ بطونهن ما إن ينتهي «نفاسهن». إنها فحص للسُرَر البارزة وللرجال الذين تعاقبهم زوجاتهم بحرمانهم من التقام الثديين؛ وهي، في الوقت نفسه، جولة بين روايات اللاجئين الفلسطينيين عن التشرد والاغتراب والبؤس والهجرات الدائبة إلى الخليج، وعن المصائر البائسة لهذه المجاميع التي لم يبقَ لها إلا حكايات العشق والنساء اللواتي يعشقن غير أزواجهن، والرجال الذين يتزوجون مرات ولا يكتشفون الهوى. إنهم ريفيون لاجئون مشردون هائمون بين الأردن ودمشق والكويت وأبو ظبي، يصوغون في حيواتهم «المكركبة» مئات الوقائع عن الثديين المتخاصمين وعن «طائر الرجل وعش المرأة»، وعن عمر الذي ضاجع أخت زوجته، وحسنا «العاقر» التي تزوجت شقيق زوجها فحبلت، وعن رقية التي أحبت صبي الفران الذي كان يتناول عجينها قبل الجميع، لكنه لا يخبزه إلا بعد أن يخبز عجين الجميع ليتسنى له أن يتأملها طويلاً، عن عجيزة إحدى الممثلات التي تشبه قاعدة الغيتار (ص 26)، عن الهوية الملتبسة للفلسطينيين في الأردن، وعن الفلسطينيين الذين أجبرهم الجيش العراقي على ارتداء الدشاديش في «حولّي» ثم أرغمهم على أن يهتفوا: «صدام إنت السيف ونحنا ذراعك»، عن «بعبصة» أميركا وعن المال والجنس وصراخ عزام: «يا رقية رضعي البنت».

حزامة حبايب، في روايتها الآسرة هذه، تبدو ساخرة وقاسية وحانية معاً، وتكاد تلتهم هذه الدنيا، كأنها في مواجهة عبث الموت تريد أن تستعيد كل ما ضاع منها حتى لا يتسرّب من بين أصابعها إلى الأبد. فهي تسخر من منازل اللاجئين الذين تستهويهم تعليق صورة لصحن من الفاكهة في غرفة الطعام، وسجادة قديمة على الحائط في غرفة الجلوس، ولوحة فيها خيول متقافزة في البهو، فضلاً عن الشهادة الجامعية، وسبحة زرقاء وعين من حجر الفيروز للوقاية من الحسد وخريطة فلسطين أيضاً.

تفصح الرواية، علاوة على السخرية الهاذية، عن شغف الكاتبة بالتفتيش عن الأشياء الجميلة واكتشاف ما هو أبعد من العيش اليومي، فتجول في عالم الموسيقى والغناء متنقلة بين الأغاني الشعبية (جفرا وياهالربع) والأغاني الحماسية (ثوري ثوري يا جماهير الأرض المحتلة) إلى «المولتو أليغرو» وكارمينا بورانا وخصوصاً في مقدمتها «أيها القدر» ذات الكلمات اللاتينية الهامسة والهادرة: «سورْس إيمانيس... إت إينانيس...»، ثم تنعطف نحو شرائط البورنو والسينما والممثلة كيرا نايتلي وفيلم «قراصنة الكاريبي» وأمثال العامة (البيت ضيّق والحمار رفّاس)، وتسهب في الكلام على الفكر السياسي عند كارل ماركس (البيان الشيوعي ورأس المال) وكيف يجري التغرغر به في منزل مازن البرجوازي القائم في حي الشميساني الفاخر في عمان، عندما يتجمع نفر من اللاهثين الباحثين عن معنى لحياتهم، فيعشق إياد البدوي الفقير فاديا شقيقة مازن، ويتعوّد سماع «كارمينا بورانا» بدلاً من «يا هلا بالضيف ضيف الله».

في نهاية مدخل الرواية جملة لا يظهر معناها إلا بعد نحو 300 صفحة. فقد أقفلت الكاتبة المشهد على النحو التالي: «علا الوجوه اهتمام مفاجئ. توجهت العيون نحو مذيعة الجزيرة البكماء. أسفل الشاشة، إلى اليمين، ظهر إطار أحمر ناري في داخله كلمة: «عاجل» ... لكن ما هو هذا الخبر العاجل حقاً؟ تتناسى الرواية هذا الخبر طوال 300 صفحة لتعود إليه، وتفصح عنه، في آخر فقرة منها. إنه موت ياسر عرفات.

إذاً، بدأت الرواية بكلمة «عاجل» على قناة «الجزيرة»، وأُقفل آخر مشهد فيها على خبر عن ياسر عرفات في مستشفى بيرسي في فرنسا، ثم شريط «مات أبو عمار». وهذا هو، بالتحديد، الخيط الذي ربط المصائر الفاجعة لمجموعة من الفلسطينيين بالحيوات المتعاكسة لجيل كامل امتلأ بالأمل ثم عاد ليتبدد مثل غبار الطلع. وفي هذا المضمار لا أجازف بالقول إن رواية «أصل الهوى» رواية ستسهم، بالتأكيد في كسر الأقفال الحجرية الجاثمة على وجدان الناس وأجسادهم، وفي خلخلة امتثالية المجتمع العربي وفصاميته، وفي تأسيس لغة أدبية لا تخجل من مكابدات الجسد. وعندما تنبثق في سماء الأدب العربي روايات من عيار «أصل الهوى»، ولا تقوم عليها قوائم كائنات الكهوف وحوافرهم، مع أن العالم العربي مبتلى بالسلفيات والأصوليات وحراس النواويس العتيقة، فتلك بشارة بأن المجتمع العربي شرع، ربما، في أولى خطواته نحو احترام الجسد البشري وحقه في البوح بالتفصيلات اللاهبة لهذا الجسد.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)