روايات صغيرة ساهمت في صياغة وجدان أجيال

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأحد 01-10-2017
المدن - ثقافة
نزار آغري


روايات قصيرة.. لكنها خالدة


“المسخ”، هي واحدة من الأعمال الفذة


منذ جلجامش والأوديسة والألياذة وألف ليلة وليلة والديكاميرون وحكايات كامبري وصولاً إلى الكوميديا الإلهية والفردوس المفقود ودون كيشوت وانتهاء بالبؤساء والحرب والسلام وأنا كارنينا والبحث عن الزمن المفقود، وهذا مجرد غيض من فيض، كان هناك ميل على الدوام إلى تسطير حشد هائل من الصفحات التي تروي مصائر وأقدار وخواتم عدد كبير من الأبطال وعلى امتداد أجيال وسنوات طويلة.

ابتداء من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بدأت مخيلة الكثير من المبدعين تتفتق عن اجتراج أعمال باهرة، ولكن مكتوبة في صفحات قليلة. هكذا بدأت مسيرة الروايات القصيرة التي اعتبرت، رغم قصرها، أعمالاً فذة لا سابق لها. هي سرديات حاذقة، متقنة، مكثفة، مدونة في قوام بارع من حيث الحبكة والصياغة الفنية والبنية اللغوية والجمالية.

روايات قصيرة، لا تتجاوز المائة صفحة، في الكثير من الأحيان، وتكاد تقتصر على مصير فرد واحد وخلال فترة زمنية قصيرة لا تتعدى في بعض الأحيان أربع وعشرين ساعة.
ليس في الوسع الإحاطة بهذه الروايات كلها، وهي باتت تحتل مكانتها في خانة الأعمال الخالدة.

يمكن البدء بمعطف غوغول، وهي رواية قصيرة جداً، بل هي أقرب إلى قصة طويلة. كانت منعطفاً في السرد الأخاذ الذي يمسك بتلابيب القاريء ولا يدعه يفلت من سحره إلى آخر سطر. حكاية معطف أكاكي أكاكيفتش، الموظّفٌ البسيطُ الذي يكد ويبدد حياته، وقته وطاقته، من أجل أن يوفر ثمن معطف جديد بعد أن اهترأ معطفه القديم. من هذا المعطف، قال تيودور دويستوفسكي، “خرجنا كلنا”.

“العجوز والبحر”، لأرنست همنغواي، هي حكاية الصياد العجوز سانتياغو الذي ظل القدر يعانده فلا يظفر بصيد مقبول إلى أن أن يهبط عليه الحظ دفعة واحدة في هيئة سمكة كبيرة تقاومه بضراوة ويبقى هو متمسكاً بها، ويخوضان صراعاً رهيباً يستنزف طاقاته وطاقات السمكة التي تتلقى الطعنات فتنزف دماً. يشد الدم أسماك القرش التي تتكفل بإراحة سانتياغو من عبئه بأن تلتهم السمكة كلها تاركة له الهيكل العظمي.

رواية أشبه بملحمة توقع القارىء في خضم معمعتها لدرجة يشعر، وهو يقرأ، أنه هو الذي يخوض الصراع، لاهثاً، متقطع الأنفاس.

رواية “فئران ورجال” كتبها الأميركي جون تشاينبك في فترة الكساد الاقتصادي الذي عم أميركا خلال سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي. هي حكاية جورج وليني اللذين يحلمان في امتلاك مزرعة خاصة بهما. من أجل ذلك لا يوفران أي جهد للوصل إلى هذا الحلم، السهل ولكن البعيد المنال في آن واحد. الحلم الأميركي، على ما اتفق الكثير من النقاد على القول في أن الرواية تومي إليه. دون هذا الحلم الكثير من الصراع، على غرار صراع الصياد سانتياغو. هنا أيضاً هناك الكثير من اسماك القرش، ولكن البشر هذه المرة. وعليه ثمة سفك دماء وغدر وخيانات وخراب.
استمد جون شتاينبك عنوان الرواية من قصيدة غنائية اسكتلندية شهيرة للشاعر روبرت بيرنز (1759-1796)، والقصيدة هذه تحمل عنوان “إلى فأر” وهي تتضمن السطور:
“The best laid schemes of mice and men go often askew”.
“أفضل خطط الفئران والرجال غالبًا ما تنحرف ولا تتحقق كالمرجو منها”.

مزرعة الحيوان” هي الرواية الصادمة التي نشرها جورج أورويل لكي يحكي بأسى وألم وسخرية مرة مصير الثورة البلشفية بعد أن وقعت في أحضان ستالين وأتباعه.كانت الثورة مأثرة مشرقة وجبارة أنجزها لينين وتروتسكي غير أن ستالين عمد إلى خنقها والانحراف بها نحو الطغيان والفساد والجريمة والغدر والسلطة المطلقة العاتية.

كان جورج أورويل إشتراكياً متحمساً ذهب إلى إسبانيا أثناء الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين وشارك في القتال وأصيب وأجبر على الفرار بعد أن امتلأ بكراهية مريرة ودائمة للشيوعية.

“السيدة دالاوي”

في 28 مارس 1941، ملأت الروائية البريطانية فيرجينيا وولف جيوبها بحجارة ثقيلة وسارت إلى نهر أوس بجوار سكنها في ساسكس وألقت بنفسها في الماء الذي جرها إلى الأعماق فماتت. انتحرت بعد أن كانت أبهرت الجميع بروايات صادمة في مضامينها وأسلوبها وطريقة سردها. تلك الطريقة التي سوف تترسخ، في ما بعد، باعتبارها اقتحاماً مذهلاً للعوالم الداخلية للنفس الحائرة، التائهة، المتمزقة. سوف يتكرس اسمها، إلى جنب الإيرلندي جيمس جويس، في سجل قيد اجتراح تيار الوعي والاستعادة والملاحقة الدقيقة ليوميات العيش الرتيب، الباهت، العادي، الذي يعشيه واحدنا في الزمن الحالي. رحلت وولف عن العالم وتركت وراءها، من بين أعمال مبدعة كثيرة، رواية “السيدة دالاوي”، التي تروي وقائع يوم واحد من حياة سيدة تدعى كلاريسا دالاوي. هي وقائع عادية جداً يقوم بها كل شخص من قبيل القيام بجولة في لندن لشراء باقة من الورود.

خلال هذه الجولة، وما يليها، نتعرف على السيدة دالاوي وأصدقائها وصديقاتها وهواجسها ومشاغلها وما يحيط بها والناس من حولها. رواية التوافه اليومية والمشاغل الصغيرة، المنزوعة الدراما، على غرار تلك التي سطرها جيمس جويس في يوليسيس عن السيد بلوم.
عندما انتحرت فرجينيا وولف تركت رسالة لزوجها قالت فيها: “بت أسمع أصواتاً في رأسي ولم أعد أستطيع التركيز في عملي. أدين لك بكل سعادتي، لكنني لا أستطيع الاستمرار والتسبب في إفساد حياتك”. سكتت السيدة دالاوي للأبد.

“جوع”، هي الرواية التي أصدرها النروجي كنوت هامسون عام ١٨٩٠. نشرت أجزاء منها بصورة مقطعة في مجلة دنماركية قبل أن تطبع في كتاب، وهي تصور حياة شاب فقير، مدقع، يحلم بأن يصير صحافياً كبيراً. الشاب جائع وهو يكتب مقالة للصحيفة اليومية بأمل أن يتمكن بثمنها من تسديد إيجار الغرفة الرثة التي استأجرها من سيدة عجوز تهدد برميه إلى الشارع. تقع أحداث الرواية في أواخر القرن التاسع عشر في أوسلو. يتجول الشاب في شوارع المدينة دون كلل، ليلاً ونهاراً، ومن خلاله نتعرف على الحياة الجارية هناك. حياة هي مزيج من البؤس واللامبالاة والاستسلام للقدر.

اعتبرها الكثيرون من النقاد “جوع” فاتحة الرواية الحديثة التي تركز على الجانب النفسي للفرد، وانعكاس مجريات المحيط الخارجي في سلوكه ونوازعه، لدرجة أن بعضهم اعتبرها النافذة التي أطل منها جيمس جويس وفرجينيا وولف وصموئيل بيكيت على تيار الوعي. الكاتب الأميركي بول أوستر من أشد المعجبين بالرواية، وقد كتب مقدمة طويلة للطبعة الأخيرة من الترجمة الإنكليزية، معتبراً إياها إحدى أهم روايات القرن العشرين.

رواية “الحارس في حقل الشوفان” للأميركي د. ج. سالينجر، صدرت عام 1951. تُرجمت إلى أغلب لغات العالم وبلغت مبيعاتها أكثر من 65 مليون نسخة حول العالم، ويباع منها حوالي 250,000 نسخة سنويا. أصبح بطل الروية، الفتى هولدن كولفيلد رمزاً للتمرد، هو الذي لم يتجاوز السبعة عشر عاماً من عمره. مراهق يزدري مجتمعه ويرى الناس جميعاً غارقين حتى آذانهم في الزيف والغباء. يَتعرض للطرد من المدرسة الداخلية لأنه رسب في كل المواد ما عدا الإنكليزية. ظلت الرواية واحدة من أكثر الكتب الخاضعة للرقابة في المكتبات والمدارس الثانوية في الولايات المتحدة ومع هذا بقيت ثاني أكثر الكتب تدريسا في مدارس الولايات المتحدة.

العطر

“العطر: قصة قاتل” للألماني باتريك زوسكيند تُرجمت إلى 48 لغة وبيعت أكثر من 20 مليون نسخة عبر العالم، وبقي اسم هذه الرواية في لائحة الأفضل مبيعاً لأكثر من تسع سنوات. تروي سيرة حياة جان باتيست غرونوي، الشخصية الدموية المنبثقة من عوالم باريس السفلية. تسرد الرواية كيف غدا هذا الشخص قاتلاً بلا رحمة، لا يحركه إلا شغف لامتناه بسبر أغوار الروائح.

“المسخ”، هي واحدة من الأعمال الفذة التي أبدعتها قريحة فرانز كافكا. ليست بالتأكيد أهم من المحاكمة والقلعة وفي مستوطنة العقاب وسوى ذلك من أعماله غير أنها الأكثر عمقاً في إيحائها الرمزي. اعتبرها إلياس كانيتي واحدة من الكتابات النادرة الرائعة، وأحد أفضل أعمال الخيال الشعري في هذا القرن. يستيقظ غريغور سامسا ليجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة بشعة. هذا العامل البسيط، البائس الذي تجبره مهنته كبائع متجول على الاستيقاظ مبكراً ليلحق بقطاراته كي يجوب المدن، في شقاء يومي متكرر. ترتعش أطرافه المفصلية الحشرية وهو يتقلب في محاولاته اليائسة للنهوض من فراشه. ولا تقتصر مأساته في عجزه عن المواءمة مع هذا التحول القدري، بل تتعداه إلى موقف الأسرة السلبي منه. تنهض رغبة جماعية في التخلص منه، حتى ولو كان الثمن هو الموت، فالارتباط المادي الذي يربطهم به قد انقطع صبيحة التحول الحشري مع توقفه عن العمل.

بدأ ألبير كامو في كتابة رائعته “الغريب” عندما بلغ الخامسة والعشرين من العمر وفرغ منها بعد سنتين. هو يرسم الحياة البوهيمية لبطله اللامبالي، البارد، البوهيمي ميرسو، الذي ماتت أمه “أمس، أو ربما اليوم”. ارتكب هذا الشخص جريمة في حق أحد الأفراد بدمٍ بارد على رمال أحد الشواطئ. فعل ذلك لا لشيء سوى أن اشعة الشمس الحارقة أزعجته ومنعته من الرؤية بوضوح.

أصدرت فرانسوا ساغان رواية “صباح الخير أيها الحزن” عام 1954 قبل أن تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها لتدخل عالم الأدب و الشهرة من أوسع الأبواب وتصبح واحدة من أشهر الكاتبات في القرن العشرين ورمزا ً بارزا ً للأدب الفرنسي كما قال الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في حفل تأبينها حين توفيت عن عمر يناهز التاسعة والستين في 2004.

تدور أحداث الرواية في مكان ما من الريفيرا الفرنسية الجميلة حيث تعيش سيسيل ذات السبعة عشر عاما حياة مرفهة وهادئة مع والدها ريموند وعشيقته إيلزا. هي تقع في حب سيريل، الشاب الوسيم الذي أطل فجأة بقاربه من وراء الأمواج. سرعان ما تهب عاصفة من العواطف حين تأتي آن، صديقة والدتها، وتقتحم عالمهم الرتيب، فهي تنجح آن في إيقاع ريموند في حبها وتقنعه بالزواج منها دون صعوبة. ترى سيسيل أن الحياة الجميلة الهانئة توشك على الانتهاء وترسم خطة للحيلولة دون ذلك. ينتهي الأمر بتراجيديا حزينة.

تلك نماذج من روايات صغيرة، قليلة الصفحات، وقليلة الشخصيات والأحداث، غير أنها كبيرة إلى حد هائل في ما أحدثته من تأثير أشبه بصاعقة في سماء الصنيع الروائي وساهمت في صياغة وجدان أجيال بأكملها.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى” جريدة المدن الألكترونيّة " - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)