رسائل مارسيل بروست، ترجمة ربيع صالح دار الرافدين للنشر - ديسمبر 2018

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الجمعة 23-03-2019
المدن - ثقافة
أسامة فاروق


رسائل مارسيل بروست : بورتريه الإنسان العادي


أفضل طريقة للدفاع عن اللغة هي “مهاجمتها”


“كنت أتمنى أن أجيب على أسئلتك بالتفصيل إلا أنني عملياً شخص ميت”. الجملة السابقة كتبها مارسيل بروست، رداً على رسالة للكاتب والناقد الفرنسي كاميل اوتارد، تساءل فيها الأخير عن بعض التفاصيل الغامضة في رواية بروست “البحث عن الزمن المفقود”. رسالة تؤكد الحرص الكبير الذي أولاه بروست لمتابعة عملة حتى الرمق الأخير، حتى لو كانت تعليقاته مجرد “هدية بسيطة من رجل يحتضر”، لأنه ببساطة لم يكتب سوى رسالة واحدة بعدها. فقد كان يحتضر فعلياً.

يمكن قراءة سيرة بروست من عمله الكبير “البحث عن الزمن المفقود”، وهو نفسه قال إن جزءاً ليس هيناً من الرواية كان تتبعاً لمسيرته وما استطاع أن يستعيده بذاكرته المحدودة، لكنها ستظل عمليه استنطاق وتتبع مرهقة وربما غير مجدية، في حين أن الرسائل التي ترك الكثير منها يمكن أن تقوم بهذا الدور باعتبارها بديلاً حقيقياً لسيرته الذاتية التي لم يمهله المرض لكتابتها. فالرسائل التي ظهرت ترجمتها العربية مؤخراً في كتاب تجاوزت صفحاته الخمسمئة صفحة، تعتبر سجلاً وافياً جداً لمسيرة بروست في الكتابة والحياة. معاناته مع المرض جعلتها –الرسائل- وسيلته الوحيدة للاختلاط بالعالم، لذا فهي لا تعطي مجرد لمحات عما يجول في خاطره من أفكار، لكنها تسجيل مفصل لكل ما أراد قوله أو فعله. فقد تواصل من خلالها مع أهله وأصدقائه، وأيضاً مع الكتّاب والناشرين والصحافيين، تحاور معهم في ظروف الكتابة والنشر وحتى في أمور الحياة العادية. وتكشف الرسائل جوانب مهمة جداً في شخصية بروست ككاتب، والأهم كإنسان؛ التشكك والقلق الدائم، الصراع مع المرض، والعقبات اليومية التي واجهته، وبراعته في التعامل مع هذا كله. تمنحنا صورة الوجه الآخر للأديب الشهير، كما يقول الناشر، كيف كان يعيش كإنسان عادي، غارق في تفاصيل حياته وتقلباتها اليومية.

يتيح الكتاب فرصة للاطلاع عن كثب على عامله، والظروف التي أنتج فيها أعماله، حيث ولد مارسيل بروست قبل يوم واحد من تنازل نابليون الثالث عن السلطة العام 1871، وتوفي في العام 1922، بعدما شهد ويلات الحرب العالمية وأهوالها، وهو في قمة مجده وعطائه. بدأ مشواره كاتباً للمقالات، ثم عكف على ترجمة أعمال الشاعر الإنكليزي جون رسكن إلى الفرنسية، وبعدها أصدر كتاباً يضم بعضاً من مقالاته وأشعاره، بعنوان “المسرات والأيام”، قبل أن يباشر بكتابة عمله الخالد والأشد تعقيداً “البحث عن الزمن المفقود” والذي توفي قبل أن يكمل تنقيح الأجزاء الثلاثة الأخيرة منه. رسائل الكتاب تكشف قدر النضال الذي خاضه بروست ليكتب وينشر هذا العمل، ومن خلالها يمكن تتبع العملية بكاملها، منذ أن بزغت الفكرة في رأسه، حتى صدور الأجزاء الأولى وردود الأفعال حولها. كيف كان يجمع المعلومات بدقة متناهية، وكيف اتخذ من أصدقائه وكل المحيطين به زاداً استعان به في رسم شخصيات روايته الكبيرة، كما ضمنها آراءه في الكتابة السائدة وفى التصنيفات المدرسية التي رفضها وكان له رأي واضح فيها: “ما الداعي إلى تصنيف المبدعين في مدارس واتجاهات طالما أننا نفهم ما يكتبون أو ما يريدون إيصاله إلينا؟ إضافة إلى ذلك، ليست مهمة المدة الزمنية التي تستغرقها مدرسة ما، لأن ذوق المبدع وإبداعه دائماً ما يكون أكبر وأوسع من أي إطار زمني”.

لم يكن يحب الاختلاط بالناس، وأجبره مرض الربو على الانعزال عن العالم، وزادته وفاة والده ثم والدته التي كان شديد التعلق بها، انزواء وعزلة. كتب في رسالة بعدها يقول “الآن فإنني أجد الحياة حتى في تفاصيلها البسيطة والثانوية شديدة المرارة وبغيضة جداً. الناس الآخرون لديهم طموحات أو أهداف تجعلهم يحبون الحياة ويقبلون عليها، أما أنا فلا طموح عندي ولا هدف أسعى إليه. كل ما كان لدى هو تلك الحياة العائلية التي تحطمت إلى الأبد”. ويقول في رسائل أخرى “منذ وفاة والدتي، أصبحت الحياة بلا غاية، بلا جمال، بلا حب، بلا عزاء، فقد كانت والدتي هي الغاية الوحيدة لحياتي والحب الوحيد والعزاء الذي لا أملك غيره”. حتى إنه تمنى بعدها أن يعتزل العالم في دير كبير، ليكتب وينجز الكثير من الأفكار التي تدور في رأسه.

تتيح الرسائل أيضاً الاطلاع على بعض الجوانب العاطفية في حياة بروست، كتعلقه بصديقته لويزا دى موراند، التي تبادل معها الكثير من الرسائل التي كانت تشحن طاقته للحياة رغم أنه كان يبث فيها أحزانه وآلامه كلها: “أنا محروم من كل شيء، من الهواء العليل، ومن ضوء النهار، ومن مزاولة أي عمل، ومن أي متعة، باختصار أنا محروم من الحياة نفسها!”. يقول في رسائله لها أيضاً: “حياتي كلها وليس شبابي فقط، يضيع هدراً، وعليه فإنني سآخذ بأي مقترح أو حل يمكنني من رؤيتك مرات ومرات ولفترة طويلة من الزمن”. لكنه رغم ذلك يتراجع عن تلك العلاقة حتى لا يخون صديقه الذي ارتبط بها: “إنني أفضل الموت على أن أقترب من امرأة يعشقها صديقي ذو القلب الحساس”، رغم إنه يعود ليقول أيضاً بعد فترة: “هل أمتلك الشجاعة الكافية لكي لا أقول لك مع السلامة؟”!

ماهية المشروع

في تشرين الأول/اكتوبر 1912، بدأ مارسيل بروست يتحدث علانية عن مشروعه الكبير “البحث عن الزمن المفقود”. بالطبع بدأ العمل في الرواية قبل ذلك التاريخ بكثير، حيث يقول في رسالة كتبها العام 1905 إلى صديقه انطوني بيبسكو “مئات الشخصيات الروائية والأفكار تتوسلني لكي أجسدها في عمل ما”، لكنه كان يشكك كثيراً في ماهية “المشروع” الذي يعمل عليه. وفي أيار/مايو 1908، كتب رسالة يؤكد فيها وصوله إلى الشكل الذي يريده: “لقد بدأ مشروعي الأدبي يتخذ صيغته النهائية ألا وهى القصة القصيرة الطويلة”. لا يدعي اكتشافه لشكل جديد، لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن تجربته ستكون مختلفة عن كل ما كان ينشر في ذلك التوقيت، والذي لم يكن يرضي ذائقته بأي حال: “إنني أرى في تلك الأعمال تجسيداً لحلم الفن لأنها مستمدة من الحياة بصورة مباشرة وبشكل مبالغ فيه. إنها أعمال مبتذلة، إن لم تكن زائفة، لا تستحق إلا صفعة على الوجه”.

التجديد الذي كان يسعى إليه لم يكن على مستوى الشكل أو البنية السردية فحسب، بل كان يسعى للتجديد حتى في اللغة نفسها. فكان يرى أن أفضل طريقة للدفاع عن اللغة هي “مهاجمتها” لأن تماسك اللغة في نظره لا يأتي إلا من طريق تخليصها من مفعول المتناقضات. وكان يرى أن ثمة لغة تقع خارج هيمنة الكتاب والأدباء وهي التي يجب تبنيها وحمايتها: “على الكاتب أن يكتب بطريقة وبأسلوب يختلف عن طريقة وأسلوب كتّاب الماضي إن أراد أن يقارن بهم. ومن أراد أن يحمى اللغة الفرنسية فما عليه إلا أن يكتب بأسلوب مختلف تماماً عن أسلوب وطريقة الكتاب الكلاسيكيين”.

غير محظوظ

ورغم هذه الآراء الحادة والواضحة، ظل التشكك في ما يكتبه يلازمه، حتى بعدما أنهى جانباً ضخماً من عمله الكبير. يقول في رسالة للصحافي والروائي لويس دي روبرت العام 1912: “لعلك تعرف بأني منذ أن داهمني المرض، بدأت العمل على كتابة عمل ضخم يمكن أن اسميه رواية؛ إنه عمل غير محظوظ كما هو الحال مع السيرة الذاتية (أو يمكن القول إنه محظوظ بمقدار الحظ المتاح في هذه الحياة)”.

يقول أيضاً في الرسالة نفسها: “إنني أجد قسوة في كتابة هذا العمل على الرغم من صعوبة تقييمه بسبب ما ينطوي عليه من تعقيد”، ويصف تشككه بوضوح في قوله: “لا أعرف كيف أصف هذا الجنس الأدبي، فبعض أجزاء الرواية تدور أحداثها في الريف، وبعضها الآخر في أوساط اجتماعية معينة، وبعضها في أوساط أخرى مختلفة من المجتمع، بعض الأجزاء تتعلق بالحياة العائلية، أما القسم الأكبر منها فهو بذيء وغير لائق بشكل فظيع”!

لكن هذا ليس السبب الوحيد في تأخر إعلان بروست عن عمله الجديد، بل طبيعته الشخصية المتشككة التي فرضت عليه التعامل بهذا الشكل. فتكشف الرسائل كيف كان يميل للسرية التامة تجاه ما يكتب، ويقول في رسالة لصديقه الكونت جورج دى لورس العام 1909: “أعتقد أنني أستطيع أن أقول، من خلال ما عبرت عنه من إعجاب وتقدير، أنك قرأت الصفحات الأولى من كتابي، الأمر الذي أعده مصدر سرور وسعادة لي. ما أطلبه منك هو عدم التطرق لموضوع الكتاب أو عنوانه أو أي معلومات أخرى، فأنا لا أحب أن أستعجل أو أن أتلقى أسئلة واستفسارات تضايقني، ولا أحب أن يتداول الآخرون تخمينات أو توقعات حول الكتاب أو شرح فكرته أو نقده. سيكون هناك متسع من الوقت حتى تنضج فكرة الكتاب وتكتمل ومن ثم يطلع عليه الناس”. وهي الطريقة التي اتبعها مع كل من تحاور معهم بشأن النص الجديد، سواء من الكتّاب أو الأصدقاء أو حتى الناشرين الذين عرض عليهم النص بصورته شبه النهائية.

ناشر

الغريب أن حالة التشكك التي لازمته، استمرت حتى دفع العمل للنشر، وقتها فقط تأكد من صدق توقعاته، فقد رفض أكثر من ناشر طباعة العمل، وكان تصوره المبدئي أن الرواية ستكون في ثلاثة أجزاء، كل جزء يقع في 400 صفحة، أو جزأين كل جزء يقع في 500 أو 700 صفحة! بالطبع اختلف هذا الأمر في النهاية، وصدرت الرواية في 7 أجزاء. لكن الرسائل تكشف عملية بحث مضنية خاضها بروست، في ظروف مرض صعبة، بحثاً عن ناشر يقبل العمل بتلك المواصفات المختلفة جذرياً عما كان ينشر وقتها. يقول في رسالة لصديقه انطونى بيبسكو “لم تعد دور النشر ترغب في نشر روايات طويلة؛ فضلاً عن ذلك، فإن بعض الروائيين يكتبون روايات ذات حبكة موجزة وشخصيات قليلة. إن ذلك بعيد من مفهوم الرواية الذي أؤمن به”، وهو ما أوضحه أكثر من مرة في رسائله، حيث كان يرى أن ثمة هندسة مستوية وهندسة الفراغ. وعليه، فإن الرواية بالنسبة إليه لا تمثل علم نفس المستوى فقط، إنما علم نفس الفراغ والزمن، لذا أصيب بخيبة أمل كبيرة من الرفض الذي واجهة في البداية خشية أن يفشل في إيصال فكرته للناس: “ما يهمني من كتابة هذه الرواية، هو أن يفهم الناس ما كنت أحاول أن أفعله، رب حدث تافه صغير يكشف لنا عن مرور الزمن وانقضائه، وأن بعض الصور الجميلة قد ازدادت جمالاً على مر السنين”.

هذا الوصف الذي يبدو بسيطاً وعفوياً، هو ما يطبقه فعلاً في روايته الضخمة، حيث يستحضر الراوي، على نحو مفاجئ، سنوات منسية وأشخاصاً وحدائق وأماكن طواها النسيان، عندما يتذوق رشفه من قدح شاي يحتوى على قطعة مادلين. يتذكر الأشياء المنسية، لكنه يتذكرها بلا لون ولا شكل. يشبّه عملية التذكر والاستعادة تلك، بلعبة يابانية صغيرة تُلقى فيها قطع ورق مضغوطة في وعاء ماء فتدور وتنفتح لتتخذ أشكالاً بشرية أو أشكال زهور. هكذا تذكر الراوي كل زهور حديقته، وناس القرية الطيبين وبيوتهم الصغيرة، والكنيسة ومدينة كومبري وضواحيها. تذكر كل شيء، فقط عندما تذوق رشفة واحدة من قدح الشاي. تلك اللحظات المستعادة من الزمن هي، بالنسبة إليه، الشيء الوحيد الممهور بمهر الأصالة: “إن روايتي ليست عملاً استنتاجياً؛ لقد كانت مشاعري وأحاسيسي مصدراً لكل عناصرها التي لمستها وأحسست بها أولاً في أعماق نفسي من دون أن أفهمها، ثم بذلت كل جهدي لأحولها إلى شيء واضح ومفهوم”. ويشرح في رسالة أخرى: “بعض الأحداث وبعض الشخصيات في روايتي تحاكي أحداثاً وشخصيات أعرفها، موجودة على أرض الواقع؛ لكني مع هذا، أؤكد أن الشخصيات والأحداث والرواية هي من نسج الخيال، ولا يوجد مفتاح محدد للنفاذ إلى باطن الشخصيات وإماطة اللثام عنها”.

انتظار الموت

كان بروست في سباق مع الزمن، في الوقت نفسه، كان ينتظر الموت في أي لحظة، خصوصاً في النوبات التي كانت تتكاثر عليه في بعض الأحيان. كان يخشى أن يرحل قبل أن يتم عمله الكبير: “قد يرى الناس غرابة في موقفي هذا من استعجال لنشر كتابي في مدة شهر، وأنا الذي لم يكتب شيئاً خلال عشرين سنة، وكأني شخص تعوزه اللياقة ويفقد توازنه أمام إغراء النشر والشهرة”. لكن المسألة ليست كذلك، كما يؤكد في رسالته لصديقته السيدة شتراوس، فقد كان يشعر نحو الكتابة بالتزام مختلف: “لدى إحساس قوى بأن الكتابة هي الشيء الأهم من حياتنا وأنفسنا، على الرغم من أنها مصدر لكل كتاباتنا، وعليه فإنني أرى أن تجشم العناء من أجل ذلك أمر طبيعي، كما يشقى الأب ويتعب من أجل أبنائه”.

الرفض المتكرر والمماطلة وسباق الزمن، دفعه في النهاية إلى أن يقرر طباعة العمل على نفقته الخاصة حتى لا تخضع الرواية لأي تعديلات وحتى تخرج في أسرع وقت، كما أراد. يقول لصديقه لويس دي روبرت في ما يشبه الوصية، بعد رفض “غاليمار” نشر الرواية بحجة ضخامتها: “لتجنب الدخول في مشاكل ومحن مع الناشرين وطلبات إجراء تغييرات في الرواية، قررتُ طبع الرواية ونشرها على حسابي الخاص. ولن أكتفي بذلك، إنما سأترك أي أرباح قد تأتي من الرواية، للناشر ولن أشاركه فيها، ليس لأني كريم، لكن لجعله راغباً في نجاح الرواية وساعياً لذلك”.

لكن حتى بعد هذا القرار، لا يستطيع بروست كتمان قلقه وتشككه في العمل بالكامل، ليس فقط لطوله ومخالفته للأساليب السائدة، لكن لما يحتوى عليه من “فحش وشذوذ” على حد وصفه، رغم إنه لم يكن يتصور أيضاً أن تلك الأفكار قد تقف عقبة أمام تلقي الكتاب: “فهو عمل جاد كتب بأسلوب أدبي”، لكنها على الأقل قد تكون سبباً في أنه لن يحقق مبيعات كبيرة إلا بعد مرور مدة من الزمن ويعتاد عليه القراء بصورة تدريجية! لكنه، في الوقت نفسه، كان على يقين من أن هذا العمل الذي اعتبره أفضل ما فعل في حياته، سيكون مصدر فخر لناشره ذات يوم، وهو ما حدث بالفعل. بل أكثر من ذلك، فبعد صدور الجزء الأول من الرواية بعنوان “جانب منزل سوان”، ندم من رفضوا في الرواية من قبل. واعتبر أندريه جيد، أن رفض الكتاب من قبل دار “غاليمار”، التابعة للمجلة الفرنسية الجديدة كان “أكثر الأخطاء فداحة في تاريخها”، ولا يتوقف جيد حتى يعود بعرض جديد يطلب نشر الأجزاء التالية من الرواية كلها: “إن المجلة الفرنسية الجديدة، مستعدة لتحمل كافة تكاليف النشر، ومستعدة لعمل المستحيل من أجل أن يأخذ الجزء الأول تسلسله مع باقي الأجزاء الأخرى بعد أن تنفد هذه الطبعة”.

تحقق لبروست ما أراده وتوقعه، حتى لو لم يمهله الزمن ليشاهد النجاح الكبير الذي حققه العمل، والذي ربما غيّر مسار الرواية للأبد. لكنه على أي حال -رغم التشكك- كان يضع آمالاً كبيرة على العمل، وكان متأكداً من نجاحه ولو بعد حين: “إنني في الحقيقة أعلق أهمية كبرى على هذا الكتاب الذي أودعته عصارة فكرى بل وحتى حياتي، الأمر الذي لم أفعله من قبل أبداً، بل إن ما فعلته من قبل لا يعد شيئاً يذكر بالقياس إلى هذا الكتاب”.

(*) “رسائل مارسيل بروست” صدر مؤخراً عن دار الرافدين بترجمة: ربيع صالح.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.



إيلاف


2019 الثلاثاء 12 مارس (آذار)
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001
حسونة المصباحي


مارسيل بروست : اكتشفت حياتي وأنا اتناول مادلينا مُغَمّسة في الشاي !


عن دار “الرافدين”، صدر مطلع العام الحالي مجلد ضخم يحتوي على عدد كبير من رسائل الكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست (1871-1922) نقلها إلى العربية ربيع صالح. وبقطع النظر عن بعض الهنات في الترجمة، وأخطاء في كتابة أسماء الأماكن والشخصيات، فإن هذه الرسائل يمكن أن تفيد القارئ العربي للتعرف على خفايا حياة واحد من بين الذين أحدثوا “ثورة” في مجال الرواية العالمية بحيث لا يزال تأثيره على من يمارسون هذا الفن قائما إلى حد هذه الساعة. كما يمكن أن تضيء هذه الرسائل جوانب غامضة ومبهمة من “البحث الزمن المفقود”، ذلك العمل الروائي الهائل الذي شغل صاحبه منذ سنوات شبابه، وحتى وفاته بمرض الربو عام.

وكان مارسيل بروست قد أصدر على نفقته الخاصة الجزء الأول من عمله المذكور عام 1913. وقبل ذلك كان قد أرسله إلى “المجلة الفرنسية الجديدة” التي ستصبح “غاليمار”، إلاّ أن لجنة القراءة التي كان أ ندريه جيد على رأسها رفضتها. وفي ما بعد سيقول جيد بأن ذلك الرفض كان من أفظع الأخطاء الأدبية التي ارتكبها في حياته. وفي رسائله الى صديقاته وأصدقائه يسعى جيد إلى توضيح عمله، مؤكدا أنه لا يرغب في أن يكون شبيها لا ببالزاك، ولا بستندال، ولا بديكنز ، ولا حتى بالبريطاني جون روسكين الذي لم يكن يخفي اعجابه الكبير به، بل هو يرغب في أن يبتكر لنفسه طريقة خاصة في الكتابة قد تصدم القراء في البداية إلا أنهم لن يلبثوا أن يتعلقوا بها بعد أن تتوضح لهم خفاياها. ويضيف مارسيل بروست قائلا بإن روايته “تتحلّلُ قليلا من ضوابط الشكل الروائي”. وهو يستخدم ضمير المتكلم “أنا” ،إضافة إلى عدد كبير من الشخصيات تتلاقى وتختلف وتتصارع لتكون عاكسة للحياة في جزئياتها، وفي تفاصيلها. وفي رسالة إلى محرر مجلة “الحوليات”عام 1922 ، كتب مارسيل بروست يقول بإن عمله لا ينتمي إلى ما يسمى ب"الرواية التحليلية" لأن هذا النوع من الرواية بحسب رأيه “يوحي بأجواء دراسية في مختبر فيها تستخدم الأدوات والآلات”. أما هو فيرغب في أن تكون روايته ّمحللة لذاته"، و"الحياة من خلال ذاته". لذلك يمكن أن تكون هذه الرواية “استبطانية”. والمحور الأساسي فيها هي ّالذات البشرية".

وكان مارسيل بروست يرفض الانتماء إلى أي مدرسة من المدارس الرائجة في عصره، أو تلك التي سبقته. وفي العديد من الرسائل هو يعبر عن ضيقه بمثل هذه المدارس، وبالمنتمين إليها. وفي نفس الرسالة إلى محرر مجلة “الحوليات”، كتب بروست يقول :"ما الداعي إلى تصنيف المبدعين إلى مدارس واتجاهات طالما أننا نفهم ما يكتبون أو ما يريدون إيصاله إلينا؟ إضافة إلى ذلك، ليس من المهم المدة الزمنية التي تستغرقها مدرسة ما لأن ذوق المبدع وابداعاته دائما ما يكون أكبر واوسع من أيّ إطار زمني. وهنا يستشهد مارسيل بروست بفيكتور هوغو الذي لم يكن ينكر انتسابه إلى المدرسة الرومانسية. مع ذلك كان دائم الإعجاب بكبار الكلاسيكيين في الأدب الفرنسي، وفي الآداب الرومانية والإغريقية.

ومنذ البداية، ورغم الجفاء الذي أظهره نحوه بارونات الأدب الفرنسي، تعكس الرسائل إصرار مارسيل بروست على التمسك بآرائه وأفكاره وطريقته في الكتابة، وباختياره للتقنيات الفنية. وكان على يقين من أن عمله “ينطوي على أهمية اجتماعية، وسوف يكون له صدى في أوساط المجتمع. وفي رسالة بعث بها إلى رنيه بلوم في نهاية عام ، كتب يقول بشأن الجزء الأول من”البحث عن الزمن المفقود":" إن القسم الأول من الكتاب ليس إلاّ جزء من حياتي التي نسيتها ثم تذكرتها، بل اكتشفتها مرة أخرى وأنا أتناول قطعة من المادلين المغمسة في قليل من الشاي. كان طعمها ساحرا ثم تذكرته وعرفته، إذ أنه كان الطعم الذي كنت أتذوّقه كل صباح فيما مضى من حياتي. وعلى الفور انبعثت كلّ حياتي في تلك الحقبة من الزمن الماضي".

وفي سنة 1919، أحرز مارسيل بروست على جائزة غونكور المرموقة. وقد تقبل هوذلك بسعادة كبيرة لأنه مثلت بالنسبة له اعترافا به وبعمله بعد أن ظل سنوات وهو يترع مرارة الاقصاء، والإهمال. لكن سرعان ما انطلقت الألسن والأقلام في شتمه وانتقاده. فهو لا يستحق مثل هذه الجائزة لأنه “عجوز مريض وعلى وشك الموت”. .آخرون أشاعوا بأنه لم ينل هذه الجائزة إلا بتدخل من البعض من أصدقائه. وقد حز ذلك في نفسه كثيرا. وربما لهذا السبب جاءت الرسائل التي كتبها في تلك الفترة التي سبقت موته، مفعمة بالمرارة خصوصا وأن المرض اشتد به حتى أنه لم يعد قادرا على الحركة . وفي أكثر من رسالة هو يشتكي من الإجهاد الذي ينال منه وهو يكتب بضع أسطر. لذلك لم يكن باستطاعته انهاء العديد من الرسائل. وفي آخر رسالة كتبها إلى هنري دوفينوا بتاريخ تشرين الثاني 1922 كتب يقول في نهايتها :" الآنـ لا بد أن تتقبل مني الصمت ولا شيء سواه. حاول أن تحذو حذوي" ...

عن موقع ايلاف على الإنترنت

حقوق النشر

ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :

  • مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
  • يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
  • كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)