رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان، غادة السمّان (سورية)، رسائل دار الطليعة - بيروت - 2016

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الإثنين، ٥ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٦
جريدة الحياة
عبده وازن


رسائل لم تكن في الحسبان... أنسي الحاج العاشق «المتوهم» عندما راسل العشرينية غادة السمان بوَلَهٍ وجنون


كشفت الروائية السورية غادة السمان رسائل حب كان قد كتبها لها الشاعر أنسي الحاج في العام 1963 وجمعتها في كتاب شاءته هدية إلى رواد معرض بيروت للكتاب عنوانه «رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان» (دار الطليعة). وإن بدا هذا الكتاب بمثابة مفاجأة كبيرة حملتها صاحبة «لا بحر في بيروت» إلى قرائها وإلى قراء شاعر «الوليمة» فالحدث الذي تتمثله هذه الرسائل يكمن خصوصاً في كشفها «قصة» حب ولو متوهمة أو عابرة قامت بين الشاعر الذي كان في السادسة والعشرين والكاتبة التي كانت تتهيأ في العشرين من عمرها لدخول عالم الأدب وتحديداً عالم القصة القصيرة في بيروت التي قصدتها لتواصل دروسها في الجامعة الأميركية وكانت صدرت لها للتو أولى مجموعاتها «عيناك قدري».

لم يكن أحد من أصدقاء أنسي الحاج يتوقع أن يكون الشاعر قد عاش مثل هذه المغامرة التي لم تدم طويلاً، فهو لم يروِ عنها بتاتاً حتى للأشخاص الأقرب إليه الذين كان يستودعهم بعضاً من أسراره، ولم يذكر غادة في حواراته الصحافية ولا في مجالسه. بل إنه لم يكتب عن غادة في زاويته الشهيرة «كلمات» في ملحق النهار، أي مقال مع أنه كتب الكثير عن الأدباء والفنانين وعلّق على روايات ودواوين ومجموعات قصصية كثيرة.

ومن يعد إلى كتاب «كلمات» بأجزائه الثلاثة لا يجد اسم غادة السمان في الفهرست، ما يعني أنها غائبة عنه تماماً. لكن غادة تنشر في ختام كتاب الرسائل شهادة صغيرة كتبها الحاج عن مجموعتها القصصية «رحيل المرافئ القديمة» وتحمل تاريخ «ربيع 1973» ومن دون أن تذكر الصحيفة التي نشرتها، مكتفية بالهامش الآتي: «هذه الشهادة كتبها أنسي الحاج بعد عشرة أعوام من تاريخ رسائله إلى غادة». تُرى هل كتب الحاج هذه الشهادة في زاويته الشهيرة ثم أسقطها من الكتاب؟ فالشهادة تنضح محبة وإعجابا لكنها تخلو من الحماسة الشديدة التي عرف بها الشاعر وفيها يقول: «بمزيد من الجرأة، بمزيد من الصدق، بمزيد من الغوص على الذات، تعود غادة السمان إلى قراء قصصها القصيرة بمجموعة جديدة عنوانها «رحيل المرافئ القديمة»، وبضع من القصص تستوحي هزيمة 1967. وكلها، من دون ريب، تضع القارئ في مناخ شديد الحرارة ومرات ملتهب الحمى».

ويتطرق في الختام إلى زواجها قائلاً: «بعد زواجها، قيل سوف تهجر التأليف. وكالعنقاء قامت من رمادها، وإذا بالزواج تجربة جديدة حوّلتها الكاتبة بموهبتها الأكيدة، إلى مركز إلهام إضافي. غادة في كل ما تكتبه شاعرة. هي حقاً شاعرة».

واللافت أن كل الرسائل التسع كتبها الشاعر وفق تواريخ بعضها، في الأيام الأولى من كانون الأول(ديسمبر) 1963 وقد غابت التواريخ عن أربع رسائل بدت أنها كتبت في السياق الزمني نفسه وبالروح نفسها أو النفَس نفسه. كتبت الرسائل تباعاً وكأنها قصائد أو نصوص، ومعظمها فعلاً يفيض نزقاً وتوتراً وجمالاً، على غرار شعر الحاج. ويظهر بجلاء أن أنسي كتب هذه الرسائل ثم توقف أو انقطع عن مراسلة غادة مع أنه أعلن حبه لها أكثر من مرة وأحيانا مجاهرةً أو علناً. ولكن ما هو هذا الحب الذي لم يدم وفق الرسائل سوى أيام معدودة ولكن محمومة حباً وهياماً ووهماً وتوهماً.

كيف قدّر لهذا الحب العنيف والغامض أن ينتهي هكذا مثل هبة هواء؟ لو كانت غادة تلقت رسالة أخرى أو حتى قصاصة رسالة، لكانت نشرتها من غير تردد، إلا إذا أرادت أن تخفي ما شاءت أن تخفيه، وهذا مستبعد تماماً.

غادة جريئة جداً في كتابتها كما في حياتها، علاوة على نبلها وعفويتها. وكانت صادقة عندما قالت إنها لم ترد على رسائل أنسي ولم تكتب له. وفي مقدمتها المختصرة للرسائل تقول: «لم أكتب لأنسي أي رسالة، فقد كنا نلتقي كل يوم تقريباً في مقهى الهورس شو - الحمرا أو مقهى الدولتشي فيتا والديبلومات - الروشة أو مقهى الأنكل سام ... وهذه المقاهي انقرضت اليوم». لكنها عندما نشرت في العام 1993 الرسائل التي كتبها الروائي الفلسطيني غسان كنفاني إليها والموقعة خلال العامين 1966 و1967 اتهمها بعض الصحافيين بإخفاء رسائلها إليه وقالوا إنها كانت استعادت رسائلها منه وأخفتها أو أتلفتها لئلا يقرأها أحد. وردت غادة موضحة أنها بحثت عن رسائلها إليه لتنشرها في الكتاب نفسه ولم تجدها وتحسرت على ضياعها. وعندما صدرت رسائل كنفاني أحدثت ضجة في المعترك الأدبي والسياسي العربي وانبرى الكتاب والصحافيون يدبجون المقالات حول هذه العلاقة العاصفة التي قامت بين المناضل الفلسطيني وغادة واستاء بعض المناضلين الفلسطينيين من الصورة التي تكونها الرسائل عن كنفاني العاشق المهزوم والضعيف والذي بدا أشبه بدمية بين يدي معشوقته.

لا تمكن المقارنة بين رسائل كنفاني ورسائل الحاج ولا تمكن المقابلة بين قصة كنفاني وقصة الحاج. الأول أحب غادة حباً حقيقياً وبادلته غادة الحب مبدئياً بينما أحب الحاج غادة حباً ظل ملتبساً بين نزعته الأفلاطوينة والنزق إن صح القول، ولم تبادله هي هذا الحب. والرسائل تشهد والوقائع أيضاً.

كانت غادة في العشرين من عمرها، صبية حسناء ومثقفة، متحررة على الطريقة الغربية، تواصل دراستها العليا في حقل الأدب الإنكليزي والمسرح العبثي في الجامعة الأميركية، وقد أصدرت مجموعتها القصصية الأولى «عيناك قدري» ولقيت ترحاباً لدى النقاد في بيروت ودمشق.

أما أنسي فكان في السادسة والعشرين، متزوج وله ابنة وابن، أحد شعراء مجلة «شعر» وصحافي لامع في جريدة «النهار»، وكان أصدر ديوانيه «لن» و«الرأس المقطوع». وتفيد الرسائل التي كتبها إلى غادة بأنه كان يعيش حالاً من الصراع الداخلي ومن الاضطراب الذي عرفه سابقاً أيام كتب ديوانه «لن»، وكان يبحث عن خشبة خلاص وعن حب ينقذه من نزاعه الداخلي المضطرم. ولعله وجد في غادة بل وجد حتماً فيها، المرأة المنتظرة فراح يقنع نفسه بأنه يحبها وأن عليه أن يحبها.

وهذا ما تؤكده جمل كثيرة في الرسائل ومنها مثلاً: «إنني أحب أن احبك»، «أحب أن أحبك لأنك تمثلين في نظري خشبة الخلاص الوحيدة الممكنة أو اللاممكنة»، «قررت أنني أريد أن أحبك» ... حالات التخبط هذه ليست بقليلة ولكن لن يلبث أن يليها اعتراف صارخ بحبه لغادة، جهاراً وبعنف أحياناً مع أن حبه ظل مبدئياً من طرف واحد ومكث وقفاً على التمني اللحظوي وغير الثابت، يقول: «إنني بحاجة إليك»، «أظن أنني كنت أحس بأنك منذورة لي»، «ليتك تعلمين كم أنت كل شيء في صيرورتي»، «إما أنت أو النهاية»... ثم تتدفق عاطفته بما يشبه النزق فيقول لها: «اسكبي على عقلي نارك. خذيني. افتحي لي باباً، افتحي لي قبراً... فتتي أعصابي، خذيني، لم يصرخ أحد من قبلي هذه الصرخة: خذيني». ويقول في رسالة أخرى: «أشعر بجوع إلى صدرك ، بنهم إلى وجهك ويديك ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك...».

لعل أغرب ما في هذا الحب المتفجر هو انطفاؤه السريع. كان حباً نارياً ولكن بلا جمر، فما أن خمد حتى استحال رماداً. كيف ينتهي مثل هذا الحب الجارف على حين فجاة وكأنه لم يكن؟ ربما لم يحب الحاج غادة مقدار ما أحب صورتها أو المثال الذي تجسده فتاه وراح يوهم نفسه أنه يحبها بل راح يقنع نفسه أن عليه أن يحبها. وهذا ما يؤكده هو نفسه في الرسائل كأن يقول: «كنت أعلم أنني بحاجة إلى إنسان. إلى إنسان يتناسب، في ذكائه وإحساسه وطاقاته جميعاً، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه وما سأصير فيه»، ويضيف: «أصبحت أنت التجسيد للإنسان الذي أنا بحاجة مصيرية ملحة وعميقة وعظيمة ورهيبة إليه». إلا أن أنسي كان على يقين داخلي أنهما، هو وغادة خطان متوازيان لن يقدّر لهما أن يلتقيا، كما يعبر.

في تقديمها المختصر للرسائل أشارت غادة إلى أنها عجزت عن تمزيق هذه الرسائل التي تصفها بـ «الرائعة أدبياً» فنشرتها غير آبهة لما قد يترك نشرها من آثار. وكم أصابت فعلاً، فالرسائل هي بمثابة اكتشاف ثمين وحدث أدبي، ليس لأنها تكشف فقط زاوية جديدة من حياة أنسي أو سيرته، بل لأنها تمثل نصوصاً بديعة لا تقل بتاتاً فرادة وجمالاً عن قصائد الشاعر ومنثوراته. فأنسي بدا في هذه الرسائل كأنه يكتب لنفسه وعلى طريقته الخلاقة والمشبعة بالتوتر والجمال.

مختارات من الرسائل

غادة

الوضوح الذي أنا بحاجة إليه لم أقدمه. كنتُ أعرف أنني سأفشل في تقديمه. لكنني أردت أن أجرب. أردت، لأنني أطمع بمشاركتك. أطمع بها إلى حد بعيد جداً. لكن رغم هذا أعتقد أنني سأقول لك شيئاً واضحاً. وقبل كل شيء، هذا: إنني بحاجة إليك. (إذا ضحكت الآن بينك وبين نفسك سخرية من هذه العبارة، فسيكون معناه أنك لا تحترمين مأساتي. ولن أغتفر لك ذلك أبداً). تتذكرين دون ريب أنك ضحكت مرة بمرارة، وانتقام دفين، وشك وسخرية، حيث قلت لك إنني بحاجة إليك. وربما فكرت: كيف يعرف أنه بحاجة إلي، أنا بالذات، شخص لا يعرف عني شيئاً، ولا أعرف عنه شيئاً، ولا يعرف إذا كنت، أنا، (أي أنتِ) بحاجة إلى أن يكون أحد بحاجة إلي... وربما فكرت (وأنا لو كنتُ مكانك لجاءتني الأفكار نفسها) أيضاً، إنني، في تسرعي للقبض على الفرصة السانحة (السانحة في الظاهر) نسيتُ حتى أن أكون لبقاً، أو أن أذهب بمراوغتي مذهباً ذكياً على الأقل، فلا أصوغ «حاجتي» بتلك العبارات المسلوقة، المبتذلة، المبريّة حتى الاهتراء على بلاط النفاق البشري والتعاملات العابرة والزَيف والخبث والتدجيل. وربما، أخيراً، (ولو كنت مكانكِ لفعلت) وربما فكّتِ: أإلى هذه الدرجة يظنني وطيئة المستوى، فلا يكلف نفسه، معي، مشقّة الارتفاع بالنفاق إلى حد أكثر جاذبية، على الأقل؟

ولا أستبعد أن تكون هذه الأفكار، وغيرها أمرّ، قد راودتك في مناسبات أخرى. فقد كانت معظم مواقفي الظاهرية معك مواقف ناقصة تحمل كثيراً على الشك وأحياناً على الاستخفاف والألم والرغبة في تأكيد الذات بنوع من القسوة حتى لا أقول الظلم. لكن، يا عزيزتي (يا لهذه اللفظة السخيفة!) دعيني أوضح مرة أخرى، وأرجو أن لا تضجري.

قبل أن أتصل بك للمرة الأولى كنت أعلم، لكن ربما أقل من الآن، أنني بحاجة إلى إنسان. بحاجة إلى إنسان يتناسب، في ذكائه وإحساسه وطاقاته جميعاً، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه، وما سأصير فيه. وفكرت طويلاً. ورفضتُ، شيئاً بعد شيء، كل الحلول التي مرّت بفكري. ورفضت كل الأشخاص، ممّن أعرفهم وممّن لا أعرفهم، الذين استعرضتهم. وعندما اتصلت بك للمرة الأولى كنتِ ما تزالين مجرد إمكانية غامضة، لكن قوية. وظلّت هذه الإمكانية غامضة عندما قابلتك للمرة الأولى. وظلّت غامضة أيضاً عندما قابلتك في المرة الثانية، لكنها ازدادت قوة. وفي ما بعد، أصبحتِ أنت التجسيد للإنسان الذي أنا بحاجة مصيرية ملحّة وعميقة وعظيمة ورهيبة إليه. أصبحتِ أنتِ هذا الإنسان لا لأنني أنا صنعتُه منكِ، فحسب، بل لأنك كنتِ أهلاً لذلك. كنتِ أهلاً لذلك رغم أنّك ما تزالين، بالنسبة لي، منغلقة على نفسك ترفضين الخروج إليّ بالعري الذي أشتهيه وأريد أن أتحمّل وزره.

هل حدث هذا التجسيد بسرعة؟ أتتّهمينه بأنه مسلوق سلقاً؟ بأنه من تصوير خيال مريض؟ بأنه إسقاط نفسي؟ بأنه انتهازي ووصولي؟ لا يا غادة. السرعة التي تتصورينها ليست في الحقيقة، سرعة. ربما كانت كذلك بالنسبة لمتفرّج من الخارج لا يعرف شيئاً عن الدوافع البعيدة والمخفية واللامباشرة. أؤكد لكِ أن العملية تمّت، على العكس، ببطء. نعم ببطء. وأعتقد أنني بذلتُ حتى الآن جهوداً جبارة لكي أستطيع الصمود أمام عدم تصديقك وأمام تريّثك وأمام انغلاقك وأمام رفضك وصمتك وابتساماتك التي تظنين أنني لا أدرك مغزاها العميق. بذلتُ جهوداً عنيفة لكي لا أنهار ولكي أحتفظ أمامك بشيء من الاستمرار والقناعة. ولو نفذتِ إلى اعماقي لهالك المنظر: منظر القتل والتقتيل والموت.

بحاجة، إذن، إليكِ.

لا، لستِ مجرد خشبة إنقاذ بالنسبة لي. عندما أقول أنا بحاجة عظيمة إليكِ فمعناه أنني، كذلك، بحاجة إلى من يكون بحاجة، عظيمة، وربما أعظم بكثير من حاجتي، إليّ... إن لجوئي إليكِ ليس لجوء إنسان إلى شيء، بل لجوء إنسان إلى إنسان آخر. إنه رغبة في الارتباط. وإذا كنتُ أريد أن أتخطى وضعي فيكِ فإنني أريد، كذلك، أن تتخطّي وضعكِ فيّ. ليس مثلي من يدرك معنى الكلمات يا غادة: معناها العميق، الحقيقي، الثقيل، المُلزِم، والمحرِّر أيضاً. ليس مثلي من يدرك معنى صرخة: أحبك.

لقد ذكرتُ لكِ، فوق، كلمة جريمة. لماذا؟ لا أعرف. أريدك أن تساعديني على تحديد هذا الشعور، وعلى معرفة أمور كثيرة غيره. أريدك أن تكوني معي. أن تكوني لي. أريد، أكثر من ذلك، أن أكون لكِ.

سأتوقف الآن عن الحكي. الساعة الرابعة والربع صباحاً. لا أعرف إذا كان الخط سيكون سيئاً اليوم أيضاً وأُخطئك. الويل لي إذا لم أستطع أن أراك اليوم. هل تنامين؟ هل تحلمين بشيء جميل؟ الويل لي إذا لم أرك. ماذا سأفعل الآن؟ أنام؟ مستحيل. بلى. يجب. قليل من الشجاعة أيها الجبان.

2/12/1963

* * *

غادة

أظن أنني كنتُ أحس بأنك منذورة لي. وكلما كنت أطالع خبراً عنك كان يتولاني شعور واضح بالغيرة والضيق والخوف. كنتُ أغار عليك من العالم. إنني أذكرك بلهجتي عندما كلمتك للمرة الأولى بالهاتف وكنتِ في دمشق. ألم تشعري بنبرات صوتي المليئة باللهفة؟ أم أنك نسبتها إلى المجاملة، أو إلى عادة كل رجل في التودد؟ على كل حال لم يكن هناك لديك أي سبب معقول لتفكري في أي شيء.

وحين رأيتُك للمرة الأولى ألم تلاحظي أنني لم أكن أقابل امرأة غريبة لا أعرفها وإنما امرأة كأنني عرفتها من عهد بعيد؟ ربما لم تلاحظي. أو لعلك لاحظتِ ولم تفكري في شيء.

(أفكر الآن أنك قد تكونين مريضة اليوم فلا أراك. أمس أيضاً لم أرك. أفكر ماذا سأفعل. هل ستكونين مريضة اليوم؟ هناك شيء رهيب يتآمر علي في الخفاء. إنني مصاب بسرطان الزمن والخيبة).

أين كنت؟ كفى... يخيّل إلي أنني سأخسر معركتي الأخيرة. ومهما قلتُ فلك أقول شيئاً مما أريد. اخرس إذن. اخرس أيها المسكين. لقد أُعطيتَ أن تتعلم دروساً كثيرة لكنك لم تتعلم شيئاً. إلى أين ما تزال تمشي؟ إلى أين ما تزال تأمل؟ إنك تنتفض كالديك المذبوح. هذا هو كل شيء. انزف بقية دمك وأنتهِ.

أحقاً؟ رغم كل شيء ما تزال عندي القوة التي تمكّنني من المطالبة بأملي الأخير. إنني أرفض أن أستسلم قبل الدخول في هذا القَدَر. أريد أن أعرف للمرة الأخيرة، وبكل قواي، مَنْ مِن الاثنين أشدّ ظلماً وقسوة ولا معقولية: أنا أم العالم؟

أريد أن أنتزع الجواب، أن أنتزع الجواب بأسناني. لن أذهب قبل أن أعرف.

ليتك تعلمين كم أنتِ أساسية وخطيرة وحساسة. ليتك تعلمين كم أنتِ حيوية ولا غنى عنك. ليتك تعلمين كم أنتِ كل شيء في صيرورتي. ليتك تعلمين كم أنتِ مسؤولة الآن؟

لو تعلمين إلى أي درجة أنتِ مسؤولة عن مصيري الآن لارتجفتِ من الرعب. لقد اخترتكِ. وأنتِ مسؤولة عني شئتِ أم أبيتِ. لقد وضعتُ لعنتي الحرة عليك.

هل يجب أن أعتذر إليكِ عن هذا الاختيار؟ لا أعتقد. في النهاية، لن تعرفي أجمل من حبي. قد لا أكون واثقاً من شيء ثقتي بهذا الشيء. لا يمكن أن تعرفي أجمل من حبي.

وأنتِ؟ هل أظل أتحدّث إليك دون حوار؟

لا. لا. لا يمكن أن يكون العالم قد أقفر إلى هذا الحد من الحنان. لا يمكن أن يكون العالم قد خلا هكذا دفعة واحدة من الحب.

يمكن؟

فليخلُ. فلينتهِ الحب من الأرض وليذهب الناس إلى الجحيم. سأبقى وحدي أطبع حبّي على الحجارة. سأحب وحدي الموت والأشباح. وسأحب النهار أيضاً. وسأحب انقراض نفسي العاشقة في هذا العالم القبر. وسأحبك. ولن أقول شيئاً غير هذا.

3-4-12-1963

* * *

غادة
مر النهار؟ إنما العبرة في الليل. لكن الحقيقة أنني طماع، فلو كان الليل قد مر لكنتُ قلت: مر الليل؟ إنما العبرة في النهار. وإذا كان من حقيقة أخرى (والحقائق تُخترع لتغذية الحديث) فهي أن لا ليل هناك ولا نهار وإنما وقت للمجابهة ووقت للهرب. والمرتاحون هم الذين نظموا هذه المناصفة وجعلوا التعاقب مرتباً. بالنسبة لي، مثلاً، اختلط وقت المجابهة بوقت الهرب فصرتُ أجابه وأهرب في وقت واحد وتفرّع هذا الوقت نفسه إلى أجزاء كل جزء منها يتنازعه الهرب والمجابهة إلخ... وليس صحيحاً أنني أخاف الليل أكثر من النهار وإنما أنا أخاف أن أكون وحدي، معزولاً عما يهمني، عما أهجس به وأحبه ولا أصدقه، مقطوعاً عن العالم الذي أتهمه بأنه يخدعني دائماً وخصوصاً في غيابي. فكم أشتهي أن أُباغت العالم وأفضحه وهو يخدعني، هذا الذي يدعي الإخلاص لي، ويدعي العذاب من أجلي، ويدعي العزلة والوحشة والوفاء!

أهلاً بك يا غادة. الساعة الآن شيء ما بعد نصف الليل، لعلك نائمة.

تُرى ماذا يشغل فكرك الآخر؟ أقصد فكرك المخفي وراء الوجه الآخر للقمر؟ كم أحب أن أعرف ماذا دار وماذا يدور في رأسك! وكم تخطئين في وصف هذه الرغبة بالفضول! لأنها ليست أكثر من شهوة عارمة عظيمة إلى تصفيتك من غربتكِ وضمك إلى قلبي وأفكاري وحياتي. أريد، ولا شيء أكثر الآن، أن أتّحد بك.

هل أمضيتِ نهاراً حلواً أمس؟ وسهرة السبت؟ والدروس، كيف الدروس؟ والكتابة؟ ماذا كتبتِ هذه الأيام؟ لم تُقرئيني شيئاً بعد. كأنك تعتبرين ذلك مُستهلكاً سلفاً، أو سراً بينك وبين نفسك وحدها، أو فضيحة للكتمان.

الكتمان! هذه هي الكلمة. أريد أن أمزق الكتمان عنكِ. لماذا يخيّل إلي أنك تخافين مني؟ أقصد تخافين مني خوف عَدَم الثقة لا خوف الجبن. لماذا؟ هل تعتقدين حقاً أنني شرير ومغامر وممثل أو طالب قصة عابرة؟

هل ضايقك هذا الكلام؟ يجب أن لا تتضايقي. لا أعرف شخصاً سواكِ أتحدث إليه. صرتِ كل شيء. أعرفُكِ وتعرفينني منذ البداية. أنتِ أُختي وحبيبتي. بلى، بلى. محوتُ عن شفتيكِ جلاد الابتسامة الهازئة ونفختُ فيكِ إيماني بكِ. ولا أريد أن أعترف بشيء آخر عدا أنكِ هنا، وأنني هنا، وأننا سنبقى معاً، وأنك ستبكين وتضحكين من قلبك وقلبي، وأن مجهولك أضاء في خلايا كياني وانتشر كماء العشق في أحلامي وبدّد جسورك وجسوري وصرنا نهراً واحداً. ولن أدعكِ تتراجعين. ولن أدعك تتركينني أتراجع. لن أدعك تقترفين الجريمة...

... ثم، لماذا يخيّل إلي أنني، في كل ما أقوله لك، أصرخ في واد؟ وأن حواري معك حوار طرشان؟ وأنك لا تقدرين أهميتك بالنسبة لي؟

هل صحيح هذا؟ يا إلهي! ماذا أفعل!...

* * *

غادة

صدري امتلأ بالدخان. أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. أشعر بجوع إلى صدرك. بنهم إلى وجهك ويديكِ ودفئك وفمك وعنقك، إلى عينيك. بنَهَم إليك. أشعر بجوع وحشي إلى أخذك. إلى احتضانك واعتصارك وإعطائك كل ما فيّ من حاجة إلى أخذ الرعشة الإلهية وإعطائها. كياني كله تحفز إليك. إنك تُخيّلين على أفكاري وتلتهمينني. هل أكمل يا غادة؟ هل أكمل محاولة وصف ما بي؟ أم أنك لا تبالين؟ أم أنك ستقولين لي أنك معتادة على هذا الهذيان؟ وأنه هذيان مؤقت؟ وأن الصحو الذي يعقبه يفضحه؟ أم أنك ستظلين تتسلحين بالهدوء والحكمة والصبر والتصبر والانتظار والدرس؟ ألا يكفيك؟ ألا ترين؟ ألا ترين؟ هل صُنعَت عيناك الرائعتان لتكونا رائعتين فقط لمن ينظر إليهما؟

* * *

لا شيء يبرّر عذابي الآن إلا صدقي، إذا سلّمنا أن الصدق لا بد أن يكون دائماً شهيداً.

أنتِ تعتقدين أن التجارب التي مرت بك تضطرك إلى التزام موقف الحَذَر الشديد والحيطة والتنبُّه والشك والرفض والسخرية الذي التزمتِه معي حتى الآن. أنا أفهم تفكيرك جيداً...

ولماذا، لماذا يخيّل إلي أنك تعرفين أنني صادق، ولكنك ترفضين أن تنساقي مع هذه المعرفة؟ ولماذا لماذا لماذا قلتِ لي ذلك المساء أننا لن نلتقي أبداً ولن نفترق أبداً؟ هل تدركين معنى هذا الجزم؟ هل تدركين مدى تأثيره عليّ لو تيقنتُ نهائياً أنه صحيح؟ ألا تعلمين أنني... ألا تعلمين أنكِ، بهذا الحكم الذي يعني أننا كالخطّين المتوازيين كل منا بجانب الآخر وليس لواحد منا أن يصبّ في الآخر - إنك بهذا الحكم تصدرين بحقي حكم الإعدام؟ ألا تعلمين أنني شحنتُ كل قواي من أجل هذا اللقاء؟ وأن عدم تحقّقه سيقتلني؟ أم أنك واثقة من أنه لن يتم؟ لا يا غادة! لستِ واثقة. كنتِ تتكلمين بمعاني الماضي وأنا لستُ ماضيك. إنني أرد ماضيك على أعقابه. أنا لستُ مثل أحد. لا شيء أفعله مثلما يفعلونه. لا أحد يحب مثلي. لا أحد يحب بقوة ما أحب، بجمال ما أحب، بروعة حبّي وعظمته ونقائه. لم يعد غيري من يحب في العالم. كل ما في هذا العصر من رجال، آلات وجلود وأشباه بهائم. وقد يعرفون كل شيء، إلا الحب. وقد يفهمون كل شيء، إلا المرأة. وقد يميتهم ويحييهم أي شيء إلا الحب وامرأة. لستُ مثل أحد. إنني آتٍ من حيث لا وقت إلا للحب، وها أنا أعيش عصري باحتقاره وضربه على نافوخه، فهو عصرُ المعلّبات والخدع الرهيبة، إنه عصرُ زوال الحب. أعيشه؟ بل أعلّقه على الحائط. إنه نملة شاسعة أدوسها كل لحظة لأقطع منها جزءاً. إنني أجملُ وأفضلُ وأعلى من عصري. إن عصري هو عاري. إنه عاهتي ولحمي الميت، وأنا أخجل به وأكرهه وأفلّت عليه أفكاري القاتلة. وأكثر ما يقتل هذا العصر السافل أنني أعرف كيف أحب، وأنني أحب، وأنني لا أكف عن الحب، وأنني لن أكف عن الحب. إنني أعظم مجرم معاصر. صدقيني. ولا أعرف كيف سيكون أو هل سيكون العصر المقبل؟ غير أنني لا أرى سبباً واحداً للتفاؤل. والواقع أن ذلك لا يهمني. إنني أحب لا نكايةً بالعصر وإنما لأنني عاجز عن العكس. إنني أتحمل حبي.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 09-12-2016، العدد : 10480، ص(14)
الصفحة : ثقافة
علي حسن الفواز


غادة السمان تتأمل وجهها المسافر في مرايا أنسي الحاج


أثار كتاب غادة السمان الأخير “رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان” جدلا قديما جديدا في الساحة الأدبية العربية، حول مدى أخلاقية نشر وثائق خاصة عن حياة الكتّاب، وفيهم حتى من اعتبر الكاتبة تحاول في عقدها السابع وتراجع إصداراتها أن تعود لتكون حديث الساحة. حيث مازالت الساحة الأدبية تتحكم بها بعض المعايير الأخلاقية.

الأثر الثقافي يبقى أثرا، والحاجة إلى تدوينه وقراءته والحفاظ على تاريخيتهِ تبقى مهمة جدا، ولا علاقةَ لها بالأخلاقِ والعواطف، فالكثير من الوثائق تم فضحها والكشف عن سرائرها، والكثير من رسائل المسكوت عنه، تمت تعرية ما فيها من شجن خفي أو أرواح متوهجة.

رسائل حقيقية

كتاب الروائية غادة السمّان الجديد “رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمّان” الصادر عن دار الطليعة/ بيروت 2016 يدخل في سياق “كشف الأثر” أو في فضحه، وكـأنّ السمّان التي تعيش عزلتها الشخصية أرادت أنْ لا تحتفظ بهذا الأثر الرسائلي، وربما أنْ تقول –أيضا- بأنهـا كانت المـرأة الأثيـرة عـند الشعراء والروائيين، وأنّ وجودها في بيروت الستينات مـن القـرن الماضي كان حافلا بحضورها الثقافي والأنثوي معا.

فالرسائل -إنْ صدقت الواقعة- لاتحمل إثما شعريا ولا أخلاقيا، بقدر ما تكشف عن شغف شعري بالجمال، وهي – كذلك- لا تدسُّ سُما لأحد بقـدر مـا تحمل تريــاقا شعريا غامرا بالحياة، وبرومانسية المزاج الذي كان يعيشه الشعراء الحالمون بتغيير العالم عبر اللغة.

وبقطع النظر عن أنّ أنسي الحاج قد تكتم عن هذه الرسائل ولم يشرْ إليها في كتـاباته أو مـذكـراته، فـإن نشرها بعد أكثـر من نصـف قـرن من قبـل غـادة السمّان لا يضعها إلّا في سياق الأثر، وأنّ حمولتها البلاغية والعاطفية تكشف عن هوسِ الشاعر بالجمال، وبالحرية، ومع امرأة كانتْ تعرفُ كيف تترك عطرها المُدوّخ على الطاولـة، أو عنـد حافات الحوار.

غادة السمّان صاحبة “عيناك قدري” و“رحيل المرافئ القديمة” و“أعلنت عليك الحب” و“ليلة المليار” وغيرها من الكتب، لا تحتاج إلى جرعة فائقة من الغواية لتكون معشوقة، فهي تكتب بوعيٍ صاخب، وتدرك أنَّ بيروت الستينات من القرن الماضي كانت المدينة الأثيرة التي تتشابه فيها اللغة والبحر والنساء، وأنّ قرّاءهـا وشعـراءها يضجّـون بالكـلام والتمرد والبحث عن زوايا تتسعُ لهذا الضجيج، مثلما أنّها عاشتْ مع الآخرين محنةَ بيروت عام 1975 وكتبـت عنها بشغف المفجـوع بالفقد.

لذا لا يبدو غريبا أنْ تكونَ الرسائلُ حقيقية، رغم أنها عابرة كما يبدو، ولاتعبّر عن عواطف مشبوبة كتلك التي وجدناها في رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان، والتي أصدرتها في كتاب أيضا.

يكتب أنسي الحاج إليها “بحاجة، إذن، إليكِ. لا، لستِ مجرد خشبة إنقاذ بالنسبة لي. عندما أقول أنا بحاجة عظيمة إليكِ فمعناه أنني، كذلك، بحاجة إلى من يكون بحاجة، عظيمة، وربما أعظم بكثير من حاجتي، إليّ… إن لجوئي إليكِ ليس لجوء إنسان إلى شيء، بل لجوء إنسان إلى إنسان آخر. إنه رغبة في الارتباط. وإذا كنتُ أريد أن أتخطى وضعي فيكِ فإنني أريد، كذلك، أن تتخطّي وضعكِ فيّ. ليس مثلي من يدرك معنى الكلمات يا غادة: معناها العميق، الحقيقي، الثقيل، المُلزِم، والمحرِّر أيضا. ليس مثلي من يدرك معنى صرخة: أحبك”.

هذه الكتابة لا تخرج عن لعبة الشعر، ولا عن غواية مزاج الشاعر، فهو الوسيم الغامر حدّ الشبق في القصيدة، يجد في الكتابة حيّزه الفائر لكي يمارس اللذة ويُفصح فيها عن نشيده الشخصي، أليس هو من كتب “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” عام 1975 إيحاء أو غزلا أو احتفاء بسيدة معروفة في الوسط الفني اللبناني، وبكل ما تحمله هذه المجموعة الشعرية من دفق يزاوج بين الغنائي والتأملي، والطقوسي الابتهالي مع الموسيقي الاحتفالي.

لذة الاستعادة

من الغرابة إذا أنْ يأخذ موضوع هذه الرسائل أكبر من حجمه، وأنْ يوضعَ خارج لحظته التاريخية، أو حتى بعيدا عن معرفة الشاعر ومزاجه وشغفه بالتفاصيل الجميلة، وبتوهج حضور الأنوثة وهي تلوّن العالم بالضوء والسحر، لكنَّ الأخطر والأكثر رعبا أنْ يتحول هذا الموضوع إلى باعث لتأويل الكثير من المواقف واليوميات، ولعل بعض التلميحات التي أشار إليها أنسي الحاج كانت تحمل حساسية نقدية لما تكتبه غادة السمّان، فهو يكتب لها كما تقول إحدى الرسائل.

وبعد صدور مجموعة قصصية جديدة لها “بمزيد من الجرأة، بمزيد من الصدق، بمزيد من الغوص على الذات، تعود غادة السمان إلى قراء قصصها القصيرة بمجموعة جديدة عنوانها “رحيل المرافئ القديمة” وبضع من القصص تستوحي هزيمة 1967. وكلها، من دون ريب، تضع القارئ في مناخ شديد الحرارة ومرات ملتهب الحمى”. هذا الرأي لا يمكن تفسيره خارج التلمّس النقدي العابر، والذي يشي بوجود صداقة ثقافية أكثر من كونها علاقة حسية.

يبدو أنّ لمعرض بيروت هذا العام نكهته الخاصة، وأنّ تزامن صدور هذا الكتاب الرسائلي مع انعقاد هذا المعرض ليس صدفة، فغادة تحاول عبر فيتشية الرسائل كما يقول فرويد أن تمارس نوعـا من لذة الاستعادة، وهي ممارسة شخصية تعيدنا إلى الثقافة المرآوية.

فبالرغم من أنّ الحديث يدور حول أهمية أنْ يطلّع القرّاء على مثل الرسائل التي تخصّ شخصيات عامة، أو بوصفها وثائق تتعلق بالتاريخ الثقافي لها، إلّا أنّ طبيعة الروائية السمّان -كما يبدو- تميل إلى فكرة الاستعادة بوصفها نزعة تعويضية وإشباعية، وفي ظل ظروف زمنية قد تبرر وجود ما يشبه النص الاستيهامي المسكون بالشغف والنـداء والبوح.

هذه الرسائل/الوثائق المقطوعة الإشارات عن تواريخها ومصادرها تبقى أثرا جماليا، وأحسب أنّ رحيل أنسي الحاج سيُفقد بعض توهجها، رغم ما تثيره من فضول عند الكثيرين، ولا أحسب أنها ستكشف جديدا في حياة الشاعر، بقدر ما تؤكد ما ذهبنا إليه، حيث هو المسكوت أبدا بالشعر بوصفه وعيا ومتعة وشغفا بالحياة وقد ظل يصنع الكثير من سعاداتها.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8679 السبت 17 كانون الأول (ديسمبر) 2016 - 18 ربيع الأول 1438 هـ
غادة السمان


هوامش على رسائل حب


الشاعر الروائي عبده وازن كان أول من كتب عن «رسائل أنسي الحاج إلى غادة» الذي أصدرته بهدوء دون ضوضاء إعلامية في «معرض بيروت للكتاب» كانون الأول/ديسمبر 2016. وقال حول رسائل أنسي: «تمثل نصوصاً بديعة لا تقل بتاتاً فرادةً وجمالاً عن قصائد الشاعر ومنثوراته. فأنسي بدا في هذه الرسائل كأنه يكتب لنفسه وعلى طريقته الخلاقة المشبعة بالتوتر والجمال».
ولأن عبده وازن شاعر مبدع وضع يده على المفتاح الأول الذي دفع بي لنشر هذه الرسائل أياً يكن الثمن: فأنا لا أستطيع تمزيق كلمة مبدعة… وأجد أن قتل نص إبداعي يوازي الشروع في قتل طفل.. ثم انني شعرت بالغيرة من صدور كتاب رئيس جمهورية فرنسا «رسائل حب إلى آن» التي استقبلها الاعلام الفرنسي بترحاب.

لا عنصر «فضائحي»!

ورسائل أنسي مزيج متفجر من جماليات اللغة العربية والشعر والحياة بلا أقنعة والحرية والرفض الشرس والاستسلام النابض ولكن بإيقاع خاص.
المهم فيها ليس لمن كتب (إبداعه) بل (إبداعه). ولا أستطيع تمزيق ذلك.. ولم استشر أحداً في أمر نشرها.. هذه قضية أحمل بمفردي مسؤولية الجحيم الذي قد أوقده لنفسي بإصدارها.. وأولادنا ليسوا رهائن في عالم خياراتنا.. ثم أن أنسي كتب لي في رسالته الأخيرة يقول: «لم أتزوج بعد. لم تتزوجي بعد. أرجوك أن تأتي إليّ».
وهكذا، فالعنصر (الفضائحي) الـــــذي لا يرى البعــــض سواه ليــــس موجــــوداً في الرسائل فثمة فقط العامل الإبداعي..

«بقعة ضوئية» على مشهد طريف

اتصل بي أنسي الحاج بعد اكثر من عامين من تاريخ الرسائل لدعوتي إلى ندوة في انطلياس منبثقة الحركة الثقافية في الدير المنفتح على التجارب الأدبية.. وقال إن الشاعر عمر أبو ريشة قادم لإلقاء شعره هناك.
قلت له ان الشاعر صديق لوالدي وأعرفه منذ طفولتي ولطالما زارنا في بيتنا في دمشق وسوف أتصل به لأحضره معي في سيارتي إلى لقائه الشعري..
وتواعدت مع الشاعر الكبير أبو ريشة أمام باب فندق «البريستول» في بيروت ـ وكنت لا أزال طالبة في الجامعة الامريكية ـ واصطحبته إلى مكان محاضرته في سيارتي ويبدو أنني كنت أقودها بسرعة في نظره ولم يخطر ذلك ببالي، وحين وصلنا إلى مكان الندوة كان أنسي وسواه بانتظارنا امام الباب، وعجز الشاعر الكبير أبو ريشة عن الهبوط من سيارتي إلا بمساعدة أنسي وآخرين.. أنسي كان مستمتعاً بالمشهد وكأنه يتوقعه وسألني ضاحكاً: ما الذي فعلته به في الطريق؟ قلت له الصدق: لا شيء.. يبدو انني كنت اقود سيارتي بسرعة في نظره وأخافه ذلك.
قال أنسي: هذه أنت.. لا تطاقين لكنك محببة!
جاء وقت العودة.. وحين عرضت على الشاعر أبو ريشة اعادته معي في سيارتي هرب مني مذعوراً كما لو كنت شبحاً.. وقال أنسي: ساعود انا معك.. وهكذا كان..
في طريق العودة من انطلياس إلى بيروت وأنسي معي شعرت ان صلتنا بدأت تستقر على «سكة الصداقة النقية» وهي في نظري أجمل من الحب لأنها تدوم دونما عواصف رعدية مفاجئة.
ما تقدم ومضات من ذكريات تعيدنا الرسائل اليها.. كذكريات زياراته لي ولزوجي في «قصر الداعوق» حيث اقمت بعد الزواج، وقبل الرحيل إلى باريس وصلة المودة الجميلة بينهما..
متشابهان كنا أنسي وانا بمعنى ما: نتقن إخفاء جحيمنا الداخلي كملكية مسوّرة لا ينازعنا فيها أحد.. ولا نثقل بها على احد. ولن أنسى شهادة أنسي الجميلة بي بعد زواجي بعامين ونيف وصدور كتابي «رحيل المرافئ» إذ كتب في ملحق النهار قائلاً «بعد زواجها قيل سوف تهجر التأليف.. وكالعنقاء قامت من رمادها واذا بالزواج تجربة جديدة حولتها الكاتبة بموهبتها الأكيدة إلى مركز إلهام إضافي».

ضد محاكمة النوايا

البارحة، سألني صديق بعد اطلاعه على الرسائل: ألهذا نشر أنسي لفترة لكاتبة عادية لمجرد «تشابه» في الأسماء؟.. أهو انتقامه؟
بالتأكيد لا. وصداقة رائعة ربطتني دائماً بأنسي رغم البعد ثم إنني أكره محاكمة النوايا. وكل ما أعرفه أنني لن أمزق كلمة مبدعة فالكلمة المبدعة ضربة برق سحرية على الرأس تُسخّرنا لحمايتها.
وثمة لحظة رائعة عشتها مع أنسي وأعجز عن نسيانها، حين وقفنا معاً على شرفة «دير انطلياس» للاستماع إلى الصديقة الخالدة فيروز وهي تنشد بصوتها الملائكي المذهل في مناسبة دينية: أنا الأم الحزينة.. وما من يعزيها..
تراني سأنشر رسائل الحب كلها التي في حوزتي؟ بالتأكيد لا، سأنشر المبدع منها أو الآتية من مبدع ما في حقله مثل بليغ حمدي مثلاً المبدع في حقل الموسيقى.
الحرب الوقائية التي شنها البعض ضد نشري لرسائل غسان لم تخفني بل زادت في تعرية الطبيعة البشرية أمامي والرياء الاجتماعي حيث اللغة العربية لغتان واحدة سرية للصدق وأخرى للرياء الشائع المكرس الذي يلوكه البعض في كل مناسبة.
ببساطة: أنا متمردة على القوالب الجاهزة التقليدية المثقلة بالمحرمات و(التابو) في أدبنا العربي وأحاول المساهمة في إدخال اللون الناقص في لوحته أي «أدب الاعتراف» بأنماطه كافة: الحميم من الرسائل، المذكرات وسواهما، الشائعة في آداب الغرب والذي نفتقر اليه مقصرين بذلك عن اجدادنا التراثيين الذين لم تقم قيامتهم حين تغزلت جدتي ولادة بنت المستكفي بالحبيب الشاعر ابن زيدون وتغزل بها حتى الثمالة والجنون.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 12-03-2017، العدد : 10659، ص(12)
الصفحة : ثقافة
ممدوح فرّاج النّابي


رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان: حرية الحب والكتابة والتذكر


رسائل أنسي الحاج لا تُضاهي رسائل غسان كنفاني لغادة السمان ذاتها، ولا احتوت على عناصر فضائحيّة مثيرة تكشف عن جوانب خفيّة في حياة الشّاعر الراحل.

عندما أقدمت الروائيّة السورية غادة السّمان على نشر رسائل الشاعر أُنسي الحاج إليها، وقد كشفت الرسائل عن علاقة حبّ متوهجة من طرف الشاعر أُنسي الحاج، وقفت الأوساط الأدبيّة في حيرة، فأنسي نفسه لم يُشرْ إلى علاقة من هذا النوع بينه وبين غادة السمان التي كانت في بدايات طريقها الأدبي، كما أنه لم يُفْصح عن أيّ إشارات لهذه العلاقة بين أصدقائه أو في كتبه. ومن ثمّ لم تمر الرسائل كما كانت تريد لها غادة السّمان “دون ضوضاء إعلامية”، فما أن طرحت الرسائل في معرض كتاب بيروت في ديسمبر 2016، حتى تناولتها الأقلام ما بين مهتم بطبيعة الرسائل وما بين ساخر من توقيت صدورها والغرض منها.

أخذت “رسائل أنسي إلى غادة” أكثر من الحجم الذي تستحقه، فالرسائل لا تُضاهي رسائل غسان كنفاني لغادة السمان ذاتها، ولا احتوت على عناصر فضائحيّة مثيرة تكشف عن جوانب خفيّة في حياة الشّاعر الراحل، بل جاءت الرّسائل جميعها من طرف واحد، قابلها صمت تام من الطرف الثاني غادة، حتى في التصدير الذي قدّمت به الكتاب، جاء مقتضبا وكأنها لا تريد أن تقول شيئا أكثر مما قاله أُنسي، فقالت في التصدير “لم أكتب لأنسي أي رسالة، فقد كنا نَلتقي كل يوم تقريبا.. (ثم تعلن في النهاية) أنها عجزت عن تمزيق هذه الرسائل الرائعة أدبيّا وأيّا كان الثمن”. فعلى ما يبدو أن غادة لم تكن تُبادل أنسي الغرام. لذا ظلت مُتحفظّة طيلة هذه العلاقة التي لم يكتب لها الكثير، ولازمها هذا التحفُّظ بعد مرور الكثير من السنوات حتى أصدرتها مؤخّرا.

هوامش على رسائل حب

الدويُّ الذي أحدثته الرسائل وسط المثقفين، بتعليقاتهم السّاخرة على صفحات التواصل الاجتماعي، أخرج غادة عن صمتها، فكتبت مقالة نشرتها في جريدة القدس العربي بتاريخ 17 ديسمبر 2016، بعنوان “هوامش على رسائل حب”. المقال من وجهة نظري جاء متأخِّرا، وكان يجب أن يكون مقدمة للكتاب الذي جاء خاليّا من أي مقدمات، باستثناء التصدير المقتضب. كشفت السّمان في المقالة عن دوافع نشر هذه الرسائل قائلة “فأنا لا أستطيع تمزيق كلمة مبدعة..

وأجد أن قتل نص إبداعي يُوازي الشروع في قتل طفل.. ثمّ إنني شعرتُ بالغيرة من صدور كتاب رئيس جمهورية فرنسا ‘رسائل حب إلى آن’ التي استقبلها الإعلام الفرنسي بترحاب”. مع تأكيد غادة السمان على قيمة الرسائل إبداعيّا حتى أنها تصفها بأنها “مزيج مُتفجّر من جماليات اللغة العربية والشعر والحياة بلا أقنعة والحرية والرفض الشرس والاستسلام النابض ولكن بإيقاع خاص” ومن ثمّ فليس مهمّا لمن (كتب) إبداعه بل المهم (إبداعه) ذاته. إلا أنَّ الأمر لا يخلو من موضة التقليد الأدبيّ لا أكثر.

تفصح السمان في مقالتها عن الهدف الرئيسي من نشر الرسائل، حيث كونها كما تقول عن نفسها “ببساطة: أنا متمردة على القوالب الجاهزة التقليدية المثقلة بالمحرمات و’التابو’ في أدبنا العربي وأحاول المُساهمة في إدخال اللون الناقص في لوحته أي ‘أدب الاعتراف’ بأنماطه كافة: الحميم من الرسائل، المذكرات وسواهما، الشائعة في آداب الغرب والذي نفتقر إليه مقصرين بذلك عن أجدادنا التراثيين الذين لم تقم قيامتهم حين تغزلت جدتي ولادة بنت المستكفي بالحبيب الشاعر ابن زيدون وتغزل بها حتى الثمالة والجنون”.

الرسائل من الداخل

يحتوي الكتاب الذي نشر في مطلع هذا العام 2017 عن دار الطليعة في بيروت على الرسائل الخاصة بين الشاعر أُنسي الحاج والأديبة غادة السمان. الكتاب قليل الصفحات، فلم تصل إلى المئة. كما أنه لا يحتوي على تقديم وعرضٍ لمناسبات الرسائل وطبيعة ما ورد فيها، وإنما اكتفت الكاتبة بتصدير مقتضب عنونته بعبارة “لحظة نوستالجيا وحنين” عن علاقتها بأُنسي الحاج. ربما تكشف هذه العبارة عن سبب استدعاء الرسائل في هذا الوقت.

يتكوّن الكتاب من سبع رسائل، تبدأ مع بداية العلاقة بين أنسي الحاج وغادة السمان عام 1963 التي كانت في العشرين من عمرها، تدرس في الجامعة الأميركية. تأخذ هذه الرسائل تواريخ تبدأ من 02/12/1963، ثم الرسالة الثانية بتاريخ 3-4/12/1963، والرسالة الثالثة بتاريخ فجر الخميس 5/12/1963، وبدءا من الرسالة الرابعة إلى الأخيرة تسقط التواريخ. المتأمّل في التواريخ، يلاحظ أن الرسائل كانت بصفة يومية، حسب ما ورد في الرسائل من الأولى إلى الثالثة. كما أن الشيء المميّز أن الرسائل كانت خالية من الترويسة الشهيرة، بحبيبتي أو حتى عزيزتي. كانت الرسائل مباشرة.

وبالمثل في النسخة الأصلية بخط الكاتب المرفقة في الكتابة، خالية من توقيع أنسي الحاج. لكن مع غلبة الاسم في بداية الرسائل إلا أنه كان دائم التكرار في متن الرسالة، فيشار إليها باسمها غادة. وبضمائر المخاطب أنتِ والكاف العائدين عليها، خاصة في جمل “إني أُحبكِ”، أو”قررت أنني أريد أن أُحبكِ” أو “ليتك تعلمين كم أنتِ كل شيء” أو “إما أنتِ أو النهاية”، أو “أيتها الغادة أنتِ أنتِ أنتِ أنتِ”.

منذ الرسالة الأولى وحالة أنسي تتكشف رويدا رويدا، فهو يبحث عمّن يفهمه كما يقول “أن يفهمني أحدٌ، وأن أفهم نفسي”. حالة من التيه تعتريه، فيصرخ “لم أعد أعرف. كنت دائما أعرف؟ ماذا حدث؟ هل خرجت من شرنقة مقدسة إلى الواقع؟ هل هي الوحدة الحقيقية وكل ما عرفته قبلا لم يكن وحدة حقيقية؟ أهذه هي الغربة؟ أكل هذا الوقت لم أكن غريبا؟ لا. مستحيل. إنني أعرف الآن ما هو أفظع من الوحدة وأشنع من الغربة.

هذه هي علامة المجهول. لقد دخلت في دور العجز الحقيقي. العجز الذي أعلنت عنه قبل ثلاث سنوات ها هو يتمّ”. بعد هذه الحالة التي تكشف ما هو عليه من اضطراب فكري وتشتت ذهني، يقول لها بصراحة “إنني بحاجة إليكِ”، وكأنّ الحالة المرضية التي شخَّصها في السُّطور السَّابقة هو الوحيد من يَعْلَمُ علاجها، بل هي السبب في المأساة التي يعيشها.

ترفُّع غادة السمان عن الاستجابة لهذه المشاعر التي خصّها بها أُنسي الحاج ليس سببها أنه كان متزوجا وقتها ولديه أبناء، في ظني أن الترفُّع كان سببه التخبط والتناقض اللذين ظهر بهما أنسي؛ فمشاعره أشبه بعاشق وَلِه، على الرغم من أن العلاقة بينهما حديثة نسبيًّا، فهو في الرسالة الأولى يؤكّد بصراحة على أنه بحاجة إليها” ويجيب على لسانها “وربما فكرتِ: كيف يعرف أنه بحاجة إليّ، أنا بالذات، شخص لا يعرف عنّي شيئا، ولا أعرف عنه شيئا، ولا يعرف إذا كنت أنا، (أي أنتِ) بحاجة إلى أن يكون أحدٌ بحاجة إليّ”.

الحالة التي بدا عليها أنسي لا تكشف عن إنسان يبحث عن الحب، بقدر ما كان يبحث عن إنسان يفهمه، حتى لو اعترف بأنها “ليست مجرد خشبة إنقاذ بالنسبة إليه”. فهو في نفس الوقت يعترف بأنه “بحاجة إلى إنسان” يصفه بأنه “إنسان يتناسب مع ذكائه وإحساسه وطاقته جميعا، الإيجابية منها والسلبية، مع ما أنا فيه، وما سأصير فيه”. ما بين السطور يكشف عن حالة اضطراب وفقدان للثقة كان يمر بهما أُنسي الحاج، ومن ثمّ كان يبحث عمّن يعيد إليه اتزانه وثقته في نفسه”.

ثم يتحرّر من شرح مفاهيم الحاجة والارتباط ليعلن “أحبك”. العجيب بعد حالة الوله والعشق الجارف، التي رادفت معنى الامتلاك وهو يقول لها “أريدك أن تكوني معي، أن تكوني لي. أريد أكثر من ذلك، أن أكون لكِ” لم تظهر لها معالم بعد هذه الرسائل السبع فقط. فلم تتجاوز العلاقة بينهما هذه الرسائل باستثناء ما كتبه عن أحد أعمالها وهو ما ثبتته في نهاية الكتاب.

ما عدا ذلك اختفت معالم هذه القصة التي بدأت قصة حب عاصف، لكن مع الأسف لم تستمر. ومبعث عدم استمرارها، ربما في عدم رغبة الطرف الثاني غادة في هذه العلاقة، فهي على حد قولها في مقالتها “هوامش على رسائل حب”، قد تمسكت بأنسي ولكن ليس المحب وإنما أنسي الصديق، ففي أثناء عودتهما معا من أنطلياس إلى بيروت شعرت بأن صلتنا بدأت تستقر على “سكة الصداقة النقية” وهي في نظري أجمل من الحب لأنها تدوم دونما عواصف رعدية مفاجئة. وهو الأمر الذي احترمه أنسي وظل على علاقة بها بعد زواجها، وأيضا قبل سفرها إلى باريس.

مهما تكن طبيعة العلاقة ونهايتها السريعة، إلا أننا مع نصوص أدبية بامتياز، كشفت عن جوانب مهمّة في حياة الأديب عندما يُحب، وأثر هذا الحب عليه، والأهم قدرته على الإفصاح عنه والتصريح به. وهو يمثّل شجاعة أدبية من الطرفين الأوّل؛ الذي غامر بكتابة الرّسائل وهو لديه أسرة ومتحقّق أدبيّا حيث صدر له ديوانه الشهير “لن”، وإضافة إلى عمله في جريدة النهار.

ومن الطرف الثاني الذي نشر الرسائل دون خوف من الآثار المترتبة على هذه الخطوة، في مجازفة منها لتنتصر للأدب، فتقدم لنا هذه الوثائق الأدبية الغالية. وهي مهمة لدارسي أدب أُنسي، فبالطبع الحالة التي كان عليها أثناء حالة العشق انعكست بصورة آلية على نتاجه الأدبي. ومثلما لاحظنا حالة الارتباك بادية عليه وهو يسرد عواطفه وتشتت أفكاره. والتي ستكون بالطبع قد انعكست على ما كتبه من أشعار في هذه الفترة المهمّة.

قد يبدو لي أن القيمة الفنية الأدبية تتجاوز العلاقة الشخصية، والأهم أنها تكشف عن أثر وقوع الأديب في الحب. كما كشفت عن مزاج الكاتب وهو واقع تحت سهام أكيبوبيد. فهو قلق يكتب في ساعات متأخرة من الليل، بل إن حالة الحب متقدة، فرسائله متواصلة لم تنقطع يوميّا أثناء فترة العلاقة، على الرغم من أن ثمة لقاءات واقعية كانت تتمّ في الفنادق والمقاهي.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)