رحيل الناقد والكاتب البريطاني جون بيرجر Mort de John Berger : 1926-2017

, بقلم محمد بكري


 لم يتعب من التجريب في اللغة والكتابة : الرائي الذي استدرجه الفنّ إلى السياسة!


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧١ الاربعاء ٤ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
عاش مع الفلاحين وانتقد النيوليبراليّة : جون بيرجر... أديب الهامش


روان عز الدين


صغرت عينا جون بيرجر (1926 ــ 2017) الزرقاوان وهو يقترب من التسعين. عملية القرنية التي خضع لها قبل سنوات، صارت مائدة بصرية دعا إليها صديقه الفنان التركي سلجوق دميلر المهووس برسم العيون. بقيت رؤية بيرجر متّقدة رغم ذلك، وهو يبدو كرجل يخرج رأسه بحذر من نافذة مدوّرة كالمقصلة، في لوحة من القرن الخامس عشر.

رجل لا يملك إلا عينيه والنافذة التي تطل على العالم. «هذه النافذة تعادل حياته، لكن كل شيء سيختفي حين يغلق عينيه». علّق بيرجر على لوحة الهولندي هوغشتراتن في وثائقي «فن النظر» على «بي بي سي» العام الماضي. أوّل من أمس، أغمض الناقد والكاتب البريطاني عينيه إلى الأبد، تاركاً عشرات الكتب بين النقد والرواية والشعر والسيناريوهات والقصص والرسومات، تجمعها معادلة أخلاقية مشحونة بنبضه السياسي الراديكالي وبمقارباته الماركسية. تخليه عن الرسم، بعد عروض ضئيلة لأعماله في لندن الخمسينيات، كان مانيفستو لكل ما سيقوم به لاحقاً. هرب بيرجر من المتاحف، وجدرانها الصماء أمام هالة القنبلة الذرية التي كانت تحوم حول العالم. انصرف إلى النقد الفني، والنشر والكتابة التي تحتمل الانخراط السياسي. وبمعنى آخر، ذهب لملاقاة الآخر، والحوار معه والنظر في عينيه بين لحظة وأخرى، واحترام الصمت بين الجمل، كما وصف فعل الكتابة. لم يجتز بيرجر طريقة عمل المتاحف التي شبهها بالبنوك المدججة بالكاميرات والحرّاس المسلحين. أضاء على تداعيات السيستم الرأسمالي للمتاحف، وعلى العزل الطبقي الذي تمارسه المؤسسات والمحافل الفنية على الفقراء وعمال المهن اليدوية.

«الفن هو الذي أغرقني في السياسة، لا العكس» قال رداً على منتقديه الحياديين. في سلسلته «طرائق الرؤية» («بي بي سي») التي صنعت اسمه عالمياً، قبل أن تصير كتاباً بالعنوان نفسه عام 1972، انطلق من مقالة للناقد الألماني والتر بنجامين «العمل الفني في عصر الإنتاج الصناعي» (1936) حول أصالة العمل الفني وتبدلها مع الثورة الصناعية. أطل بيرجر ليدشّن نظرة جديدة إلى الفن مطلع السبعينيات، تزامناً مع التحولات الاقتصادية والبصرية والسياسية الحديثة. واجه الفنون الأوروبية منذ عصر النهضة حتى نهاية القرن التاسع عشر كما لم يفعل ناقد أوروبي من قبل... النقاد الذين كانوا يعطون لأنفسهم الحق بدراسة الفنون الأخرى أنتروبولوجياً، بعيداً عن سرديات شعوبها. عرّى بيرجر هذه اللوحات الزيتية، راصداً التغيّرات التي أحدثتها الكاميرا عليها قبل أن تنسخها الإعلانات الحديثة. ماذا يبقى من اللوحات الأصلية بعد خروج ملايين النسخ منها؟ من منطلق ماركسي، نبش القيم التي كانت تشيح عنها عيون النقاد، مأخوذة بجماليات هذه اللوحات وتقنياتها وقداستها التي يضاعفها «السعر الذي يحدّده أحد الأغنياء». تتبَّع طريقة عرض المرأة التي رسّخت مرجعاً بصرياً ذكورياً لأجيال لاحقة حين صارت فتيات الإعلانات الحسناوات يتقمصن إيماءات عاريات عصر النهضة. قيم كثيرة تضمنتها هذه اللوحات دفعت بيرجر إلى التعبير عن نفوره بلا مراوغة من القيم الاستعمارية وتجارة العبيد وتمجيد البضائع الفاخرة والملكية الفردية التي صبغت حتى لوحات المناظر الطبيعية «بطريقة لم تحدث في تاريخ الفن من قبل». ظل بيرجر يخمد الذنب الذي يطارد محبي الفنون، إذا ما ألقوا نظرة على الجزء الثاني من العالم، محاولاً تصريف العلاقة الكارثية بين الفن والملكية الفردية. لم يخف رأيه الفجّ بدور الفن التاريخي بالقول: «أحكم على العمل الفني استناداً إلى قابليته في مساعدة الناس في التنبّه والمطالبة بحقوقهم الطبقية». قلّب بيرجر كافة أنواع المناظر والمشاهد والصور التي تتخم العالم المعاصر. ساءل البورتريهات ولوحات المناظر الطبيعية والتحف العالمية مشكّكاً بماهيتها. تفحّص لوحات رامبرانت وفرانز هالز، وتينتوريتو، وهولباين ودي هيم وجورج ستبز وكارافاجيو وفان غوخ وماغريت وبيكاسو وصور أوغست ساندر وبول ستراند ومنحوتات الفلسطينية رندا مداح، ورسومات والت ديزني وكليشيهات الإعلانات المعاصرة. قرّب هذا الإرث الفني من مساراته ودلالاته السياسية الاقتصادية، والفلسفية والتاريخية الأولى، من دون أن يخسر طراوة الرؤية الفطرية. معادلة استثنائية رأيناها في مقالاته التي كتبها بألفة من يقصّ حكاية، مخلخلاً الحواجز بين أساليب وأنماط كتابية مختلفة: السرد والقص، والتدوين التاريخي إلى جانب معرفة موسوعية بالفنون والفلسفة. فعل ذلك متهرباً من لقب الناقد الفني الذي أسهم في احتكار الفن، كما يفعل تجّار اللوحات الذين يدارون قداستها. رغم المسح التاريخي ودفق المقارنات التي يدوّنها بيرجر، فإنه لم يكن يوماً صاحب إجابات حتمية، بقدر ما يبدو داعية إلى التشكيك. التشكيك بأنفسنا كمتفرّجين، بما نراه وبما تحفظه ذاكرتنا، بإعادة تفحّص علاقتنا المرسومة مسبقاً بالأشياء ضمن سياق الثقافة المعاصرة. كتابه «حول النظر» (1980) واحد من هذه المؤلفات التي تتدفّق فيها كلماته مع نظره. وفيه، أعاد تفحّص علاقة الإنسان مع الحيوانات من لوحات الكهوف التي رسمها الإنسان القديم بدم الحيوانات والوحوش، وصولاً إلى الحيوانات المحبوسة داخل أقفاص الحدائق بموازاة عبودية الإنسان في عصر الإنتاج الحديث. في هذا الكتاب، لم يتوانَ بيرجر عن إبداء تلك الآراء اللقيطة في تاريخ النقد المتوارث والحيادي. هذا ما نقرأه وهو يجري مقارنة بين لوحات أغلى فناني تلك الفترة فرانسيس بيكون ورسومات والت ديزني التي تتضمن عنفاً عبثياً، داعية المشاهد إلى تقبل التصرفات المنفرة في مجتمعاتنا من خلال تشويه الأطراف والألوان وإيماءات الأيدي. في نقده، بدت الفوتوغرافيا بلا قعر كما في مؤلفات سوزان سونتاغ ورولان بارت. إذ جرّد الصور من طبقاتها السياسية كما في مقالته «صورة الإمبريالية» (1967) حول استخدامات صورة جثة تشي غيفارا في الميديا (كتاب «فهم الفوتوغرافيا»). بعد عقود من استغنائه عن الرسم كعمل ثابت، غادر الناقد المشاكس بريطانيا التي أحدث فيها جلبة مرةً حين انتقد منحوتات هنري مور، ما كلّف المركز الثقافي اعتذاراً رسمياً من النحات الإنكليزي. اتجه بيرجر إلى إحدى الضيع النائية في جبال الألب. هناك سينجز ثلاثيته الروائية عن الفلاحين بعنوان «في كدحهم» (1991)، بعدما عاش إلى جانبهم وعمل معهم في الزراعة ورعي الأبقار. واصل تجريبه في اللغة، مركزاً على قضايا الهجرة والسجون والمنافي كما في باكورته الروائيةA Painter of Our Time عام 1958 حول رسام هنغاري منفي في لندن. ثيمات لم تغب أيضاً عن «رجل سابع» (مع المصور جان مور) حول العمال المهاجرين في أوروبا، بعد فوز روايته G بجائزة «مان بوكر». ترافق ذلك مع تبنيه للقضية الفلسطينية، وانحيازه إلى الذين هم في الأسفل دائماً، إلى الفيتناميين والعراقيين وحركة «الفهود السود» الراديكالية التي أهداها أيضاً نصف المبلغ من الجائزة. بهذه الطاقة أنجز رسومات متواضعة بالحبر الصيني والباستيل مقابل عشرات الكتب الخارجة من علاقته اليومية مع الأشياء. آخر هذه المؤلفات هي «مسامرات» و«مناظر طبيعية ــ جون بيرجر حول الفن» وكتاب عن الروائي الروسي أندريه بلاتونوف، أصدرها احتفالاً بعيده التسعين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، قبل أن يغلق نافذته الأخيرة في باريس أول من أمس.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 يا جون الفلسطيني... سلِّم على درويش


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧١ الاربعاء ٤ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
عاش مع الفلاحين وانتقد النيوليبراليّة : جون بيرجر... أديب الهامش


سعيد محمد - لندن


ماركسيته غيرت حياته وصبغت مواقفه السياسية والفلسفيّة. من أشرس المنتقدين لإسرائيل، عاش مع الفلاحين، وندد بنسق العيش في ظل «الليبرالية الجديدة»، ورفع الصوت عالياً ضد الحرب على العراق، وانتقد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وتحوّل أهم مناصر للقضية الفلسطينية في أوروبا.

كونشيرتو بيتهوفن الخامس ــ وآخر أعماله على البيانو ــ استدعاء لأفق سعادة مستحيلة نتخيلها لكننا لن نصل إليها في يوم. سميت المقطوعة المتخمة بمقاطع هائلة مليئة بروح التحدي والأمل والبطولة بمعزوفة «الإمبراطور» من قبل ناشر بيتهوفن، مستلهماً تلك الروح الثوريّة الجديدة التي انتشرت عبر عالم أوروبا القديم تكسر جدرانه وتعيد تشكيل واقعه بعد سنوات الظلام الطويلة. كانت تلك الروح قد تمثلت وفق مخيلة أبناء ذلك الجيل الأوروبي ــ بمن فيهم هيغل ذاته ــ في شخص نابليون، ذلك الإمبراطور الفرنسي قصير القامة ذو الروح المتوقدة الذي كان يجتاح بلادهم بلا هوادة، وذلك بالطبع قبل أن يتحول إلى طاغية.
تلك المقطوعة، تجرأ فنان وشاعر إنكليزي على إهدائها للطلبة الفلسطينيين الذين كانوا يتظاهرون على حاجز بيت إيل قرب مدخل رام الله. قال عنهم إنّهم بنضالهم ضد الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم كأنهم روح هذا العصر كما كان الإمبراطور الفرنسي روح عصره.

ولذا هو أعاد تسمية الكونشيرتو الخامس بكونشيرتو الانتفاضة، والطلبة الفلسطينيين بالإمبراطور.

هذه «الهرطقة» بمقاييس المؤسسة الثقافيّة البريطانيّة لا يجرؤ عليها بالطبع إلا فنان واحد عاش كل عمره خارج كل القواعد وضد كل أنواع السلطات: جون بيرجر (١٩٢٦ ــ ٢٠١٧).
هذا النقي الكاريزمي ــ الذي رحل عن عالمنا أول من أمس ــ كان رجلاً متعدد المواهب والاهتمامات كأنه خارج ــ بطلّته الإنكليزيّة المحببة ــ من إحدى روايات عصر النهضة. بدأ رساماً تعرض أعماله في غاليريهات لندن قبل أن يتمرد على ريشته ويتحول إلى الكتابة في موقف فلسفيّ احتجاجي: إذ ما قيمة الريشة في مواجهة التهديد النووي القادم من واشنطن؟ هكذا، امتشق القلم كسلاح للمواجهة. عندما كتب الرواية، تحدى بيرجر الأشكال التقليدية السائدة في الأدب، كما أصبح بأسلوبه اللاذع أحد أهم ناقدي الأعمال الفنيّة في الغرب. فاز في ١٩٧٢ بجائزة «بوكر» الرفيعة عن روايته G فتبرع بنصف قيمتها للثوريين السود ــ وهو البريطاني الأشقر ــ فأثار موجة من الإعجاب والغضب في آن، ولم يعتذر بل قال عن ذلك «أنا أقلب الجائزة ضد ذاتها».

بيرجر نشأ ماركسياً رغم خلفيته البرجوازيّة وبقي وفياً للماركسيّة بشغف وقت تفرق الرّفاق عن المبادئ الشيوعيّة وتحولوا ليبراليين ينسّقون مع الخارجية الأميركية. ماركسيته غيرت حياته كلها وصبغت مواقفه السياسية والفلسفيّة فترك لندن والجزيرة البريطانيّة، وارتحل إلى قرية فرنسية على جبال الألب ليعيش مع الفلاحين. شخصيته المتمردة جعلته دوماً أكبر من أن يخضع لأي انضباط حزبي، ولذا فقد كان سيطرد حتماً من أي مجموعة ماركسية يمكن أن ينضم إليها.

رغم تعدد اهتماماته وإنجازاته وتنوع نتاجاته، فقد كان سر نجوميته قدرته الخارقة على التعبير باللغة عن أفكار العالم المعقدة في الثقافة والفن، تلك الموهبة التي ربما لم يوازه فيها بريطاني آخر سوى جورج أوريل. كتاباته لا تأتي من الأفكار المجردة بقدر ما هي نتاج حوارات ثريّة وعلاقات عميقة مع حساسيّة مذهلة لالتقاط التفاصيل ومن ثم تقديمها في طرح نظري متألق.

أشهر أعماله على الإطلاق لا يزال وثائقي «طرائق الرؤية» على «بي. بي. سي» الذي تحول الى كتاب عام ١٩٧٢, جاعلاً منه مدرسة عالميّة في رؤية الأعمال الفنيّة من خلال بعدها السياسي ــ الثقافي. لكن أعمق أعماله ربما يكون «رجل سابع» الذي صدر عام ١٩٧٥ مع المصور السويسري المعروف جون مور، فكان بمثابة صرخة غضب في مواجهة الظروف البائسة التي يعيشها العمال المهاجرون تاركين مجتمعاتهم الأصليّة للخراب.

انتقد بيرجر النظام الرأسمالي بلا هوادة، وتساءل عن معنى الفن في ظل الرأسماليّة. وعن ذلك كتب رواية مهمة «رسّام من هذا الزمان» منذ وقت مبكر (١٩٥٨)، كما نشر أعمالاً عدة في علم الاجتماع كشف فيها عن طرائق الاستغلال في مجالات مختلفة، وندد بالطفيليين وخدم رأس المال ونسق العيش في ظل «الليبراليّة الجديدة».

علاقة بيرجر السياسي والمواطن العالمي بالمضطهدين قديمة. في شبابه، احتفل مع الشبان اليهود في باريس بقيام الدولة العبريّة عام ١٩٤٨ ولوح معهم بالأعلام الزرقاء. كان مأخوذاً بتجربة «الكيبوتز» المشاعيّة، فلم يسمع صوت الفلسطينيين الذين خسروا أرضهم، لكنه ما لبث بقدرته الفريدة على فهم التاريخ والأحداث أن تحول إلى أهم مناصر لفلسطين في أوروبا ومن أكبر قادة حركة مقاطعة إسرائيل. لبيرجر محبون ورفاق سيفتقدونه ويذكرونه في رام الله بالذات التي كتب منها مقالة “عن لحظة في رام الله” نشرها في مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس»، المرموقة وتحولت إلى نص كلاسيكي عن فلسطين، كما نظم فيها مع عائلته التي اصطحبها معه إلى هناك ورشات رسم وفن لأطفال فلسطين، وتعاون مع كاتبة فلسطينية على ترجمة أحد أعمال محمود درويش إلى الإنكليزية. وفي غزة أيضاً يذكرونه، فقد زارها متضامناً، وقرأ منها رسالة متلفزة إلى العالم من نصوص غسان كنفاني.

في الستينيات، كان بيرجر من أجرأ الأصوات المنددة بالحرب الأميركية على فيتنام. وفي خطاب ألقاه في أسبوع فيتنام في أكسفورد عام ١٩٦٧، دان تغوّل الشمال على الجنوب. انتقد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وقاد مجموعة من كبار مثقفي العالم وفنانيه إلى نشر رسالة تدعو إلى مقاطعة إسرائيل بوصفها دولة فصل عنصري كما كانت جنوب أفريقيا سابقاً. ولما تحالف العالم (الحر) كله تقريباً ضد العراق في ٢٠٠٣، رفع بيرجر الصوت عالياً مع العراقيين في وجه الغزاة البيض.

رحل «الأحمر دائماً» ـــ كما اسم أحد كتبه ــ بعد تسعين عاماً مستعجلاً قليلاً ربما. ففلسطين التي أحب لم تتحرر بعد. هو الذي قال في مقابلته الصحافيّة الأخيرة مع الـ «أوبزرفر» البريطانيّة أنه رغم أعوامه التسعين، فإنه ما زال قادراً على الغضب. هي قدرته على الغضب تلك التي جعلته ذلك الإنسان النبيل المتحالف أبداً مع مضطهدي العالم وفقرائه. سلّم لنا على درويش يا جون. سنفتقد غضبك الجميل.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 «مسامراته» الأخيرة


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٠٧١ الاربعاء ٤ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الأخبار
ادب وفنون
عاش مع الفلاحين وانتقد النيوليبراليّة : جون بيرجر... أديب الهامش


جمال حيدر - لندن


يعدّ بيرجر أحد الكتاب الأكثر نفوذاً خلال نصف القرن الأخير. تتبلور مضامين نتاجاته، شكلاً وجوهراً، في البحث عن ماهية البشرية ومستقبلها. تتوزع أعماله بين السرد والشعر والسينما والرسم والتصوير، إضافة إلى الدراسات النقدية والفكرية ذات المنحى المغاير.

وتعتبر دراسته «طرائق الرؤية» (1972) التي أنتجتها محطة «بي. بي. سي» على حلقات وقدمها بيرجر بنفسه، من الآثار الكلاسيكية في الكثير الجامعات العالمية. منح بيرجر النقد البعد الأهم الذي يتمثل في الارتباط بالمنظور الفكري، متحدياً التفسيرات التقليدية للفن والمجتمع والسلطة. كذلك، حاول اكتشاف العالم من حوله من خلال الفكر الماركسي وتفسيراته للكثير من الظواهر التي لامست حياته، من دون أن يتخلى عن هذا الإيمان حتى يومه الأخير.

ارتبط بقوة مع حملات وقف الحرب الأميركية في فيتنام، وبتضامنه مع القضية الفلسطينية، وربطته بالشاعر الراحل محمود درويش تحديداً وشائج عميقة. وأعلن موقفه من القمع السياسي في تركيا على مدار أعوام طويلة.

ولد بيرجر في ضاحية «هاكني» شرقي لندن في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1926. شارك والده في الحرب العالمية الأولى، لتترك ظلالها الكثيفة على أسرته. أرسلته عائلته إلى مدرسة داخلية، وكان الرسم ملاذه في مواجهة عسر الأيام. وحين بلغ السادسة عشرة، هرب من المدرسة ووجد طريقه للعيش في لندن والتحق بالمدرسة المركزية للفن. في عام 1944، تم تجنيده في الجيش لمدة سنتين، ليلتحق بعدها بمدرسة الفنون في تشيلسي. ثم ما لبث أن تحول إلى النقد الفني والكتابة عن المعارض الفنية لراديو «بي. بي. سي» تحت إشراف الروائي جورج أورويل. ثم سافر إلى فرنسا ليقضي حياته في جبال الألب ويحظى بفرصة من الهدوء بعيداً عن ضجيج «الليبرالية الجديدة» كما وصفها. التقى بأنيا لتثمر العلاقة عن كاتيا (كاتبة) ويعقوب (مخرج سينمائي)، ثم انتقل إلى إحدى ضواحي باريس واقترن ببيفرلي بانكروفت، وأنجبا افيس (كاتب وفنان) الذي اشترك مع والده في إعداد كتاب عن والدته صدر عام 2015. يشرح بيرجر علاقته بالكتابة: «واصلت الكتابة بعد توقفي عن الرسم. إنّه أسهل بكثير من الكتابة. الصعوبة تكمن في الكتابة».

في مقدمة كتابه الأخير «مسامرات» (صادر عن «دار بنغوين» ــ الأخبار 19/11/2016)، يشرح بشيء من التفصيل عن الكتابة والأواصر التي ربطته بها: «أكتب منذ ثمانين عاماً، منذ رسالتي الأولى، مروراً بالشعر والخطب والروايات والمقالات والكتب... وصولاً إلى الملاحظات. فاعلية الكتابة تدفعني إلى المعرفة. الكتابة، بصورة عامة، فعل في غاية العمق، فعل يتوشج باللغة».
يواصل سرد الدوافع الحقيقية التي جعلته كاتباً، إذ يقول: «خلال مسيرة الأعوام، كان دافع الكتابة يكمن في القول، وإن لم أفصح عن ذلك القول، فلن يقوله غيري. أرى ذاتي، بعد كل هذه الأعوام، لست كاتباً، بل الناطق للأفكار. بعد كتابة السطر الأول، أجعل المفردات تعود إلى أصول اللغة. وحين تعود، أشعر بأنها تأتي مجتمعة، معاً أو بالضد. بعض المفردات تحوي إيقاعات، وأخرى دلائل. أنصت لمسامرات المفردات، تالياً أراجع ما دوّنته، أغيّر مفردة أو اثنتين، لتنطلق مسامرات من نوع آخر». وحول الترجمة، يكتب بيرجر: «الترجمة الحقيقية ليست مسألة ثنائية بين لغتين، إنما هي علاقة ثلاثية الأبعاد. يكمن البعد الثالث في الارتجافة الجديدة التي ستكمن وراء النص الجديد».

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


عن صورة المقال : بعدسة المصوّر السويسري جان مور

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)