موسيقى وغناء

رحيل المطرب اللبناني وديع الصافي أحد أجمل الأصوات في تاريخنا Wadih El Safi (1921-2013), Liban

, بقلم محمد بكري


 وديـع الصـافي : صـرْحٌ منِيفٌ هَـوَى


السنة الخامسة والعشرون - العدد 7570 الثلاثاء 22 تشرين الاول (اكتوبر) 2013 - 17 ذو الحجة 1434 هـ
جريدة القدس العربي
محمد بودويك


جريدة القدس العربي


الموت حقيقة لا مناص منها، حقيقة الحقائق.. الشمس التي لا نستطيع التحديق فيها بعيون مفتوحة واسعة من دون أن نعشى، وينسدل قدامنا الظلام.. مدثرا كل شيء من حولنا، ماحيا نقطة ارتكازنا للحظات، باعثا خفاشا قبريا هنيهة، ليخطفنا من حاضرنا المادي الرخو، مُطَوِحا بنا في شباك العناكب والسلطعونات وهي تلجلج بين العيون والفروج، طامعة في منجاة، وساعية إلى حياتها المخطوفة منها، عَلَّها تعيدها كرَّةً أخرى.

لكن، هذا الموت، وهو ما هو، يتشخصن أكثر عدوانية، وبطشا وشراسة عندما يغمض أجفان القلب الكبير، ويطفيء جذوة الحياة التي تقوَّمَت وتشكلت، ونهضت وتنامت بالفن والجمال، ومُتَبَلْورا وَمُبَلْوَرًا بالشعر وبالغناء وبالموسيقى، والتشكيل، وبالنحت، وبالفكر.. يصبح خطفا وَنَشْلاً فجائيا، وقتلا عمدا، وهلاكا متقصدا في حال الفنان، في حال المبدع عامة، وفي حال المفكر أيما تجلى هذا الفكر. ولا يهم عمر الفنان أكان قصيرا على الكوكب الأزرق، أم طويلا مديدا.

ذلك أن الحياة الحق لا تشبع من العطاء الثر، ولا ترتوي من مناهل ومنابع الفن شعرا وموسيقى، تصويرا ونحتا.. إلخ. إذ أن الفن هو ما يضفي على الحياة حياة، وما يسبغ على الجفاف دفق ماء، ورفيف جناح، ورذاذ ديمة، وشؤبوب قطر.

وهو، بكلمة واحدة، إلى جانب الجمال الطبيعي متى ما تمثل، وكيفما تمثل، ما يعطي للحياة معنى، ويجعلها جديرة بأن تعاش، وَتُحْيَا. والشاهد على هذا، شعور الإنسان بالامتلاء، وبكماله الآدمي عند سماعه الصوت العذب.. صوت الطيور السابحة في الفضاء أو الواقفة على الأفنان ، وصوت المغنيات والمغنين وهم يلونون بالرخامة جميعها رماد الكون، وجهامة الأحداث اليومية، والوقائع المبتذلة. وكذا عند رؤيته اللَّوْحةَ كمشهد طبيعي: غسق أصيل غُرُوب سحر- غَبُوق- بحر- محيط- كثبان رمال سماء زرقاء نساء فاتنات، أطفال: دَرَارِي، ورود وأزهار، أمطار وسحب داكنة مترحلة متموجة متخذة أشكالا وهيئات مختلفة. ثم اللوحة كمشهد فني، جمالي، انطباعي، أو تشخيصي، أو فطري، أو تجريدي، أو سريالي.

إنه الفن بلسم الروح، وَهِبَةُ السماء، وجوهر اللذة التي تُجَوْهِرُ الإِنيَّةَ والكينونة والوجود، وتبصم الإنسان باعتباره أعلى المخلوقات، وأفضلها طُرًّا.

هكذا، يسمى موت فنان بالفاجعة، ويوصف غيابه بلوعة الفقد، وحرقة الإنمحاء الجسدي في الأقل، وينوصف حتفه بالمصاب الجلل، ويلتبس بالهرم المنهار، والجبل المحطوم والسنديانة التي جف في نسغها ماء الحياة. وما ذلك إلا لكون الفقد خسارة لا تعوض، وسكوت الشدو إيذان برهبة الصمت، ورحيل النشيد، وانكفاء القيثارة، أو آلة العود، هجرة لأنامل الذهب التي لا تكرر. في هذا السياق إذا- تندرج وفاة فنان لبنان الكبير، بل فنان العرب قاطبة وديع فرنسيس، المشهور ‘بِالصَّافي’ حيث تتلبس المعاني كلها التي سَلَفَتْ، وتتقمص روح المصيبة التي دَهَتْ وحلت بربوع العالم العربي، فوفاة الفنان وديع، ليست ككل الوفيات، فما أغزر من يموت عبر العالم، لكن الصفوة ضمن هذه الغزارة هي من يُكْتَبُ لها التخليد والتأبيد، والتجذير في تربة الحاضر، والتجنيح لجهة الآتي والمستقبل، ليس تبخيسا لحيوات الناس الباقين، أو استكثارا عليهم وهم يذرعون الأرض، ويحتلون حيزا ضمنها، بل لأن عطاءهم، إنتاجهم، حضورهم، وإسهامهم في مسير ومسار التاريخ، معاد مكرور، تركيمي وتكديسي للمنتوج البشري الذي به يَتَبَلَّغُ الناس، أعني معاشهم وحسب، وما به يبقون على وجه الحياة، لا ما به يخترقونها، ويضيفون إليها ‘انقلابا’ بالمعنى الإيجابي، وإبدالا على مستوى المتغير والمتحول، وطفرة تقطع مع السائد والمبتذل. هل تكون حيوات مبتذلة؟ وهل لهم يد فيها؟

غير أن المفكر، والمبدع والفنان، وهم من الندرة بمكان، يصيبون بموتهم، عَضَلاً وَمَفْصَلاُ في سيرورة الحياة، يعطل استمرارها، ويوقف تطورها، ويلوي عنق اتجاهها إلى المنشود والمرغوب والمتغيا.

موت الفنان العظيم وديع الصافي، هو سقوط جبل، انهيار برج غنائي شاهق، انحطام ركن من أركان الإبداع والحياة، وارتسام هوة لا قرار لها من الغياب، إذ لا تكرار للرجل، لا نسخة له ولو بالتقريب. هو الذي أبهر موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فانبرى مادحا صوته، مسبغا عليه هالة من الروعة والإعجاب كان حقيقا وقمينا بهما، فا لشدو الوديعي أثبت ذلك بما يَندُّ عن الوصف، وبما لا تحيط به الصفة. والأداء الفخم العالي، برهن على علو كعب الرجل بما لا مجال معه للشد والجذب. زد على ذلك، أن محمد عبد الوهاب، وهو من هو، في تاريخ الأغنية والموسيقى العربية، لا يلقي الحديث جزافا، لا يهذر، ولا يرمي الكلام على عواهنه.

شكل حضور وديع الصافي في المشهد الموسيقي والغنائي العربي، عمقا، ونضوجا محسوسا، وإضافة نوعية على مستوى الأداء الغنائي العذب، والصوت القوي المتموج ذي المقامات والخامات البعيدة والعميقة، العالية والمنبسطة، وعلى مستوى الشجا. قيل لفقيه وَرِعٍ: ما أبْكَاكَ؟ قال: ‘أبكاني الشجا’. وفي الحديث الشريف ثناء على جمال الصوت، صوت أبي ذر الغفاري ـ مالم تخني الذاكرة إذ يعبر الرسول الأكرم عن هذا الصوت بقوله البليغ : ‘لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود’. وها أنا أستلف التوصيف البديع لأضفيه على صوت وديع: ‘لقد أوتي وديع الصافي مزمارا من مزامير داود’.

عرف الفن اللبناني في منتصف القرن الماضي- وما بعده، وصولا إلى اليوم غنى وتنوعا وثراء.

وما جعل هذا الفن يعرف تلك الانعطافة الرائعة كونه زَاوَجَ بجمالية مخصوصة، بين البساطة التعبيرية، والسهولة اللغوية، والعذوبة اللفظية، والشجو الأدائي ضمن مسرحة الأغاني وإكسابها طابعا ميلو دراميا، وضمن ‘الديو’ الأغنية التي يؤديها مطربان، وضمن الغناء الفردي. في كل هذه الأنواع، وهذه الأشكال والتلوينات، برع وديع الصافي كما لم يبرع أحد من قبله ولا من بعده، واجترح بصوته الجبلي الجميل والجليل، أَمْدَاءَ لم تجترح قبله. كانت المواويل، ‘والميجنا’، و’العتابا’ بوصفها شعرا غنائيا شعبيا ينطوي على ذخائر الغزل والوصف الطبيعي، ومدح الإنسان، وأسرار وجوده، ووضعه الحياتي والأنطولوجي العام، كانت أُسًّا في انطلاقه، وَبُروز مواهبه، وقدراته الواسعة، وطاقته الهائلة. كما اكتسبت على يده -أقصد على صوته- بريقا ولمعانا، وتلألؤا، وصبغة جبلية عُلْوِية حتى لكأنها، وهو يغنيها، ويمددها أحرفا وأصواتا ومواويل، غيثا تجود به السماء… ينزل من ضَرْعِ السحب الواكفات، ويهمي قَطْرًا، مَنًّا وسلوى، ودواء للمُبْتَلِينَ والمَمْسُوسين والحزانى و’المجانين’.
ارتقى وديع الصافي مراقي إلى النجوم، وتسنم ذرى الشهب، و’عمم بالشمس هامته’ على حد تعبيرالشاعر مهيار الديلمي ، ونزل إلى أغوار الجبال والكهوف والأحراش اللبنانية كما فعل أورفيوس، سوى أنه استعاد ‘يوربيدس′ وأبقاها أنيقة دوما، ساحرة، فاتنة تجود عليه بما يبقيه هو أيضا، ولم تكن تلك اليوربيدس′ غير لبنان الصغير حجما، الكبير حضارة وثقافة وتاريخا وفنا وأناقة.

ولعل ما زاده رقيا، وصعودا، وعلوا، تواضعه الجم، وإنصاته لدبيب الفن، لأسلافه الكبار.. للذين نَمْنَمُوا الأرض العربية، ورشوها بالحب والإبداع، وماء الفتنة، ولقاح الجمال، بدءا بصانعي مجد لبنان الأُلَى سبقوه، واكتشفوا موهبته، وليس انتهاء بمحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وأم كلثوم ورياض السنباطي، وغيرهم كثير.

سيد الركح هذا الوديع إذ يعتليه بلباس ‘الميدان’، وزي لبنان المُقَصَّبِ و’سَمْوكِينْغْ’ مُعَوْلَم، صاهلا في الناس كما مُهْر طليق في برَّية الله بين المروج والزهور والأطيار، واثقا من صوت رائع شجي وقوي، وهو يوقع بالكتفين والقدمين بـ ‘العتابا’ رقصة الدبكة، أو هو يرفع حاجبيه الكثين، ويدنيهما للتو، رافلا في سندس الأغنية، غائصا كما في طنافس الحرير، يرى إلى الفنانة الشحرورة صباح، وهي تهتز كالورقة بفعل الموال، أو سفيرتنا إلى النجوم: فيروز وهي ترفع الأنف الدقيق شامخا، تغرد للتغريد، في إطار من الرد والصدى والرجع، والافتتان.

وديع الصافي مدرسة في الغناء والتلحين، تماهى مع لبنان فإذا هو هو،. أعطاه من ذوب روحه، وجمال وجلال صوته الكثير، كما أعطى للأغنية العربية بعدا صوتيا فخيما رخيما يزري بالنقيق والنعيق والنهيق ، وبا لأصوات التي يسندها ضجيج الآلات الإلكترونية كما يسند القصب الهش المتداعي ، طماطم قلقة ومرتجفة.

فإذا لبنان قطعة سماء، وإذا الوادي هيمان يتيه حبا وهوى، وإذا الدار تنتظر الحبيب، وإذا الإبن مدثر برضا الوالد : (الله يَرْضِي عليك يا إبني)..، والبحارة تحوطهم رعاية الإله، وعناية الفن وهو يلتفت إليهم، ويدبج فيه المديح والثناء، والعرفان، و’الدنيا زهور’ كلها لا حرب ولا ثبور، والليل الذي سكن لدى فيروز، يطالب الفنان بنقل سلامه وتحيته إلى ليلى :

(الليل يا ليلى يعـاتبنـي ويقول لي : سلم على ليلى)

وهكذا دواليك، نصوص وفصوص من أغان خالدات مقمطات في مشيمات البكارة، والطراوة، والولادة المتجددة أبدا.

لقد عَمَّرْت يا وديع، وَعَمَّرْتَ. عمرت لأن العمر امتد بك تسعة عقود ونيف، وهو عمر قصير بحساب الزمن، وبخاصة وأنت فنان، من الطراز الرفيع، والمستوى العالي، والمكانة السنية، وَعَمَّرْتَ المشهد العربي ماضيا وحاضرا، بجميل الشدو، وعذب التغريد، وروعة الأداء، وسموق اللَّبْنَنَة، فعمرت آذاننا وَجْدًا وَتَهْياما ولذاذة، وأعيننا متعة وكمالا وألقا لم نعيا من التحديق فيها، ولن نعيا، وكيف نعيا من الحب والشعر والغناء والطير والزهر، وما به عانقنا أعمارا رَفَلَتْ، للحق، في الحرير، على رغم ضنك العيش، والشقاوة، والحروب المستعرة، والعالم العربي الذي ينهار.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf



 مسيرة فريدة تختصر هوية الأغنية اللبنانية


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢١٢٨ السبت ١٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٣
جريدة الأخبار
ادب وفنون

باسم الحكيم


عن عمر ناهز 92 عاماً، رحل وديع الصافي (وديع فرنسيس، 1921ـــ 2013) بعدما أصيب بوعكة عند السابعة من ليل أمس، حين كان في منزل نجله طوني، فنقل إلى مستشفى Bellevue في المنصوريّة حيث فارق الحياة. برحيله حكاية من عمر لبنان انطوت. حكاية فن وعشق قاربت الـ 75 عاماً من العطاء، بدأها في «راديو الشرق» في سن السابعة عشرة (1938)، وتوّجها بنجاحات كبيرة في المهرجانات، بين بعلبك وجبيل أواخر الخمسينيّات، ومطلع الستينيات.

ابن بلدة نيحا الشوفيّة، منها كانت انطلاقته الأولى. هناك، لفت انتباه أساتذته في مدرسة الضيعة، ثم في مدرسة الآباء المخلصين في بلدة جون. ووصلت أصداء شهرته إلى أنحاء العالم، وحمل أربع جنسيات هي المصريّة، والفرنسية، والبرازيلية، إضافة إلى جنسيته اللبنانية.

وقع خبر رحيله كالصاعقة على محبيه. فور إعلان الخبر، امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارات التعزية والمواساة. المطربة الكبيرة سعاد هاشم نعت «وديع الخسارة الكبيرة. حين أسمع صوته، أتذكر لبنان بصخره وزهره وشموخ أرزه». تتذكر لقاءهما في «مهرجانات الأنوار» (أنشأها الصحافي الراحل سعيد فريحة) في الستينيات. يومها تحدى أحدهما الآخر بمواويل العتابا وأبو الزلف، وغنيا معاً «ودي يا بحر ودي/ طولنا بغيبتنا/ ودي سلامي لبيت جدي/ وللتوتة اللي بدارتنا». وأشارت هاشم إلى الصولات والجولات التي قاما بها معاً في العواصم العربيّة، منها الكويت ومصر، مشيرة إلى أنّ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كان يزور السفارة اللبنانيّة في مصر، ليستمتع بصوت وديع وسعاد. لفت صاحب «لبنان يا قطعة سما» الأنظار منذ كان صغيراً. خاله نمر العجيل كان أول من اكتشف موهبته، فعلّمه عزف العود، وأهداه آلة عود، احتفظ بها حتى آخر أيامه. عاش طفولة متواضعة، ودرس في «مدرسة دير المخلص»، وما لبث أن توقف عن متابعة تحصيله العلمي، بعدما سرقته الموسيقى والفن من علمه، فوجد في الغناء متعة وفرصة لمساعدة والده على إعالة العائلة. وكان أكبر أجر تقاضاه يومها ثماني ليرات ذهبيّة من الست نظيرة جنبلاط (والدة كمال جنبلاط)، وكان يومها لا يتجاوز الحادية عشرة.
شاءت الظروف أن يحمل له شقيقه توفيق، قصاصة ورق عن إعلان لمسابقة غنائيّة تنظمها «إذاعة لبنان» الرسمية المعروفة يومذاك بـ«إذاعة الشرق الأدنى». شارك وديع في المسابقة ونال الجائزة الأولى في الغناء من بين 40 متبارياً. وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام. وانتسب بعدها إلى الإذاعة، التي كانت بمثابة معهد فني، ساعدته على إنضاج موهبته. وهناك أطلق عليه اسم وديع الصافي بدلاً من وديع فرنسيس، كما أثبت سريعاً تميّزه، وكانت أولى أغنياته الخاصة «يا مرسال النغم».

يعد الشاعر أسعد السبعلي صاحب بصمة مهمة في مشوار التعاون مع الصافي. كانت البداية مع أغنية «طل الصباح وتكتك العصفور» عام 1940. خلال مشواره، تعاون مع مجموعة كبيرة من الشعراء. وكان مارون كرم أكثر من جمعه تعاون به امتدّ حتى السنوات الأخيرة من حياة كرم، الذي رحل قبل ثلاث سنوات. قدم إليه مئات الأغاني، أشهرها «بيت صامد بالجنوب»، «لا انت راضي»، «ندم» (دق باب البيت عالسكيت)، «مرسال الهوى». وفي نهاية الخمسينيات، انطلق العمل بين عدد من الموسيقيين من خلال «مهرجانات بعلبك»، التي جمعت وديع الصافي، وفيلمون وهبي، والأخوين رحباني، وزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي وسواهم. أما لقاؤه الأول بعبد الوهاب، فكان عام 1944، يوم سافر إلى مصر. مع بداية الحرب اللبنانية، غادر وديع إلى مصر عام 1976، ثمّ إلى بريطانيا، ليستقرّ عام 1978 في باريس. وكان سفره اعتراضاً على الحرب الدائرة في لبنان، كما عاش فترة في البرازيل. خضع الصافي عام 1990، لعملية قلب مفتوح، لكنها لم توقفه عن العطاء الفني تلحيناً وغناءً. وافق على المشاركة مع المنتج اللبناني ميشال الفتريادس في حفلات غنائية في لبنان، وخارجه مع المغني خوسيه فرنانديز والمطربة حنين.

رغم أن الراحل غنى ألحان الأخوين رحباني وزكي ناصيف (طلوا احبابنا)، ومحمد عبد الوهاب (عندك بحرية) وفريد الأطرش (على الله تعود)، لكن حصّة الأسد من أعماله، لحنها بنفسه، كما كانت له مشاركات في أفلام ومسلسلات مصريّة ولبنانيّة، منها «نار الشوق» (1970)، «الاستعراض الكبير» (1975)، «ليالي الشرق» (1965)، «إنت عمري» (1964)، إضافة إلى مسلسل «كانت إيام» (1964)، لكن السينما لم تكن ملعبه.

كرّمه لبنان مراراً، كما وضعت صورته على الطوابع البريدية مع صباح وفيروز، وحمل خمسة أوسمة نالها أيام الرؤساء كميل شمعون، وفؤاد شهاب، وسليمان فرنجية، والياس الهراوي، ومنحه الرئيس السابق إميل لحود وسام الأرز برتبة فارس، كما منحته «جامعة الروح القدس» في الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقى عام 1991. هكذا، طوى وديع الصفحة الأخيرة من مشواره الفني، تاركاً أكثر من 5 آلاف أغنية. رصيد ضخم أسهم في نحت «هوية» فنية لبنانية انطلاقاً من أصولها الفولكلورية وتراث بلاد الشام بصوت «أبوي» نادراً ما يتكرّر.









عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 من هو وديع الصافي.. العملاق الذي صدح فناً ؟


جريدة الحياة


السبت ١٢ أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠١٣
جريدة الحياة

بيروت - الحياة


ولد الفنان الراحل وديع فرنسيس، المعروف باسم وديع الصافي، في 24 تموز/يوليو عام 1921 في قرية نيحا الشوف اللبنانية، وهو الابن الثاني في ترتيب العائلة المكونة من ثمانية أولاد.

عاش طفولة متواضعة يغلب عليها طابع الفقر والحرمان، وفي عام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت ودخل وديع الصافي إلى مدرسة دير المخلص الكاثوليكية، وبعدها بثلاث سنوات، اضطر للتوقّف عن الدراسة، لأن جو الموسيقى هو الذي كان يطغى على حياته من جهة، ولكي يساعد والده من جهة أخرى في إعالة العائلة.

بدأت مسيرته الفنية عام 1938، حين فاز بالمرتبة الأولى لحنًا وغناءً وعزفًا، من بين أربعين متباريًا، في مباراة للإذاعة اللبنانية، أيام الانتداب الفرنسي. واختارت اللجنة الفاحصة آنذاك، اسم “وديع الصافي” إسماً فنياً له، نظرًا لـ"صفاء صوته". كما طلبت إليه الانتساب رسمياً إلى الإذاعة.

بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية، التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية. وذاع صيته عام 1950 وأصبح أول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة وباللهجة اللبنانية، بعد أن أضاف إلى أغانيه موّال الـ"عتابا" الذي أظهر قدراته الفنية.

في خمسينيات القرن الماضي، قال عنه الفنان محمد عبد الوهاب، حين سمعه يغني: “من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت”. ولُقب بـ"صاحب الحنجرة الذهبية"، وقيل عنه في مصر إنّه “مبتكر المدرسة الصافية (نسبة إلى اسمه وديع الصافي)، في الأغنية الشرقية.”

تزوج عام 1952 من ملفينا طانيوس فرنسيس، إحدى قريباته، فرزق بدنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد. وفي أواخر الخمسينات شارك مع عدد كبير من الموسيقيين اللبنانيين في عمل لنهضة الأغنية اللبنانية انطلاقًاً من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات “بعلبك”.

وفي عام 1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، فغادر الصافي بلده إلى مصر بعد عام، ثمّ انتقل إلى بريطانيا، ليستقرّ عام 1978 في باريس. وكان سفره “اعتراضًا على الحرب الدائرة في لبنان”، ودافع في تلك الفترة عن لبنان الفن والثقافة والحضارة من خلال موهبته.

عام 1990، خضع لعملية القلب المفتوح، ولكنه استمر بعدها في عطائه الفني بالتلحين والغناء. فعلى أبواب الثمانين من عمره، لبّى الصافي رغبة المنتج اللبناني ميشال الفترياديس لإحياء حفلات غنائية في لبنان وخارجه، مع المغني خوسيه فرنانديز وكذلك المطربة حنين.

يحمل الصافي ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلى جانب جنسيته اللبنانية، إلاّ أنه يفتخر بلبنانيته، ويردد أن “الأيام علمته بأن ما أعز من الولد إلا البلد”.

كرّمه أكثر من بلد ومؤسسة وجمعية، وحمل أكثر من وسام استحقاق منها ستة أوسمة لبنانية منها وسام الأرز برتبة فارس. كما منحته جامعة “الروح القدس” دكتوراه فخرية في الموسيقى في 30 حزيران/يونيو 1991. كما أحيا الحفلات في شتّى البلدان العربية والأجنبية.

كان له الدور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد. أصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في لبنان فقط، بل في العالم العربي أيضًا، واقترن اسمه بلبنان.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



 وداعاً أيها الصافي


جريدة السفير اللبنانية


جريدة السفير
السبت 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 - العدد 12603

السفير


أطلق وديع الصافي آهاته الشجية ورحل طاوياً معه عصر الطرب، وقد ترك صدى صوته المنشي يتردد في أجواء الوطن العربي جميعاً، بمشرقه ومغربه.

انطوت صفحة ولا أبهى من تاريخ الغناء العربي، الغناء الذي يذهب إلى الوجدان فينعشه إلى حد البكاء شجناً.

أطلق صوته العفي فملأ هواء دنيا العرب من أدناها إلى أقصاها، وهو الذي غنى مع لبنان وله سوريا بدمشقها ومصر بقاهرتها والعراق ببغدادها وبلغ صوت الفرح أقصى المغرب وأدنى المشرق، فكان مطرب العرب بحق، متجاوزاً الحدود وأنظمة القمع رابطاً بين الإنسان وأرضه.

مدّ صوته بساطاً سحرياً للطرب الأصيل، من غير أن ينسى أشجان وطنه وإنسانه، ببيوته الصامدة في الجنوب... وغنى بلداته وقراه، بأسمائها متعددة الأصل.

غنى فرح الحب وأشجانه.

غنى للعشاق والمغرمين،

غنى للملاحين وريسهم وللصيادين،

غنى لأبناء الحياة، وشهق بالبكاء مع المحبين، وأطلق صوته زغرودة فرح ليندفع العشاق إلى الدبكة وقد أنشاهم وأدخلهم إلى عالم النشوة بسحره جميعاً.

لم يكن وديع الصافي مطرب الناس فحسب، بل هو قد طار إلى المهاجرين يشدهم مجدداً إلى الوطن، يحمل إليهم أنفاس أمهاتهم والآباء.

كانت تنتظره دمشق فتتزيّن له وتذهب إليه بشوقها إلى الحياة فيطربها حتى النشوة... ويلتف من حوله شيوخ طربها والأجيال الجديدة من المغنين والمغنيات يتعلمون منه وهم يتأوهون.

وكانت تنتظره القاهرة بأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ والشعراء الذين يأخذهم صوته إلى القصيدة.
ولقد طاف جميع العواصم فغنى الناس وغنوا معه، وتأوّهوا وهم يسرحون مع آهاته كما مع أبو الزلف... بل انهم حفظوا له كل أغانيه التي لحّن معظمها، أو تلك التي لحنها له الرحابنة في بعض مسرحياتهم التي انتعشت بمشاركته فيها.

لقد دخل بصوته حياتنا جميعاً، بالأفراح فيها وأسباب الشجن... فغنى للناس ووزع البهجة على جمهور بالملايين في مشارق الأرض العربية ومغاربها.

صوت لبنان العفي، الشجي، المبهج، المنشي، المطرب، الممتع، الممتلئ عافية ونغماً مصفى.

لقد أعطانا ستين عاماً من الطرب وألف ألف أغنية لحنها بإحساسه وحبه للناس الذين كانوا يسمعون منه صوت الفرح والحماسة والشجن والفخر ويتسلقون معراجه إلى النشوة.

يغيب وديع الصافي لكن صوته الذي انبثق من صلابة صخورنا وترقرق كمياه أنهارنا وحلّق كصلوات وتنهدات عذارانا. صوته الذي كان ذخيرتنا ومؤونتنا وكنزنا يبقى جوّاباً في نسيمنا وفي عواصفنا وفي جبالنا. الصوت الذي هو في حجم وطن وملحمة شعب وذاكرة بلاد لن يختفي وسيبقى عزاءنا في هذه الأوقات الصاخبة الغاضبة الملعونة، غير أن العصف لن يصرفنا عن رؤية النسر الذي هوى في ضربة درامية، ملحمية، لنا وللعالم. غناؤه لم يكن وقفات جمال كبيرة فحسب، ففيه خفقات الوجد والقوة معاً، وهواجس القبض على كل العزم في الصوت البشري، وفيه ذلك النسيج التفصيلي لكل مرادفات الحنان، وإيقاعات الغوى المتعددة.

«شو طمّعك يا زين تهجر حيّنا»، كان يسأل وديع في الشريط الإنساني للحب، بصوته الذي يرى إلى ما فوق الكائن البشري، إلى الصوت الأعلى والحلقة الذهبية ما بين الإله والرجل.

أليس اقتران الصوت بالكلمة، والحنان بالقوة، والبساطة بالدربة هي أغنيات الصافي، راشحة بكل ما أبدعه الرب من سحر خلق الأصوات وكينونتها. ما الذي سوف نردده ونعدده مما غناه الصافي، وماذا ننتقي لندرجه هنا كمثال على عذوبة صوته ورفعة ذلك الصوت؟ الحقيقة أن كل ما شدا به الصافي يليق بأن يكون تذكيراً وداعياً فاخراً، وكل ما همس به، ما أعلى به الصوت أو أخفضه، يستحق أن يقال بأنه صفحة جمالية متعالية على أغلب ما نسمعه الآن، بل إنه البون الشاسع بين ما تجاوزه صوته، والضجيج الذي نسمع، وكم يبدو رخواً ومطاطاً قبالة غناء الصافي العــذب، الذي هدانا جميـــعاً إلى العذوبة كما ينبغي أن تكون تماماً.

رحيله وجعٌ جديد، يضاف إلى أوجاعنا البائتة، سكنت أخيراً لجّة صوته وأنفاسه وغدا الوقت وحلاً وفراغاً صدئاً. ضاعت الماسة، وها هنا المعنى من غيابه، الذي لا يتيسّر لنا استيعابه تماماً. وسترتسم سيرة حياته كلها على صفحة هذا البلد الذي يخون أبناءه، يرسلهم ليغرقوا أو يتعفنوا أو يتشظوا في موت لا يتزعزع. رحل الصافي وقد عاش لنا، عاش لشغفه وصوته، وعاش لكي يستلّ من قلوبنا أحلى انفعالاتنا، وهذا هو الحب الذي خلّفه لنا. لكن الموت ليس وداعاً فحسب، إنه ليذكّر أيضاً، أن من عاش بيننا، خلّد بعد رحيله، قرباناً بهذه الضخامة.

عن موقع جريدة السفير اللبنانية


صدر العدد الأول من جريدة السفير في 26 آذار 1974، وكانت ولا تزال تحمل شعاري “صوت الذين لا صوت لهم” و “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
اليوم، وبفضل تقنيات الاتصال الحديثة والإنترنت، تخطت السفير مصاعب الرقابة والتكاليف الباهظة للطباعة في الخارج وتمكنت من الوصول إلى قرائها في القارات الخمس.
تتضمن صفحات السفير الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
وتتولى تغطية الأحداث اليومية مجموعة صحفيو السفير ومراسلوها في واشنطن وباريس ولندن والقاهرة وفلسطين ودمشق وعمان وموسكو وروما وبون، مستعينون كذلك بالخدمات الإخبارية التي توفرها وكالات الأنباء العالمية.
لقراءة المزيد



 وعن حياته...


جريدة النهار اللبنانية


جريدة النهار اللبنانية
الجمعة 11 تشرين الأول (أكتوبر) 2013

النهار


...

ولد وديع فرنسيس المعروف بوديع الصافي في 1 تشرين الثاني 1921 في قرية نيحا الشوف وهو الابن الثاني في ترتيب العائلة المكونة من ثماني أولاد كان والده بشارة يوسف جبرائيل فرنسيس، رقيب في الدرك اللبناني.

عاش وديع الصافي طفولة متواضعة يغلب عليها طابع الفقر والحرمان، في عام 1930، نزحت عائلته إلى بيروت ودخل وديع الصافي مدرسة دير المخلص الكاثوليكية، فكان الماروني الوحيد في جوقتها والمنشد الأوّل فيها. وبعدها بثلاث سنوات، إضطر للتوقّف عن الدراسة، لأن جو الموسيقى هو الذي كان يطغى على حياته من جهة، ولكي يساعد والده من جهة أخرى في إعالة العائلة.

لم يكن وديع الصافي قد اكمل بعد السنتين من عمره عندما اذهل خاله نمر العجيل بقوة صوته ونقاوته. وكان يطيب له ان يمسك بيده ويجول واياه في احياء بلدة نيحا . وعند سماع صياح الديك كان الطفل يتوقف لبرهة ويصيح بدوره مقلداً الديك ببراعة فيربت الخال على كتفه اعجاباً وهو يتمتم “مش معقول ولد بها العمر بيملك هالصوت”.

وشاءت الصدف ان يردد العبارة نفسها الراحل محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني اوائل الخمسينات “ولو” المأخوذة من احد افلامه السينمائية وكان وديع يومها في ريعان الشباب. فشكلت هذه الاغنية علامة فارقة في مشواره الفني وتربع من خلالها على عرش الغناء العربي، لقب بصاحب الحنجرة الذهبية وقيل عنه في مصر مبتكر “المدرسة الصافية” (نسبة الى وديع الصافي) في الاغنية الشرقية. انهالت العروض على وديع لاحياء الحفلات وتمثيل الافلام وانقلبت حياته رأساً على عقب فصار ملك الغناء من دون منازع.

العتابا... الغزيّل... ابو الزلف وغيرها من اغاني الفولكلور اللبناني، كان ينشدها وديع بجدارة، فلفت انتباه زملائه واساتذته في مدرسة الضيعة “نيحا” تحت السنديانة وفي الهواء الطلق وبعدها في مدرسة الآباء المخلصين في بلدة جون.

اول اجر قيّم تقاضاه في بداية مشواره الفني كان ثماني ليرات ذهبية من الست نظيرة جنبلاط والدة الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط، وذلك لقاء غنائه لها وهي طريحة الفراش وكان يومها لا يتجاوز الحادية عشرة.

عام 1938 انتقلت عائلة فرنسيس الى بيروت وهناك لعبت الصدفة دورها، عندما دخل عليه شقيقه توفيق يحمل قصاصة ورق عن اعلان لمسابقة غنائية تنظمها اذاعة لبنان الرسمية والمعروفة حينذاك باذاعة الشرق الادنى.

شارك وديع في المسابقة ونال الجائزة الاولى في الغناء من بين اربعين متباريا ولشدة اعجاب لجنة التحكيم بصوته وبمقدمهم رئيسها اميل خباط طلبت منه الانتساب رسمياً الى الاذاعة واطلقت عليه اسم وديع الصافي بدل وديع فرنسيس. استطاع الصافي وفي فترة قصيرة ابراز موهبته على افضل وجه، وكانت اول اغنية فردية له بعنوان “يا مرسال النغم” وهو لا ينسى اليوم الذي اضطر فيه ان يحل مكان احد الشيوخ ليؤذن لصلاة العصر، وانهالت بعدها الاتصالات والرسائل على الاذاعة تسأل من هو هذا الشيخ صاحب هذا الصوت الشجي؟.

وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام، الذين اتفقوا على اختيار اسم “وديع الصافي” كاسم فني له، نظرًا لصفاء صوته. فكانت إذاعة الشرق الأدنى، بمثابة معهد موسيقي تتلّمذ وديع فيه على يد ميشال خياط وسليم الحلو، الذين كان لهما الأثر الكبير في تكوين شخصيّته الفنية. بدأت مسيرته الفنية بشق طريق للأغنية اللبنانية، التي كانت ترتسم ملامحها مع بعض المحاولات الخجولة قبل الصافي، عن طريق إبراز هويتها وتركيزها على مواضيع لبنانية وحياتية ومعيشية. ولعب الشاعر أسعد السبعلي دورًا مهمًّا في تبلّور الأغنية الصافيّة. فكانت البداية مع “طل الصباح وتكتك العصفور” سنة 1940.

لم تتسع بيروت للمطرب الصغير الباحث عن الافضل، فسافر اكثر من مرة بحثاً عن لقمة العيش وكانت بدايته مع احد متعهدي الحفلات من آل كريدي، وذلك اثناء الحرب العالمية الثانية عندما اختاره ليقوم بجولة فنية في دول اميركا اللاتينية المزدهرة حينها بالصناعة والزراعة. استقر في البرازيل ثم عاد الى لبنان ليكتشف ان الاغنية اللبنانية ما زالت في بداياتها لولوج العالم العربي. وعندما عرف بالنجاح الكبير الذي حققته اغنية الراحل فريد الاطرش في تلك الاثناء “يا عوازل فلفلو” قرر ان يغامر باغنية جديدة من نوعها بعنوان “عاللوما”. ذاع صيت وديع الصافي بسبب هذه الاغنية التي صارت تردد على كل شفة ولسان واصبحت بمثابة التحية التي يلقيها اللبنانيون على بعضهم بعضا.

اراد وديع الصافي ان يثبت خطواته الفنية اكثر فاكثر، فحاول ذلك جاهداً اوائل الستينات عندما عرض عليه نقولا بدران والد المطربة الكسندرا بدران المعروفة باسم “نور الهدى” في مصر. هناك تعرف الصافي الى ملحنين وممثلين مصريين ومكث حوالي العام ليعود الى لبنان ويتبناه هذه المرة محمد سلمان زوج المطربة نجاح سلام و شارك معها في اكثر من فيلم سينمائي وبينها “غزل البنات” ومن ثم مع صباح في “موّال” و"نار الشوق" عام 1973.

جذب المطرب الاجيال بصوته، اطرب الكبار والصغار فغنى مئات الاغاني، منها ما افرح القلوب مثل “لرميلك حالي من العالي” و"لبنان يا قطعة سما" و"جايين" ومنها ما حرك الحنين لدى المهاجرين كاغنية “عا الله تعود عا الله”.

لم يغب يوماً عن برامج المسابقات التلفزيونية الغنائية فوقف يشجع المواهب الجديدة التي رافقته وهو يغني اشهر اغانيه وبينها “عندك بحرية يا ريّس” والمعروفة انها ثمرة تعاون بينه وبين الراحل محمد عبد الوهاب.

من أهم أغانيه: عندك بحرية، الليل يا ليلاه، الله يرضى عليك، عاليادي اليادي، لبنان، لبنان يا قطعة سما، يا عيون بابا، يا ويل حالي وغيرها من الأغاني الضخمة.

أول لقاء له مع محمد عبد الوهاب كان سنة 1944 حين سافر إلى مصر. وسنة 1947، سافر مع فرقة فنية إلى البرازيل حيث أمضى 3 سنوات في الخارج.

بعد عودته من البرازيل، أطلق أغنية “عاللّوما”، فذاع صيته بسبب هذه الأغنية التي صارت تردَّد على كل شفة ولسان، وأصبحت بمثابة التحية التي يلقيها اللبنانيون على بعضهم بعضا. وكان أول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة وباللهجة اللبنانية بعدما طعّمها بموال “عتابا” الذي أظهر قدراته الفنية.

قال عنه محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني أوائل الخمسينات “ولو” المأخوذة من أحد افلامه السينمائية وكان وديع يومها في ريعان الشباب: “من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت”. فشكّلت هذه الأغنية علامة فارقة في مشواره الفني وتربع من خلالها على عرش الغناء العربي، فلُقب بصاحب الحنجرة الذهبية، وقيل عنه في مصر أنّه مبتكر “المدرسة الصافية” (نسبة إلى وديع الصافي) في الأغنية الشرقية.
سنة 1952، تزوج من ملفينا طانيوس فرنسيس، إحدى قريباته، فرزق بدنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد.

في أواخر الخمسينات بدأ العمل المشترك بين العديد من الموسيقيين من أجل نهضة للأغنية اللبنانية انطلاقًا من أصولها الفولكلورية، من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعت وديع الصافي، وفيلمون وهبي، والأخوين رحباني وزكي ناصيف،ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي، وغيرهم.

مع بداية الحرب اللبنانية، غادر وديع لبنان إلى مصر سنة 1976، ومن ثمّ إلى بريطانيا، ليستقرّ سنة 1978 في باريس. وكان سفره اعتراضًا على الحرب الدائرة في لبنان، مدافعًا بصوته عن لبنان الفن والثقافة والحضارة. فكان تجدّد إيمان المغتربين بوطنهم لبنان من خلال صوت الصافي وأغانيه الحاملة لبنان وطبيعته وهمومه. منذ الثمانينات، بدأ الصافي بتأليف الألحان الروحية، نتيجة معاناته من الحرب وويلاتها على الوطن وأبنائه واقتناعًا منه بأن كلّ اعمال الإنسان لا يتوّجها سوى علاقته باللّه.

سنة 1990، خضع لعملية القلب المفتوح، ولكنه استمر بعدها في عطائه الفني بالتلحين والغناء. فعلى أبواب الثمانين من عمره، لبّى الصافي رغبة المنتج اللبناني ميشال الفترياديس لإحياء حفلات غنائية في لبنان وخارجه، مع المغني خوسيه فرنانديز وكذلك المطربة حنين، فحصد نجاحاً منقطع النظير أعاد وهج الشهرة إلى مشواره الطويل. لم يغب يوماً عن برامج المسابقات التلفزيونية الغنائية قلباً وقالباً فوقف يشجع المواهب الجديدة التي رافقته وهو يغني أشهر أغانيه.

يحمل الصافي ثلاث جنسيات المصرية والفرنسية والبرازيلية، إلى جانب جنسيته اللبنانية، الاّ أنه يفتخر بلبنانيته ويردد أن الأيام علمته بأن ما أعز من الولد الا البلد.

سنة 1989، أقيم له حفلة تكريم في المعهد العربي في باريس بمناسبة البوبيل الذهبي لانطلاقته وعطاءاته الفنية. والذي تألق في مصر الفنان محمود عادل البرنس.

شارك وديع الصافي في المهرجانات الغنائية التالية :

“”العرس في القرية" (بعلبك 1959)
“”موسم إلعز"، و"مهرجان جبيل" (1960)،
“”مهرجانات فرقة الأنوار" (1960-1963)،
“”مهرجان الأرز" (1963)،
“”أرضنا إلى الأبد" (بعلبك 1964)،
“”مهرجان نهر الوفا" (الذي فشل ماديًا) 1965،
“”مهرجان مزيارة" (1969)،
“”مهرجان بيت الدين" (1970-1972)،
“”مهرجان بعلبك" (1973-1974).

أفلام سينمائية

شارك وديع في أكثر من فيلم سينمائي، من بينها :

“”الخمسة جنيه"
“”غزل البنات"
“”موّال" و"نار الشوق" مع صباح في عام 1973.

الأغاني

غنّى للعديد من الشعراء، خاصّة أسعد السبعلي ومارون كرم، وللعديد من الملحنين أشهرهم الأخوان رحباني، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، رياض البندك. ولكنّه كان يفضّل أن يلحّن أغانيه بنفسه لأنّه كان الأدرى بصوته، ولأنّه كان يُدخل المواويل في أغانيه، حتّى أصبح مدرسة يُحتذى بها. غنّى الآلاف من الأغاني والقصائد، ولحّن منها العدد الكبير.

كرّمه أكثر من بلد ومؤسسة وجمعية وحمل أكثر من وسام استحقاق منها خمسة أوسمة لبنانية نالها أيام كميل شمعون، فؤاد شهاب وسليمان فرنجية والياس الهراوي. ومنحه الرئيس اميل لحود وسام الأرز برتبة فارس. ومنحته جامعة الروح القدس في الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقى في 30 حزيران 1991. كما أحيا الحفلات في شتّى البلدان العربية والأجنبية.

كان له الدور الرائد بترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد. أصبح مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في لبنان فقط، بل في العالم العربي أيضًا. واقترن اسمه بلبنان، وبجباله التي لم يقارعها سوى صوته الذي صوّر شموخها وعنفوانها.

عن موقع جريدة النهار اللبنانية


النهار هي صحيفة لبنانية سياسية مستقلّة رائدة. وقد صدر العدد الأوّل في 4 أغسطس/آب 1933 في أربع صفحات. بدأت الصحيفة التي كان عدد موظّفيها خمسة بينهم المؤسّس جبران تويني، مع رأسمال من 50 قطعة ذهبية جُمِعَت من الأصدقاء، وكانت تُوزِّع 500 نسخة فقط. ولاحقاً تولّى ابن جبران، غسان تويني، وحفيده الذي يحمل الاسم نفسه، جبران تويني، رئاسة التحرير والنشر. حالياً تشغل نايلة تويني منصب رئيسة التحرير ورئيسة مجلس الإدارة.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)