رحيل المؤلف والمخرج اللبناني الكبير جورج نصار عن 92 عاماً

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


الخميس 24 كانون الثاني 2019
جريدة الأخبار
سينما - غياب
نادين كنعان


جورج نصر... السينما اللبنانية فقدت بطركها


مُطلق سينما المؤلِّف وأوّل الواصلين إلى «كان»


إن لم تكن منتمياً إلى تلك الدائرة الضيّقة من المتخصّصين والمولعين بالسينما اللبنانية، فعلى الأرجح أنّك حتى الأمس القريب لم تسمع بجورج نصر (1927 ــ 2019) الذي أغمض عينيه البارحة إلى الأبد. لغاية 2017، بقي اسم «أبو السينما اللبنانية» ورائدها الفعلي (بعد المحاولات التي امتدت من عام 1929 حتى نهاية الأربعينيات) بعيداً عن دائرة الضوء، وتطلّب الأمر أكثر من نصف قرن ليجد ابن مدينة طرابلس نفسه مكرّماً في بلاده على مسيرته المهنية الطويلة التي انطلقت في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكان متيقّناً بأنّه «محارب» خلالها. في الدورة السبعين من «مهرجان كان السينمائي الدولي»، كُرّم نصر وعُرضت باكورة أعماله «إلى أين؟» (1957 ــ 90 د) بعدما رُمّمت بمبادرة من شركة «أبوط برودكشنز» و«مؤسسة سينما لبنان» و«نادي لكل الناس». تزامن ذلك مع صدور كتاب حول مسيرته بعنوان «جورج نصر: السينما الداخلية» (إشراف غسان قطيط) عن منشورات جامعة الـ«ألبا»، حيث درّس الراحل الإخراج لسنوات.

تلقّى جورج الطفل دراسته في «مدرسة الفرير» في طرابس، ثم انتقل إلى الولايات المتحدّة لدارسة الهندسة المعمارية في إحدى جامعات شيكاغو. بعد سنتين من الدراسة، أدرك الشاب المنحدر من الساحل اللبناني أنّه «بحاجة إلى رؤية البحر» كما قال في مقابلة سابقة مع «الأخبار». هكذا، حطّ في كاليفورنيا حيث اضطر إلى العودة إلى النقطة الصفر بعد رفض الاعتراف بتحصيله العلمي السابق. الصدفة ستقوده إلى اكتشاف اختصاص السينما الذي سيمكّنه من ترجمة حبّه للفن السابع وتعميقه وصقله. كان من أوائل السينمائيين العرب الذين درسوا في الولايات المتحدة وحاز شهادة الماجستير، كما عمل لأشهرٍ في استديوات هوليوود، غير أنّه فضّل العودة إلى الأرض الأم نظراً الى اقتناعه بأنّ طريق الشهرة سيكون أقصر هناك. المحطة التالية ستكون فرنسية حيث سيكمل فترة تدريب ويبحث عن منتج لفيلمه الروائي الأوّل. كثرة التنقّل والمشاهدات المؤلمة في الشارع، ستحثّه على تناول الهجرة التي «أكرهها» ليُبصر «إلى أين؟» النور ويصبح لاحقاً أوّل شريط يمثلّ لبنان رسمياً في «كان» ويضعه على الخريطة السينمائية العالمية. كان نصر يظنّ بأنّه سيحظى في مطار بيروت باستقبال مهيب، إلا أنّ الواقع كان مخيّباً، فيما رفضت الصالات المحلية عرضه، باستثناء «دار الأوبرا» في وسط البلد. «لم يكن الجمهور معتاداً على هذا النوع من الإنتاجات»، يقول. «إلى أين؟» فيلم لبناني خالص يعتبر بداية سينما المؤلّف في لبنان، وتدور أحداثه حول عائلة فقيرة تقطن إحدى القرى اللبنانية في الخمسينيات، يقرّر ربّها الهجرة إلى البرازيل سعياً إلى حياة أفضل للجميع. عودة الوالد ستستغرق عشرين عاماً، ستناضل الأم خلالها لتربية الأولاد بمفردها.


بوستر فيلم «إلى أين؟»


انطلاقاً من هذه الحكاية، حاول جورج استكشاف تيمات الهجرة والانتماء والهوية وتصوير مجتمع لم يشفَ لغاية اليوم من المشاكل والهواجس نفسها (لا يزال المخرجون اللبنانيون يشتغلون على هذه المواضيع حتى اليوم)، من خلال المزج بين الوثائقي والروائي. إنّه مزيج بين الميلودراما والواقعية الجديدة على النمط الإيطالي، ما اعتُبر غريباً جداً على ذائقة الجمهور اللبناني في تلك الحقبة المعتاد على الأفلام الغنائية المصرية وتلك البوليسية المستنسخة عن الإنتاجات الهوليوودية السائدة يومها.

لا تنفصل رحلة نصر المهنية عن الأوضاع السياسية في المنطقة آنذاك. في المرحلة الثانية من نشأة السينما اللبنانية وتطوّرها، والممتدة بين عامَيْ 1951 و1965 بحسب كتاب «الصورة الملتبسة ــــ السينما في لبنان: مبدعوها وأفلامها» (2010 ــــ دار النهضة العربية) لإبراهيم العريس، تحوّل لبنان إلى نقطة ثقل اقتصادية عبر تدفّق رساميل البورجوازية السورية الهاربة من انقلابات دمشق والمصرية الهاربة من ثورة يوليو (1952). أما المرحلة الثالثة، فتبدأ في الأصل في أوائل الستينيات وشهدت مجيء المنتجين والمخرجين والممثلين والتقنيين الرامين إلى الابتعاد عن تأميم الزعيم جمال عبد الناصر للسينما المصرية. في ذلك الحين، تركّز الاهتمام على الشرائط التجارية التي ستجد دربها إلى صالات العرض بسهولة فائقة حتى ولو كانت تفتقر إلى الهوية (مروحة واسعة منها تحمل توقيع محمد شامل)، علماً بأنّه تزامناً مع نكسة الـ 67، وُلدت أعمال على تماس مع الواقع، من بينها «الفدائيون» للراحل كريستيان غازي.

بناءً على هذا الواقع، أطلق جورج نصر عام 1962 فيلم «الغريب الصغير» بالفرنسية. بأسلوب سريالي وتقطيع رائع للكادرات ومشاهد إيروسية تضفي الطابع الحلمي على العمل، تتبع الراحل رحلة البلوغ التي يجتازها صبي آتٍ من الريف إلى المدينة. ينعجن الشاب بقساوة العاصمة والفوضى الغامرة. رغم أنّ تيماته وهواجسه تنهل من التربة اللبنانية، إلا أنّ هذا الفيلم لم يلق الحفاوة الجماهيرية التي تأمّلها نصر، متهماً يومها «أصحاب الصالات السينمائية اللبنانية بأنّهم رضخوا للمنتجين المصريين الذين مارسوا ضغطاً لعدم طرح هذا الفيلم».

سينتظر جورج 11 عاماً لإصدار «المطلوب رجل واحد» (1973 ــــ إنتاج نقابة الفنانين السوريين، وظل يُعرض في سوريا لسنوات) الذي يشكّل عودة إلى الهوية العربية والقضية الفلسطينية، طارحاً قضية شخص غريب يدخل بين مجموعة تعيش بعيداً عن الحياة في مكان معزول، ويسعى إلى التفريق بينهم للسيطرة على الأرض.

على عكس أسلافه المتأثّرين بالمسرح، كانت سينما نصر أكثر تركيباً وراهنية وتفرّداً. صورة المرأة في سينماه ثورية. شخصياته النسائية متحرّرة على الصعيد الجنسي والرغبات المختلفة، تتمتع بالعزم والإرادة والتصميم تماماً كالرجال. في غياب الكليات التي تدرّس التمثيل، وفي ظل افتقار التقنيات والبنية التحتية اللازمة، أنجز جورج أفلامه بجهد جبّار، حتى إنّه تولّى شخصياً تدريب الهواة الراغبين للوقوف أمام الكاميرا.

رغم وجود سيناريوات جاهزة، توقّفت عجلة الأفلام الروائية عند هذا الحد ولم يتطرّق إلى الحرب الأهلية. الأسباب كثيرة، يتعلّق بعضها بالإنتاج وغياب الدعم الرسمي عن قطاع السينما في لبنان (ما منعها من التحوّل إلى صناعة)، إلا أنّ السبب الأساس ظلّ رفض نصر معارضة قناعاته وركوب الموجة، فانصرف إلى إنجاز الدعايات والأفلام الوثائقية.

حياة جورج نصر ليست مجرّد حكاية صعود لسينمائي موهوب في المكان والزمان الخاطئين، بل قصّة لبنان بمجمله: فقدان جماعي للذاكرة، وأساطير عن هوية وطنية مفكّكة.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


حقوق النشر
مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)