رحيل الشاعر الفرنسي الكبير إيف بونفوا Yves Bonnefoy (1923 - 2016) - France

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 05-07-2016، العدد : 10327، ص(14)
الصفحة : ثقافة
العرب - أيمن حسن


رحيل إيف بونفوا آخر الشعراء الفرنسيين الكبار


يعيش الشاعر قلق الوجود وهوس الكلمات في حالات متعددة من الثبات والسكون وأيضا من التقلبات، فهو الرسام بريشة الأحاسيس، والفنان باللغة ودلالاتها المفتوحة. ميزة الشعراء هي تلك القدرة على إعادة تشكيل العالم برؤى مختلفة وطرق تبتعد عن السطحية لتوغل في اللغة العميقة وظلالها وتوغل في صيد الحالات الشفيفة والخارقة. ومن الشعراء الذين تركوا بصمتهم في المشهد الشعري العالمي إيف بونفوا، الشاعر الفرنسي المهووس بالرسم والأحجار وما يحفر عليها والمنحوتات، وهو المثقف الذي مزج في مغامرته الأدبية بين الشعر والرياضيات والمسرح والمنطق والتاريخ والفلسفة. بونفوا يرحل عن عالمنا بعد رحلة مع الإبداع أفضل ما ترجمها صلابة شعره الذي يشبه الحجر.

ولد إيف بونفوا يوم 24 يونيو 1923 في مدينة تور الفرنسية وتوفي بباريس يوم غرّة يوليو 2016، وهو يعتبر بمثابة أهم شاعر فرنسي اليوم، فمنذ إصداره أوّل كتاب شعري سنة 1953، تحت عنوان “عن حركة وثبات دوف”، ما انفكّ بونفوا يسائل الشعر، تحديدا ما يجعل من الشعر فعلا، وذلك من خلال قصائد وأبحاث ونصوص عن الفنّ والموسيقى وترجمات ومعاجم. وهي أعمال تجاوزت المئة عنوان وهي وليدة عصرها وأزماتها وتساؤلاتها لأنّ إيف بونفوا من الأدباء الذين يعون أنّ الأدب التزام حقيقي فما عادت الكتابة

نفسها بعد الحرب العالمية الثانية وبعد معارك التحرير والاستقلال ومايو 1968 وغيرها من الأحداث التاريخية.

وهذا ما جعله يكتب أنّ “جذور الشعر سياسية. إنّها استعادة حضور الآخر في حياتنا، وذلك الحضور هو عمود الديمقراطية. لا وجود للديمقراطية إلاّ في تحمّلنا مسؤولية كافّة تجليّات وجود الآخر”.

حلم نوبل

هذا الكلام وغيره جعل الكثيرين يحلمون بأن يطول عمر الشاعر كي يتحصّل على جائزة نوبل للآداب. إذ أنّ المطلعين على الأدب الفرنسي يفضّلون إيف بونفوا على الروائيين لوكليزيو وبتريك موديانو الفائزين بالجائزة سنة 2008 و2014.

لا سرّ في ذلك، لأنّ بونفوا يمثّل الفكر والأدب وخاصة الشعر الفرنسي بأتمّ معنى الكلمة وهو في الحقيقة إرث فرنسي يجعل، منذ هوغو وبودلير مرورا برامبو وملارمي وصولا إلى بول فاليري، من الشاعر رمزا إنسانيا، فهو قدوة فكرية وإبداعية وسياسية من خلالها يمكن الحكم على العصر وعلى ما فيه من محاسن ومن مساوئ في الآن نفسه.

كان بونفوا يمثل كل هذا، فقد درس الرياضيات والفلسفة كما اضطلع بتاريخ الفنون ممّا مكّنه من أن يُنتخبَ لمنصب أستاذ في “كوليج دو فرانس” سنة 1981، وهي مؤسسة عريقة بعثت في القرن السادس عشر في فترة عصر النهضة الفرنسية لتشجيع تدريس الرياضيات والعلوم واللغات بغية تجويد التعامل مع النصوص الدينية. كان انتخاب بونفوا مهمّا لأنّه أسّس لكرسي “الدراسات المقارنة في الوظيفة الشعريّة”، وبفضل ذلك مكّن الشاعر من بلورة دروس وندوات وحلقات تفكير حول الشعر والشعرية والفنون والجماليات بين اللغات والثقافات.

المطلعون على الأدب الفرنسي يفضلون إيف بونفوا على الروائيين لوكليزيو وموديانو، وغالبية النقاد انتظروا فوزه بنوبل

هوس الشعر

للشاعر مجموعة لا بأس بها من الكتب التي أوضح فيها نظرته الأكاديمية والثقافية والأنثروبولوجية للإبداع، مثل كتاب “اللامحتمل” و”الغيمة الحمراء” و”حقيقة الكلام ومقالات أخرى”، لكن لكتاب صغير صدر سنة 2007 تحت عنوان “الشعر بصوت عال”، وهو متكوّن من ثلاث محاضرات ومن حوارين، وقع خاص للمهتمّين بشعرية إيف بونفوا بصفة خاصة وبتطورات الحركة الشعرية في النصف الثاني من القرن العشرين بصفة عامّة “لقد نضجتُ في فترة من التاريخ لم تمكّن بعض الآخرين من الوعي بالمخاطر في رحم اللغة وفي الفخاخ التي يمكن أن تقع اللغة فيها، حتّى وإن كانت مهووسة بالشعر”.

لا يمكن فهم ما يقصده بونفوا إن لم نستحضر حكم الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو القائل إنّه “من البربرية كتابة الشعر بعد أوشفيتز”، وذلك لإرجاع الهيبة والقيمة لليهود بعد الهولوكوست بما أنّهم شعب الكتاب السّماوي الأوّل، لكن لشاعرنا رأي آخر، رأي ضارب في الإنسانيّة لا يسمح بتجريد البشر من نعمة الكلمة ومن نعمة الشعر لأنّ شعبا قرّر لأسباب أو لأخرى تدمير آخر. يقول إذن إيف بونفوا “بعد أوشفيتز، كان على الشعر أن يبدو أكثر ضروريّة من السّابق، كان يجب أن يبدو شرطا لا غنى عنه. من الناحية السياسية، بصفة خاصّة، كان يمكن للشعر أن يساعد على استرجاع القوى، على إعادة الاعتبار للفكر النقدي، على الدفع بالطموحات الكريمة للتعرّف على قيمتها في برامج سياسية أو ربّما في قرارات فعليّة. الخطر الوحيد يكمن في إمكانيّة أن يضع الشعراء فصاحة لغتهم في خدمة هذه البرامج مثلما تطلبه هي منهم”.

هذا إذن ما انتبه إليه بونفوا: كيفيّة الخروج بالشعر من برجه العاجي وكيفيّة تمكين الشاعر من لعب دوره كمواطن فاعل. لهذا السبب يرفض بونفوا الانحصار في خطاب أدبي أو أيديولوجي مغلق، كما يرفض السقوط في صراعات أو سجالات تخصّ الدين أو الإستيتيقا أو الفلسفة، لأنّ الموروثات، كلّ هذه الموروثات، حتّى السلبيّة منها، مهمّة لفهم الحاضر ولبناء المستقبل، لأنّ الماضي والتاريخ بنيا عليها. من هنا، تبدو مقولة المصلح إيراسموس التي تفيد بأنّ “الإنسان لا يولد بل يصير إنسانا” نقطة انطلاق ممكنة لفهم عوالم إيف بونفوا.

المسألة عند إيف بونفوا الشاعر والناقد والمفكر تكمن في الصراع الجدلي بين الحركة والثبات، وهذا موجود منذ عمله الشعري الأوّل حيث حوّل “دوف”، وهو في الأصل خندق مائي مجعول لحماية القلاع في القرون الوسطى، إلى شخصيّة آدميّة ورمزيّة، حيوانيّة وأحيانا معدنيّة، ليقف بنا أمام الموت ولينشد ما سمّاه “المكان الحقيقي”. هكذا إذن، توجد في أحد شوارع باريس، تحديدا في شارع ديكارت، قصيدة جداريّة مرفوقة بلوحة للفنّان الكبير بيير أليشنسكي، وهي ربّما محاولة مزدوجة من قبل الشاعر والرسّام للحوار مع البعض ومع المكان حتّى يصير أكثر إنسانيّة:

“أيّها العابر،

أنظر إلى هذه الشجرة الضخمة وعبرها،

يمكن أن يكفي.

لأنّها حتّى وإن كانت ممزّقة ووسخة، شجرة الشوارع

هي الطبيعة بأسرها، السّماء بأسرها،

العصفور يحطّ عليها، الرّيح تتحرّك فيها، الشمس

تقول فيها ذات الأمل، بالرغم من الموت.

أيّها الفيلسوف،

هل من حظّك أن تكون الشجرة في شارعك،

ستكون أفكارك أقلّ صعوبة، وعيناك أكثر حرّية،

ويداك راغبتان في ليل أقل”.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)