رحلة البحث عني، لوتس عبد الكريم (مصر)، سيرة ذاتية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٥ أبريل/ نيسان ٢٠١٤
جريدة الحياة
القاهرة - محمد الشاذلي


لوتس عبد الكريم... في رحلة البحث عن نفسها


أجمل ما في لوتس عبد الكريم أنها كتبت، أو عاشت لتروي، كما عنون الروائي غابرييل غارسيا ماركيز أحد كتبه. وهي اخترقت بحرية سواتر نسائية متراكمة، وتجرأت، بعدما انتهت بأصابع فارغة، على رغم الحياة الصاخبة التي عاشتها سنوات طويلة، الى أن تجمع ما كتبته من يوميات نشرتها أخيراً عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة في كتاب «رحلة البحث عني» (رواية حياة).

في السيرة الذاتية النسائية العربية إسهامات قليلة ربما أبرزها «سوانح فتاة» لمي زيادة وسيرة الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، والأوراق الشخصية للطيفة الزيات، ومذكرات نوال السعدواي في سجن النساء، وتجارب فريدة النقاش كسجينة سياسية، وأخرى لزينب الغزالي وهدى شعراوي وسواهن. لكنّ لوتس تجاوزت هذه السير التي يختلط فيها السياسي بالشخصي الهم الوطني أو القومي العام بالهموم الذاتية. فهي اعتمدت حصرياً على تجربة حياتها الخاصة كفتاة تحلم بمستقبل عريض، عاشت وسط عائلة من الإسكندرية، في أيام كانت تمتاز المدينة الساحلية بالتنوع واختلاط الجنسيات والأديان. لكنّ لوتس عاشت، رغم ذلك، تعاساتها المبكرة في فقد الأم وصلف الأب، ثم زوجة الأب، يوم كان خالها هو أمين باشا عثمان الذي اغتيل على يد جماعة كان من أعضائها أنور السادات. وحللت لوتس عشق خالها للبريطانيين وقناعته بالارتباط الأبدي بين البلدين كحلّ لمشاكل التخلّف في بلاده. ورغم سنوات المتعة التي عاشتها في بريطانيا أيّام الدراسة، إلا أنها لم تحبّها أبداً، كأنّ هذا جاء رد فعل قاسياً على الذات بعد كل ما جلبه حب هذا البلد الإمبريالي من نكبات أودت بحياة خالها في النهاية.

كانت لوتس تعرف أن ثمة ما ينتظرها، فسجلت يومياتها بشكل مكثف، وهي يوميات تنضح بصراحة هائلة. كأنها لم تكتب أصلاً لكي تحذف منها حرفاً. تحدثت بوضوح عن حياة متحررة كان يعيشها الشباب من أقرانها الذين زاملتهم في الدراسة في مدينة ويلز، واستحضرت أسفارها معهم في القطار عبر عواصم أوروبية، وتطرقت إلى الحديث عن حياتها مع زوجها الأول.

بدت لوتس فرحة بما تسجله في هذه اليوميات وتحكيه، فكتبت كلماتها مثلما خرجت من داخلها، ومن دون رتوش. لذا جاءت اليوميات أشبه بالاعترافات التي يمكن أن يسكبها الواحد في أذن راهب أو يستشير فيها شيخاً. من هنا، لا يغدو السؤال متى يكتب المرء سيرته ولكن متى ينشرها؟... فالمؤلفة كتبت كثيراً أثناء حدوث الوقائع نفسها ومن ثم جعلتها موضوعاً للتأمل، فكانت يومياتها شبه تعليق مباشر على الأحداث التي تمر بها وانعكاسها عليها. وربما تجمع لديها الكثير من هذه اليوميات، ولكن يبدو أنها ارتأت النشر، بعدما أصبح تاريخها ماضياً تاماً، وبعد رحيل كل الذين عايشتهم حباً أو كراهية، وباتت الأسماء المنتشرة في اليوميات، أو معظمها في عالم آخر.

نشرت لوتس رواية حياتها من دون تقسيمها إلى أبواب وفصول، فأعطتها نكهة خاصة من البوح السري المنسكب بلا حواجز مع القارئ، هي التي شكلت لغزاً في الحياة الثقافية المصرية لم يكن لأحد أن يفضحه سوى حكيها بالذات، هي المرأة التي عرفت أدباء وفنانين كباراً وأعلام صحافة ووزراء وملوكاً، وأصدرت مؤلفات عن بعضهم. لكنّ السؤال عنها مازال يتردّد: من هي هذه السيدة المرفّهة التي عاشت حياة الثراء والنعمة، وظلّت تبحث عن الحقيقة في عالم الأدب والفن؟

في هذا السياق، كان على كتاب «رحلة البحث عني» أن يجيب عن كل هذه الأسئلة مجتمعة، وأظنه فعل ذلك، لأنه رغم أنها صاحبة القلم، شرح الخلفية الثقافية والفكرية للكاتبة، وقدم رحلة معاناة حقيقية وإصرار على الارتباط بالثقافة والمعرفة وارتياد عوالم مختلفة. ثم الارتباط السلس بكتّاب كبار صاروا من معلمين إلى أصدقاء وحواريين. ووسط كل ذلك معاناة مع الزوج الأول السفير الكويتي في بلدان عدة، ثم الانفصال والارتباط بزوجها الثاني، فعمليات جراحية تُستعصى على العد. ومن ثمّ الارتباط بأسرة الملك الأخير لمصر فاروق الأول، وبالتحديد بزوجته الأولى الملكة فريدة وبناتها. وذلك هو الفصل الأكثر مأسوية في تاريخ تلك الأسرة الحاكمة التي اندثرت تقريباً. لقد أحب المصريون فريدة وسموا بناتهم باسمها كثيراً وحزنوا لطلاقهما وخرجوا في تظاهرات تتهم فاروق بالمجون والفساد، فكانت الصفحات عن أيامهم الأخيرة موجعة خصوصاً أن لوتس ارتبطت بهم وباتت محل أسرارهم حتى القبر. وللوتس كتابان عن العائلة المالكة: «الملكة فريدة وأنا» و«فريدة مصر.. أسرار ملكة وسيرة فنانة»... وصولاً إلى نهاية حزينة بفقد ابنها الوحيد. وصورت لوتس خلافاتهما الحادة وانقطاع التواصل بينهما وسقوطه صريع أمراض عدة. وامتلأت الصفحات الأخيرة بأخبار وحيدها، بلوعة أم على فقيدها ووجهت إليه أجمل عبارات رثاء وعتاب منحوتة من آلامها وأحزانها وشعورها بأن لا شيء يعود كما كان.

لم تتوقف لوتس كثيراً عند ما هو سياسي بل أوغلت في ما هو إنساني، هي التي عرفت إخواناً مسلمين وأقطاباً من النظم الحاكمة، رجعيين وثوريين. فقد كانت ابنة شقيقة أمين باشا عثمان وصديقة شقيقة عبد الناصر، اقتربت من الشيخ الشعراوي ومن فؤاد زكريا. لكنها في كل الأحوال قدمت شهادة عن حياتها وعصرها، وشرحت تجربتها كاملة بما فيها من نور وعتمة. أما فكرتها عما كتبته فكانت أنها تكتب خواطرها، ليست مذكرات أو سيرة ذاتية أو حياة ولكن مزيجاً من هذا كله، تقدمه باعتباره مقتطفات من حياة طويلة حافلة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)