أدب عالمي

ذو اللحية الزرقاء لبيرّو : يوم يُفتح باب غرفة الأسرار La Barbe Bleue de Charles Perrault

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس ٩ يناير (كانون الثاني) ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


من الأخوين الألمانيين الكاتبين غريم، الى الموسيقي الهنغاري بيلا بارتوك، ومن الفرنسي اندريه ارنست غريتري الى مواطنه اناتول فرانس، ومن جاك اوفنباخ الى السينمائي الياباني اكيرا كوروساوا، فتنت حكاية «ذو اللحية الزرقاء» عدداً كبيراً من الأدباء والفنانين. غير ان كلاً من هؤلاء وغيرهم عرف كيف يستحوذ على تفسير للحكاية يوافق هواه، وراح يصوغ انطلاقاً منه عملاً يحاول من خلاله ان يعكس أموراً معاصرة له ويعبر عن أفكار تشي بهمومه الفكرية والاجتماعية، وحتى السياسية في حقبة من الحقب. فحكاية «ذو اللحية الزرقاء» تبدو في نهاية الأمر حمّالة أوجه كما يقال عادة، تنتمي الى ذلك النوع الرمزي من الأعمال الفنية، النوع الذي يكون عادة من الشفافية بحيث يقول أموراً عدة من خلال ما يبدو على السطح وكأنه لا يقول غيره.

ولئن كانت حكاية «ذو اللحية الزرقاء» تنطلق من أصل واقعي مفترض، أي من حكاية ملك بريتوني (أي ملك على اقليم بريتانيا الفرنسي) يدعى كومور وعاش في أزمان غابرة، تزوج سبع نساء وقتلهن، لأن العرّاف تنبأ له بأنه ذات يوم سيقتل بيد ابن يُنجبه من واحدة من زوجاته، فإن الصيغة الأدبية الأساسية التي عادت الآداب والفنون ونهلت منها طوال ثلاثة قرون من الزمن وأكثر، كانت تلك المنسوبة الى الفرنسي شارل بيرّو، الذي يعتبر أحد أكبر الآباء الشرعيين للأدب الخرافي وحكايات الأطفال وحكايا الجن، هو الذي مرت من تحت قلمه معظم الحكايات التي نعرفها منذ طفولتنا، من «الحسناء النائمة في الغابة» الى «سندريلا» الى «عقلة الصباع» الى «فالكيري». ومع هذا، تظل حكاية «ذو اللحية الزرقاء» كما كتبها هو، قبل ان يحاكيها الآخرون بعشرات التنويعات المختلفة، أحد أشهر أعماله وأكثرها دلالة. ومن هنا لم يتوقف مؤرخو الأدب، ثم علماء التحليل النفسي عن الاشتغال على تلك الحكاية، التي لعل أكثر ما فيها سحراً، أنها تبدو للوهلة الأولى بسيطة عصية على أي تفسير معمق.

ولكن، قبل المرور على الترميز والمعاني، لا بد من الاشارة الى ان ما يسحر أيضاً في هذه الحكاية، انما هو خصوصاً اجواؤها وتصوير قصر الثري ذي اللحية الزرقاء، الذي تدور فيه الحكاية، بقاعاته الفسيحة، ومنها قاعة غطيت جدرانها بالمرايا تبدو أشبه بالقاعة الشهيرة في قصر فرساي، ثم بغرفه الكثيرة، وخصوصاً بغرفته السرية التي تشكل محور الأحداث.

أما الأحداث في «ذو اللحية الزرقاء» فخطّية المسرى، بسيطة للوهلة الأولى: ذو اللحية الزرقاء رجل ثري اعطاه القدر كل شيء: القوة والسلطة والجاه والمال. ولكن، لأن سعادة المرء لا يمكن ان تكتمل، أعطاه القدر أيضاً لحية زرقاء اللون قبيحة تجعل شكله منفّراً. ومع هذا، فالرجل مزواج كما يبدو، وهو، ذات مرة، على رغم كل الأقاويل التي تسري عنه، وعلى رغم قبحه، يقيّض له ان يغوي صبية حسناء بريئة تقيم في الجوار، ويتزوجها، من دون ان يكلف أحد من معارفها أو من الجيران نفسه بالتساؤل عما حل بالنساء الكثيرات اللواتي سبق لـ «ذو اللحية الزرقاء» ان اقترن بهن. بعد زواجه من الصبية الحسناء، يضطر صاحبنا ذات يوم الى مبارحة القصر لبعض شؤونه، وهو نادراً ما كان يفعل هذا في السابق. المهم، اذ يقرر الرحيل يعهد الى امرأته الصبية بمفاتيح القصر وغرفه قائلاً ان في وسعها ان تستخدم كل المفاتيح وأن تجول في الغرف كما يحلو لها، شرط ألا تقترب من، أو تفتح، غرفة معينة صغيرة المساحة، لم يتردد في اعطائها مفتاحها - في امتحان لها كما يبدو! -. ويسافر الرجل. وبعد لحظات يستبد الفضول بالزوجة، ولمجرد انه قال ان عليها ألا تفتح باب الغرفة الصغيرة، تتوجه الى تلك الغرفة بالذات وتفتحها وتدخلها، لتفاجأ بأن فيها جثث الزوجات السابقات اللواتي، يتبين لها أن «ذو اللحية الزرقاء» كان يتخلص منهن، واحدة بعد الأخرى، بالقتل. طبعاً تصاب المرأة بالرعب أمام هول ما ترى، ويسقط من يدها المفتاح الملطخ ببقعة دم من النوع الذي لا يُمحى أبداً. وهكذا، حين يعود الزوج، يكتشف بفضل نقطة الدم على المفتاح، ان زوجته لم تطعه وأن فضولها قادها الى الغرفة السرية فيقرر قتلها. وعند هذا الحد من الحكاية، تبدأ الأحداث بالتمركز حول المرأة وانتظارها تنفيذ قرار زوجها بقتلها وهي مسجونة في أعلى البرج. وهي هناك، إذ تنتظر القتل، تنتظر أيضاً أخويها، الجندي والفارس، وقد أرسلت تستنجد بهما. ومن هنا نراها في كل لحظة تلتفت الى أختها سائلة اياها: «آن، يا أختي آن، ألا ترين أحداً قادماً؟» (وهي العبارة التي صارت واحدة من أشهر العبارات في تاريخ الأدب، وصيغت من حولها أغنيات وحكايات، بل ان صموئيل بيكيت ابتكر جواباً قاسياً لها في مسرحيته «في انتظار غودو» حين يقول واحد من المنتظرين للآخر كاللازمة: لا شيء يحدث لا أحد يجيء). في نهاية الأمر، طبعاً، يتم انقاذ الفتاة ويكشف سر الزوج... لكن المهم بالطبع ليس هنا.

المهم في «ذو اللحية الزرقاء» هو الدلالة. فهذه الحكاية إذ توضع في اطار تاريخي ومعرفي محدّد، يبدو واضحاً انها تحمل - كما أشرنا - الكثير من الرموز والدلالات. ولعل أهمها ذلك المعنى الذي يطاول مسألة المعرفة، والفضول والعلاقة بينهما. فالذي يُطلب من الحسناء الصبية هنا ان تدفع ثمنه انما هو ذلك الفضول الذي يوصلها الى المعرفة. بالنسبة اليها كان من الأبسط والأسلم ألا يستبد بها فضولها وألا تعرف. ولكن هل كانت ستنجو الى الأبد، أم فقط في تلك اللحظة بالذات؟ هذا هو السؤال المهم. من ناحية أخرى، صحيح ان فضولها ومعرفتها أوقعاها في الفخ، ولكن، ألم يكن في وقوعها ذاك انقاذ للناس من بطش «ذو اللحية الزرقاء»؟ هذا نفسه يضعنا في صلب قضية المعرفة ممثلة هنا بسر زوجي لا يجب الوصول اليه، وبغرفة سرية على المرء ان يغامر ويخاطر حتى يدخلها. ان «المكان السري هو حيز المعرفة بامتياز»، فهل علينا ان نصل اليه معرّضين أنفسنا للخطر، أم علينا ان نبقى بعيدين منه آمنين؟ ألا يذكرنا هذا كله بحكمة الشاعر العربي القائلة: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»؟

شارل بيرّو، الذي يعتبر واحداً من المؤسسين الحقيقيين لأدب الأطفال - على رغم عمق دلالات القسم الأعظم من حكاياته -، ولد في باريس في العام 1628، ودرس فيها حتى صار محامياً اعتباراً من العام 1651، ثم مفتشاً عاماً لدى الدولة أيام كولبير الذي رعى أسرة بيرّو بأسرها. ولسوف يمضي بيرّو حياته المهنية كلها موظفاً كبيراً في الدولة، لكنه في الوقت نفسه وبفضل كتاباته يشتهر أيضاً ككاتب ويعلو مقامه في هذا المجال حتى يصبح عضواً في الاكاديمية الفرنسية. وهو في الوقت نفسه ساهم في تعزيز السياسة الثقافية والفكرية المنفتحة نسبياً، التي اتبعها لويس الرابع عشر خلال بعض حقبات حكمه الطويل. وكان بيرّو هو الذي أطلق، بفضل ذلك، السجال الحاد الذي ثار في زمنه بين القدامى والمحدثين، ما جعله يقف في مواجهة بعض كبار المجددين من أمثال بوالو وراسين. غير ان هذا لم يمنعه من مفاجأة الأوساط الأدبية بكتابته الحكايات والقصص الماكرة التي جمعت في عنوان «حكايات وقصص من الزمن الماضي تتضمن وعظاً وحكماً». وهي ماكرة لأنها أتت محمّلة بأفكار في الأدب والسياسة والمجتمع بل بتحليل الذهنيات، ما يتوجب التنقيب عنه في ثنايا المعاني والسطور، ولا يزال بعضها ألغازاً تقرأ وتبحث حتى اليوم... بالتواكب مع السحر الذي مارسته الحكايات على أجيال وأجيال من القراء، وهو سحر متواصل لم يكن شارل بيرّو ليعتقد، حين توفي في العام 1703، انه سيتواصل طوال قرون بعد موته، وأنه سيكون أساساً لبعض أعظم نصوص الأدب، ولبعض انماط التحليل النفسي في القرن العشرين.

عن موقع جريدة الحياة

 سيرة حياة شارل بيرو
 حكاية «ذو اللحية الزرقاء» بالفرنسية


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)