خمسون غراما من الجنّة، إيمان حميدان (لبنان)، رواية دار الساقي - 2015

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8459 الاثنين 9 أيار (مايو) 2016 - 2 شعبان 1437هــ
منصف الوهايبي


إيمان حميدان في «خمسون غراما من الجنّة»: مفتاح الجحيم البيروتي


هذه رواية محبوكة حقّا، بل هي «نسقيّة» مكتوبة بحرفيّة عالية، تنمّ عن خبرة بالرواية والسينما والرسم، لا تخفى، لا بسبب الإشارات الخاطفة فيها إلى السينما؛ وإنّما بنيتها هي بنية السيناريو أو تكاد.

وهي تغري كلّ من يروم القيام برحلة استكشاف سيكولوجي داخل ملكوت بيروت الحرب الأهليّة وما بعدها، وهو عالم معتّم. ولكنّ إيمان حميدان تقودنا بتؤدة ، في ضوء مصباح سحريّ، من مكان سائل إلى زمان متجمّد، ومن زمان سائل إلى مكان متجمّد. وسواء قاربنا هذه الرواية سيكولوجيّا أو موضوعيّا، أو غير ذلك من كوى شبكة القراءة، فإنّ ما تقدّمه يتمثّل أساسا في جعل اللّعب الفنّي، أو الجمالي رابطا بين عالَم الفنّ وعالَم الواقع؛ وذلك ما حدا بنا إلى أن نصف الرواية بكونها نسقيّة. وهذه كاتبة تهتمّ بالمتعة الجماليّة قدر اهتمامها بمسألة الخلق من منظور أستيطيقي «سينمائيّ». بل أجدني أحيانا في لوحة تشكيليّة تناظر لوحةُ ماغريت مفتاح الحقول التي رسمها سنة 1936: مشهد طبيعيّ من وراء نافذة وقد تكسّر زجاجُها. على أنّ الممتع أنّ شظايا الزّجاج المكسَّر المنثورة على الأرضيّة تحملُ بعض مقاطعَ من المشهد الذي كانت تُبينُه وتبْنيه؛ قبل أن تتشظّى، من دون أن تكون هذه المقاطعُ قد اجتزأت من المشهد الطّبيعيّ. وهذا من شأنه أن يثير قدرا غير يسير من اللّبس والغموض على صعيد العلاقة بين الدّاخل والخارج، بين الواقع والوهم. وثمّة في هذه الرواية، حركة بصريّة يتداخل فيها الرّسم والسينما والمشهد المديني؛ في لعبة متقنة تكاد تحجب عنّا فرْز البصريّ الطّبيعي أو الواقعي من البصريّ المتخيَّل. الأمر الذي يقتضي من القارئ إعادة بناء ما تقدّمت قراءته: بيروت آب/أغسطس 1978 إلى 1994 حيث تستوقفنا شخصيّة نورا الغامضة التي يطاردها قاتلها قبل أن يجهز عليها بكاتم للصوت، منذ خروجها من السفارة التركيّة، وهي تبحث عن سيّارة أجرة توصلها إلى بيت صباح حيث تركت طفلها. ولكنّنا لا نعرف سبب المطاردة، ولا سفارة أيّ بلد هي، ولا عن حلمها بأن تكون كاتبة، إلاّ في الفصول الموالية، حيث تظهر مدن وشخوص أخرى، ونتعرّف إلى نورا من «يوميّاتها»، وهي التي لم تعرف كيف تصفّي حسابها مع الماضي: انتحار شقيقتها هناء بعد أن حبلت من ضابط تنكّر لها، وظاهرة الانتحار في العائلة، ونشر قصّة هذا الانتحار، وخروج والدها البعثي القديم من السجن «نصف رجل»، وذكريات عن سوريا (جبل العرب ودمشق) والحبيب السابق اللاجئ السياسي في السويد، ومايا العائدة وطفلها من باريس إلى بيروت بعد موت زوجها زياد الذي تعرّفت إليه في باريس عام 1985، وبيروت التي يحكمها الصمت والخوف «الخارجة من نفقِ حرب طويل»، أو «خطّ التماسّ بين البيروتيْن»، واغتيال كمال جنبلاط، والحرب بين الجيش اللبناني وفلسطينيّي المخيّمات، وحركة فتح… واستانبول والحزب الشيوعي المحظور، وتركيا العسكريّة إبّان حكم رئيس الوزراء عدنان مندريس… بل نحن لا نفكّ عنوان الرواية الآسر «خمسون غراما من الجنّة» إلاّ في الصفحة الثالثة والسبعين في رسائل استانبول التي ترويها لنا مايا، و«كان عليها كلّ مرّة أن تنتقل من رسائل كمال فرات إلى يوميّات نورا أبو صوان لتربط بين الحوادث والأزمنة، كي تولد الحكاية..».، وفي إحداها ننتقل إلى القاهرة، وإلى خان الخليلي «هناك رأيت عطّارا يبيع العطور… شممت عطرا من قارورة صغيرة انعكست عليها ألوان قوس قزح.. فجأة سمعت العطّار يسألني بالإنكليزيّة وبلكنة مصريّة ظريفة:

ـ كم تريد يا سيّدي؟ هل خمسون غراما من الجنّة تكفي؟… قال غراما ولم يقل ملليمترا… ماذا يهمّ، قلت في نفسي… يكفي أنّه يعرض عليّ الجنّة، وما يعرضه كثير عليّ يا حبيبتي… كثير… يكفيني غرام واحد من جنّتنا معا».

ومن المفيد أن نذكّر بأنّه بميسور أيّ سارد أن يعرض علينا أو يقــــدّم لنا لقطات أو مشاهد أو حوارات ناطقة نابضة بالحياة، حتى لو حدثت في أزمنة بعيـــــدة أو سحيقة. ومثل هذه القدرة لا تمتح أمشاجها وعناصرها من « ذاكرة قويّة» فحسب، وإنّما من « ملـَكة أدبيّة» تتيح للسارد/ الساردة، أن تندسّ في سريرة الشخصيّة، لتجلوها في مجْلى الظاهر أو الواقع، أو محتمل الوقوع. والسارد ليس المؤلّـــف بأيّ حال من الأحوال، وإنّما هو «دور» يختلقه المؤلف أو هو يتبنّاه. و»الأنا الاجتماعيّة» ليست «الأنا الإبداعيّة».

بَيْدَ أنّ هذا لا يسوق إلى القول بـ«أدبيّة» خالصة؛ فخلف كلّ نظام أدبي يختفي نظام ثقافي، والأدبيّة نفسها كثيرا ما تتحدّد من خلال «اللاأدبيّة»، وتجذير الخيال في الواقع، قد ينهض له سند في واقعيّة المرجع.

ويتمثّل هذا العمل في صنع جهاز سرديّ شامل يندرج فيه السارد: الحبكة والشخصيات والموضوعات والأسلوب، بما في ذلك تخيّر سارد مغمور، أو شخصيّة تتّخذ وضعا مواربا أو هي مهذارٌ لا تؤتمن على سرّ. وهذه كلّها تؤول إلى «خطّة» أو «سياسة» أو ما يسمّيه المعاصرون «استراتيجيا الكتابة»، وإلى مقصد هو مقصد المؤلّف بهذا المعنى الحصري للكلمة. وهذه رواية يتعدّد رواتها، وكلّ منهم هو المتكلم يعبّر عن ذات أو ذوات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبه أو خطاب ثمّ ينتقل في كلامه ذلك فيعبّر بطريق آخر من تلك الأوجه الثلاثة، أو يعبّر عادلاً عن أحدها الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها. وهو ما يسمّيه بلاغيّو العرب «الالتفات». هذه الرواية في تقديري رواية «الذاكرة المخذولة» أو النسيان من حيث هو «ذاكرة مقلوبة سالبة». والمقصود بالنسيان في السياق الذي نحن فيه، «الترميم» أو هذا الشكل أو ذاك من أشكال حضور الغائب، أو هو ضرب من استخفاء الأثر. ويمكن أن نرى في هذا التّنويع الروائي تعبيرا عن همّيْن متكاملين: همٍّ يغلب عليه الطّابع التأمّلي الاستقصائي، وهمٍّ يغلب عليه الطّابع الجماليّ. أمّا الأوّل فيتعلّق بالمسافة بين التّشكيل الفنّيّ والواقع، وأمّا الثّاني فيخصّ جماليّة الكتابة عند إيمان حميدان، ولكن ليس لنا أن نقيس الأوّل بمقياس المحاكاة في دلالتها التّقليديّة، من حيث هي استحضار أو تمثّل للطّبيعة أو للواقع. وهذه الرواية تعيد بناء بيروت وهي تشظّيها بمهارة. والمحاكاة ها هنا ليست مجرّد تخييل للمدينة، وإنّما هي نفسها قد تمّ تخييلها. ونخلص من ثمّة إلى أنّ الرواية ليست رسما لواقع، وإنّما هي رسم لنفسها، أو هي لا تحاكي واقعا «متخارجا» عنها أو متناسلا منها، وها نحن مرّة أخرى نعود إلى تلك المعادلة، حيث اللّغةُ تقول اللّغةَ، لنقول إنّ الرواية تقول الرواية، أو على نحو أدقّ: تعود إلى نفسها ولها وعليها. وهذا ما يسوّغ مقاربتها من منظور إنشائيّة الفنّ «اللّعبيّة»؛ أعني تلك التي لا تكمن فقط في مقايسة ما يقيمه الفنّ ويبنيه؛ بمقياس الجمال. ولو فعلنا لبقينا حبيسي أستيطيقا كلاسيكيّة إلى حدّ ما. واللعب ينتظم هذه الرواية الفريدة حقّا بدلالات أخرى من بينها كونه يضطلع بنفي الوظيفة التي نلحقها عادة بالأشياء التي يتدبّرها الفنّ في مجاله. فضلا عن أنّ الرواية المعاصرة لا تتهيّب الحدود التي تفصل تقليديّا بين عالَم الفنّ وعالَم اليوميّ والسّوقيّ والوظيفيّ. ومثل هذه الاختراقات تثبت ما للفنّ الروائي من اقتدار على أن يُدرِجَ ضمنه ما هو أكثر غرابة عنه. ونقدّر أنّ إيمان بصنيعها هذا، تختبر قدرةَ الكاتب/ الكاتبة على مواجهة العالَم، وبشكل خاصّ، عالَم الفنّ نفسه.

أجدني في خاتمة هذه الورقة التي لا تفي الرواية حقّها، أعود إلى ماغريت ولوحته «مفتاح الحقول». فمن هو الذي كسّر زجاج النّافذة؟ وبمَ كسّره؟ وهل قام بذلك من الدّاخل أم من الخارج؟ فإذا كان قد كسّره من الدّاخل فلا بدّ أنّ بعض الشّظايا قد انتثرت في الخارج! والمرجّح في هذه الحالة أنّ أداة التّهشيم ستكون موجودة في الخارج! لكن يبدو أنّ هذا الفعل لا يمكن إلاّ أن يكون قد تمّ من الخارج. على أنّنا لا نرى في الدّاخل أداة التّهشيم، وقد لا يكون ضروريّا أن نراها. ولعلّها ألقيت بقوّة، أو في غفلة. وهو اعتراض أو افتراض كان يمكن أن يكون وجيها؛ لو أنّ شظايا الزّجاج انتثرت بعيدا أو على مساحة أوسع ممّا هي عليه. و»خمسون غراما من الجنّة» لوحة روائيّة، ليس من حقّنا أن نقيسها بالواقع الفعليّ؛ والذي كسّر زجاج النّافذة لا يعدو أن يكون غير ماغريت نفسه، وقد كسّره بواسطة ريشة الرّسم لـ»غاية في نفس يعقوب». والذي شظّى هذا الواقع البيروتي إنّما هي الكاتبة نفسها. وليست هذه القراءة الخاطفة سوى محاولة لسبكه أو لحم أجزائه.

ـ إيمان حميدان «خمسون غراما من الجنّة» ـ دار الساقي 2015

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد القدس العربي للمقال بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)