خمسون غراماً من الجنة، إيمان حميدان يونس (لبنان)، رواية دار الساقي - 2016

, بقلم محمد بكري


 «خمسون غراماً من الجنة» للبنانية إيمان حميدان: تفاصيل الحرب والضياع


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون ـ العدد 8378 الجمعة 10 شباط (فبراير) 2016 ـ 1 جمادي الأول 1437هـ
هاشم شفيق - كاتب عراقي


تلتقط الروائية اللبنانية إيمان حميدان في روايتها الجديدة «خمسون غراماً من الجنة»، موضوعاً روائياً شائعاً ومتداولاً ومطروقاً من قبل في الرواية العربية المعاصرة والحديثة، ألا وهو موضوع العثور من قبل أحد الشخوص الروائية، أو أحد أبطالها المركزيين على لقية أو كنز، أو تدوينة سردية ووثائق ورسائل ومعلومات، لتكون عماد العمل الروائي المنوي كتابته ومفتاحاً باهراً في وسعه فتح مغاليق كثيرة وإزاحة ستائر مسدلة على عوالم ماضية ومندثرة. وهكذا يتم بطريق المصادفات الحياتية، وما أكثرها، العثور على حياة أخرى منسية في حقيبة أو غرفة أو في مكان آخر، في وسعه حفظ القرينة والدليل والمعلومة المنسية.

الروائية إيمان حميدان في روايتها هذه تلج هذا العالم لتكتشفه ومن ثم تبني عليه رؤاها وأخيلتها الفنية والجمالية والتعبيرية، في نسق سردي مختلف وجذاب، وفيه تمايز عما سبق وقيل في هذا المضمار من الكتابة، مؤسِسة بذلك عالمها الخاص في الكتابة، ملتقطة زاوية شيقة ومغايرة في عملها الروائي الجديد .
تتحدث الرواية «خمسون غراماً من الجنة» بضمير الغائب، والمتحدث هنا هو مايا، الشخصية المركزية في الرواية التي تتبادل الأدوار مع شخوصها، متحدثة بضمير الأنا، أو بتدوير اللسان في الرواية بين المخاطِب والمخَاطب، الآخرَين، أو بين ضمير الأنا نفسه وأناه الداخلية، في سياق من المونولوغ ليرتفع في مكان آخر ويصبح ديالوغاً مع شخصية ثانية، مستغرقة في شأنها النفسي ومصائبها العديدة، مثل شخصية البطلة مايا التي تفتتح مونولوغها مع اختها عبر التلفون في بيروت، هي المقيمة في فرنسا مع زوجها الذي أصيب بالسرطان وليس لها من حلّ سوى المناجاة البعيدة واللجوء إلى أقرب الناس إليها، لبث معاناتها اليومية ومعاناة زوجها مع الداء الخبيث الذي سيودي به في النهاية، لتقنعها اختها بمغادرة باريس والعودة إلى لبنان النافض عنه تواً، غبار الحرب الأهلية التي امتدت إلى ستة عشر عاماً.

في الحقيقة مايا لم ترد أن تنصاع لإرادة ما، كون أن لها شخصيتها وقوة الإرادة وتمتعها بقدْر من الحزم والشكيمة وقدر واسع من المسؤولية تجاه عملها وتجاه ولدها الوحيد شادي، الذي بدأ ينشأ في عالم غربي مختلف وبعيد عن لبنان. مايا التي لديها شغف بالكتابة والتصوير السينمائي والتدوينة السردية القابلة أن تتمظهر في سيناريو وحوار سينمائي، ستسارع إلى الانتقال لممارسة مشروعها المطروح عليها من قبل، أثناء إقامتها المشتركة مع زوجها الراحل وهي في باريس، لكن القدر هو الذي سيدفع مايا لترك باريس نهائياً والعودة إلى لبنان لغرض الإقامة ومواصلة العمل الذي تحب.

من هنا بدت مايا منشغلة في بيروت بعملها هذا، مع صديق قديم مقبل على مشروع لتصوير بيروت وتوثيقها، قبل إعادة بنائها من جديد وفق مشروع السوليدير الإحيائي والإعماري، الذي تبنته شركات عدة من أجل نهوض بيروت مرة أخرى لمواجهة الحياة والعصر والعالم الحديث وتجديد وتأهيل وبناء ما دمرته الحروب.
تبدأ الرواية فصلها الأول بطريقة التداعي الحر، ذلك التداعي المستمد سرديته من الرسائل، وهو عبارة عن مشهد تظهر فيه نورا الصحافية والكاتبة المطاردة من قبل المخابرات السورية في بيروت عام 1978 . المنطقة هي المزرعة ونورا تحاول الوصول إلى السفارة التركية لغرض الهجرة. نورا سورية، وكانت طالبة جامعية، غادرت دمشق بعد تعرض والدها للسجن لمعارضته لسلطة البعث التي تحكم سوريا، وتعرّض أصدقائها للاعتقال للسبب نفسه وانتحار اختها هناء التي اغتصبها ضابط سوري فحملت منه، وسفر صديقها بعد أن دبّرتْ له مأوى في المنفى السويدي. نورا قاصة كتبت قصة اختها ونشرتها على الملأ في مجلة لبنانية، فصارت المخابرات السورية تترصّدها في بيروت حتى ظفرت بها وقتلتها بكاتم صوت في المنطقة الغربية من بيروت.

في الفصل الذي يليه ستتغير متلازمة المكان والزمان، لنكون بعد صفحات قليلة في عام 1994 في باريس، الشهر هو حزيران/يونيو، المشهد هنا مختلف تماماً عن ذلك المشهد الذي أرادت به الروائية حميدان لفت القارئ إلى عامل الصراع الذي ستدور حوله الرواية.

حين نكون في باريس سنرى أن علاقة مايا بزوجها زياد أخذت تتردى، كون زياد راح في تلك الأيام يبتعد عن فراش الزوجية، كان ذلك بسبب مرضه وعدم قدرته على المعاشرة الزوجية، لكن مايا كانت تتوقع أن زياداً إما يخونها مع إحداهنّ، أو أنه بدأ يملّ منها، بيد أن المسألة برمتها لم تكن كذلك، حيث تتلخص في مرض زياد الذي بدأ ينتشر في جسمه. مايا ستقف إلى جانب زياد في المستشفى عله يشفى، لكن القدر كان واقفاً له بالمرصاد.

تحت وطأة هذا المصاب الكبير ستترك مايا باريس إلى لبنان، وهذا ما يوضحه الفصل الذي سيلي الفصل الآنف. في بيروت ستشرع مايا في البحث عن داني إلى أن تعثر عليـه، لتلتقيه في الأشرفية هو وصديقه أرنست، بادئة العمل في الفيلم الوثائقي.

وفق هذا السياق وإبّان تصويرهم للفيلم، تعثر مايا عن طريق المصادفة على حقيبة في أحد البيوت المهجورة في وسط بيروت ومركزها، هناك سيبدأ داني بتصوير تلك الأماكن التي هجرها أهلها أثناء انطلاقة الحرب الأهلية في عام 1975 فما فوق، وغادروها إلى مدن العالم. التصوير سيكون في منطقة رياض الصلح وما جاورها من بيوت مهدمة، ومدمّرة، وشركات معطلة ومقفلة وخَرِبة، بعض الأماكن لُغِّمَتْ بين أطراف الصراع الميليشياوي وغياب الدولة، هناك عثرتْ مايا في أحد البيوتات الشرقية القديمة، على كنزها .تتقن إيمان حميدان ترسيم الأحداث كمشهد سينمائي، لغة الرواية شفيفة، متقشفة في الوصف، واللقطات المشهدية بين وحدة سردية وأخرى، محسوبة، ولها وقعها على ذهن القارئ، الذي سيتلهف ويأخذه الشغف لمعرفة الأسرار الدائرة في الأوراق والوثائق والصور التي عثرت عليها مايا. إنها تكاد تصف نفسها حين تتحدث عن نورا التي ذهبت هدراً، ستكشف لها الأوراق وهي عبارة عن رسائل بين نورا وحبيبها في تركيا، عن شخوص عديدين سيظهرون في الرسائل مثل صباح وصديقها أحمد الذي تعشقه بقوة الحب الذي سيمنحها عبر مرافقتها له على دراجته النارية «خمسون غراماً من الجنة». ومن ثم زواجها من أحمد، زوجها الآخر الذي سيموت بسكتة قلبية، ويتركها لتفتح كشكاً لبيع السكاكر وما شابه، لكي تعتاش من خلاله هي وولدها كريم الذي ستكشف الأوراق عبر مايا أنه ليس ابنها، بل ابن نورا التي اغتيلت في بيروت في نهاية السبعينيات .

عبر هذا المسار السردي وتبادل الروي بين الراوية ومايا، سينتقل الحوار بين نورا وكمال عبر الرسائل، وبين صباح التي ستبحث عنها مايا لتجدها عبر رسالة تتحدث عن الخندق العميق في بيروت وعن صباح التي توجد في هذا المكان، لكن مايا لا تعدم وسيلة في البحث عنها، حتى تصل إلى صباح عبر مختار المنطقة، بعد سلسلة من البحث المضني، متوصلة عبرها إلى كل ما كان يدور في ذلك البيت وما جاوره، مخترقة بذلك حجب الأزمنة ومستحضرة عوالم المكان القديم وشخصياته الكثيرة. مايا التي وجدت نفسها تتماهى مع شخصية نورا، إذ كلاهما كاتبة، وكلاهما لديها المشاعر والأحاسيس العاطفية ذاتها، وحتى تولعهما بأشخاص ورموز زمنهما، فنورا كانت مولعة بغاغارين الروسي رائد الفضاء وتجمع تفاصيل عنه لتكتب كتاباً، وكذلك مايا هي الأخرى مولعة بأسمهان وتفاصيل حياتها ونهايتها المأساوية، ساعية إلى تأليف كتاب عنها، وكذلك ولوع نورا بكمال وحبهما يذكرها بتفاصيل كثيرة هي كانت قد عاشتها مع زياد زوجها الراحل، هذا عدا افتتانها بلغة كمال إلى نورا وتولد شعور من الود نحوه، عبر رسائله الرومانطيقية، كل ذلك يدفعها إلى البحث عنه والتعرف عليه، وكشف هوية صباح وحياتها السرية الأخرى، حين كانت تبيع جسدها في فترة من الفترات، وانتشال كريم من عالم الضياع، كونه حياً ولم يمت في الانفجار الذي زعمت صباح إلى كمال المقيم في تركيا، بأنه كان مع أمه نورا في لحظة الانفجار ورحل معها.

كُتب الكثير عن الحرب اللبنانية وصدرت روايات باتجاهات وأنسقة مختلفة ومتباينة فنياً وأسلوبياً وتقنياً في رؤيتها التعبيرية في ما بينها، ورواية إيمان حميدان تنضاف إلى هذا الجمع من الروايات، وهي أيضاً قدمتْ خطابها الجمالي وآليات عملها السردية بطريقة متميزة ومغايرة ومختلفة عن الآخرين.

لكن ما يؤخذ على الرواية هو وقوعها في خطأ فني يتعلق بالزمن، وهو يتلخص بلحظة مجيئها إلى بيروت وذهابها لمقابلة داني لغرض التصوير وتسجيل الملاحظات، فمايا تصف وقت ذهابها بشهر يونيو عندما تضع ابنها في الحضانة وتذهب لعملها إلى وسط بيروت، وهناك حين تكتشف الحقيبة ويتم تصوير بعض اللقطات الوثائقية تعود بسرعة، أي بعد ساعتين أو أكثر، لتصف الزمن بشهر آب/أغسطس، ففي البدء تصف الجو بأنه «كان لطيفاً رغم حرارة حزيران» لحظة جلوسها في مقهى بانتظار داني وحين تنتهي لتعود إلى ابنها تقول واصفة الزمن بعد صفحتين «إنه شهر آب وبيروت بدأت لا تطاق».

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



 إيمان حميدان روائية الحب والحرب و... الخسارة


جريدة الحياة


الخميس، ٢٨ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٦
جريدة الحياة
لندن - مودي بيطار


يطغى الخطاب النسائي على رواية «خمسون غراماً من الجنة» الجميلة لإيمان حميدان الصادرة عن دار الساقي، بيروت، التي تستكشف الحب، الحرب، الخسارة والفرص الثانية بنثر ندي، رهيف، تتقاطع فيه حياتان وتتكاملان بشراكة جديدة وحساسية قوطية قاتمة تذكّر بـ «وَذَرينغ هايتس» لإميلي برونتي. تركّز الكاتبة على تصاحب القمعين الصارخين، النسائي والسياسي، عبر قصتين رئيستين ترفدهما أحداث لنساء قريبات وعابرات. يتوازى مساران سرديان تقطعهما حميدان باليوميات والرسائل التي تعود الى ماضٍ قريب، ويتسّع المدار المكاني لينتقل بين لبنان وسورية وتركيا. المكان «الآخر» يزوّد نورا الزائرة ومايا العائدة بعين جديدة فضولية يتعرف معها القارئ الى شيء من تاريخ تركيا ومناطق من بيروت، ومشهدها الصاخب قبل الحرب الذي جعلها مرجلاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً لنورا الهاربة من سورية. ولئن نبضت التفاصيل البيروتية، والى حد ما الباريسية، حضر المشهد التركي عاماً من دون إيحاء بعلاقة خاصة بالمكان.

تخرج نورا من سفارة في بيروت في يوم لاهب من آب (أغسطس) 1978 وتسمع الرشقات النارية وصفارات الإنذار. يطاردها شوقي، ضابط الاستخبارات السوري، في سيارة، وينعتها بالعهر والجاسوسية. تفكر أنها نجت منه في الماضي وستنجو الآن أيضاً، وتقول إنها لن تكتفي بنشر قصة شقيقتها معه، بل ستكتب أيضاً قصص الأصدقاء وزملاء الجامعة الذين اختفوا في السجون. ترغب بالعودة سريعاً الى طفلها الذي تركته مع صباح، لكنه يقتلها وينقلها الى منطقة الفاكهاني حيث تُعتبر من ضحايا انفجار هناك. حلمت نورا بأن تكون كاتبة منذ طفولتها، لكنها أحرقت كل ما كتبته قبل مغادرتها دمشق في فعل ذي دلالات متناقضة. كان انتحاراً صغيراً وحماية من الموت في آن. في بيروت نشرت قصة شقيقتها هناء التي حملت من شوقي، وانتحرت بالديمول حين رفض الزواج منها.

كثيرات من نساء العائلة انتحرن أو حاولن الانتحار قبلها، فانتقمن من الظلم بظلم أنفسهن وفق نورا. لا تذكر سبب انتحارهن، لكن ممارسة النساء الجنس قبل الزواج حق طبيعي في الرواية بلا تساؤلات قبلها وبعدها. تكتب هناء لشقيقتها إنها كانت تنسى شوقي فور ابتعاده عنها. «كنت أشتهيه، وكان الجنس معه يشبه كسر الجوع» (في الصفحة 120). تقول نورا لكمال بعد لقائهما الجسدي الأول إنها ليست مغرمة به، لكن العلاقة معه مريحة لا توجع الرأس (الصفحة 141). صباح تهرب في الثالثة عشرة مع أحمد، وتبقى معه عشرين يوماً كانت أجمل أيام حياتها. الشابة الحامل على الرصيف البحري في بيروت تقتل في «جريمة شرف» بعد دقائق من رؤية مايا لها، فتنهار هذه على مقعد وتبكي. يرفض الشيوخ الصلاة على جدة نورا الأرمنية الأصل، لكي لا يحرقوا في نار جهنم، مع أن عائلة مسلمة تبنتها وهي في السادسة. والدة كمال زميلة والده في الحزب الشيوعي، لكنه يعاملها في البيت كخادمة. ولكن، ثمة «تصعيد» وتكرار للوضع النسائي في «خمسون غراماً من الجنة»، واعتداء شوقي على صباح مثلاً يبدو مجانياً وزائداً فنياً.

تعود مايا في صيف 1994 الى بيروت من باريس بعد وفاة زوجها زياد بالسرطان. يدفن في بلدته الجنوبية، وتقلق مايا من مطالبة أهله بابنهما شادي وتفكر بالعودة. ساءت علاقتها بزياد قبل مرضه، وليس أكيداً سبب التباعد الذي أدى الى عزمهما على الانفصال. هل يكفي قولها إن العواطف تتغير وهو يمارس الجنس معها ويقول إنه يحبها؟ تقولها كأنها في مكان آخر، وتخيفه كلماتها ربما لأنها صورت مشاعره (الصفحة 29). يتجنّب العلاقة معها فتخلع ثيابها في فعل مجاني أمام برونو، المخرج الذي تعمل باحثة معه، وتسأله إذا كانت امرأة. «ما الذي حدث حتى تحولت الشهوة كل مساء الى رمادٍ بيننا، وبتنا مع كل صباح نقتل الحب، وهل كان علينا قتله كي نؤكد وجوده؟» هل تضع حميدان الكلمات على لسان بطلتها، أو أن هذه العبارة الأدبية ممكنة من مثقفة تعيش في وسط باريسي يحكي كما يفكر؟ ما لا يصدقه القارئ بالتأكيد قول صباح الأميّة: «الدم اللي شفتو تحت، وهون وهون. شفتو كل يوم عم يسيل، دم من كل الجنسيات والطوائف. دم من كل الأعمار (...) يمكن الدم نشف صحيح بس شو بعمل بالبقع السودا الباقية هون جوا بقلبي؟» (الصفحة 107). و: «جنتي وجهنمي على هالأرض (...) وإذا جبروني روح، رح أطلب بيت صيفي بجهنم. كل أحلامي هونيك» في الصفحة 130. و: «بلى عندي قلب، واسمو الخوف» في الصفحة 209. وقول جدّة نورا: «الأمكنة التي تقيمين فيها مرايا لك، أينما ذهبت اجعلي المكان مكانك، وحافظي على أشراقة الروح» في الصفحة 150.

لا يشكّل اختلاف الدين بين مايا وزياد مشكلة، ونعرف ذلك عرَضاً من شقيقتها في إشارة الى تجاوز الجيل الشاب تأزّم التقليديين حياله. في بيروت تعمل مايا في فيلم عن إعادة الإعمار، وتعثر على حقيبة في ركام وسط المدينة. تجد فيها رسائل من الصحافي التركي كمال فرات الى نورا أبو صوان، ويومياتها وصوراً ليست بينها واحدة لها. تتشكّل قصتهما أمامها، وتجد فيها توازناً تفتقده. تشعر برابطة مع كمال حين تقرأ رسائله، وترغب في رؤية الرجل الذي عشق امرأة بهذه القوة رغم المسافة بينهما. تلتقي المرأتان في الاهتمام بشخص شهير قضى في العقد الثالث في ظروف غامضة. تعدّ مايا لكتاب عن أسمهان التي توفيت غرقاً في حادث سيارة، وتجمع نورا مقالات عن يوري غاغارين، أول رائد فضاء دار حول الأرض، الذي توفي في حادث سقوط طائرة تدريب حربية. تلتقي نورا كمال في إسطنبول منتصف السبعينات أثناء إعدادها برنامجاً عن المعارضة التركية، ويكتب لها حتى مقتلها في صيف 1978. تزوره وتترك شالَها وقميصها في بيته، وتحمل منه ويتزوجان. تسلّمه القوات السورية الى جهاز الأمن التركي وهو في طريقه الى بيروت قبيل ولادة طفله، ويلوم نفسه لفشله في إخراجها منها بعد مقتلها، ويشعر بأن سجنه وحريته سيان بعد خسارته أسرته.

تكذب صباح، ناطورة المبنى، حين تخبر مايا أن طفل نورا قتل معها في الحرب، ثم تعترف أنها أعطته لامرأة تتعامل مع مؤسسات تبنٍ في أوروبا. تجمع القوة والقدرة على الصمود نساء الرواية، ويتقاطع المكان الأصلي لبعضهن كأنه إشارة الى وجود «موقع» روحي وكياني يجمعهن دائماً. تتحدى نورا السلطة السياسية والعائلية رغم معرفتها العواقب، وبذلك لا يبدو موتها خسارة مجانياً بل فعلاً قتالياً قد يلهم الأخريات. مايا تتابع حياتها، وتحاول كسب عيشها بنفسها والاحتفاظ بطفلها. وصباح تفتح كشكاً بعد خطف زوجها وتصمد طوال الحرب في منطقة قتال. جدّة نورا الأرمنية وصباح من منطقة ماردين أصلاً، ونورا وأسمهان من المنطقة نفسها. حين تسأل مايا صباح عن شكل نورا يأتيها جواب يجب أن نتوقعه.

توسّع حميدان مدارها السردي بالحياة في الخارج والداخل، والأحاسيس والأفكار التي نعرف أن شخصاً معيناً خبرها، وليست تجربة عامة. تعتمد الفصحى والعامية في الحوار من دون سبب واضح، لكن قراءة روايتها تبقى ممتعة وباعثة على التفاؤل وتكرار المحاولة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



 خمسون غراماً من الجنة... أسئلة الذاكرة، بقلم إيمان حميدان


جريدة السفير اللبنانية


خمسون غراماً من الجنة... أسئلة الذاكرة


جريدة السفير
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 27-11-2015
فنون وعلوم / ثقافة
إيمان حميدان


هذه الرواية تكمل دائرة روائية، للرجل فيها صوته ولو لم تكن الروائية مهاجرة لما استطاعت أن تكتب عن المهاجرين

إنها الرواية الأولى التي أكتبها خارج لبنان. أراها تحاكي بشكل أو بآخر روايتي الاولى باء مثل بيت مثل بيروت، والثانية حيوات أخرى. أقفل مع روايتي الجديدة دورة مرتبطة بأسئلة الذاكرة، في مواجهة الحرب والعنف والهجرة. ذاكرة تشهد تغيّر مصائر الناس وانطواء أحلامهم في خزائن مقفلة. أشعر في هذه الرواية أنني أكملت دائرة ما. لكن الدوائر في الكتابة لا تنتهي، بل كل دائرة هي مقدمة لدائرة ثانية وثالثة.

في “خمسون غراما من الجنة” بقيت المرأة هي الراوية أولا وأخيرا. لكن قد تكون هذه المرة الاولى التي يدخل رجل بصوته المباشر الى روايتي، عبر رسائل كتبها كمال فِرات الصحافي التركي الى حبيبته نورا التي هربت من سوريا الى لبنان طلبا للأمن والحرية. صوت الرجل هنا هو صوت المرأة ايضا. هو ظل لها، هو مرآة ورفيق. العلاقة معه حرة وشفافة. لكن الأمر مختلف مع الشخصية النسائية الثانية “صباح” التي رسم حياتها ومستقبلها قرار عائلي، ولا أقصد هنا قرار الرجال فحسب بل نساء العائلة ايضا. أحيانا تلعب المرأة لعبة المجتمع والرجل بالعلاقة مع أولادها من الإناث، لأنها تخاف ولأنها اعتادت، ولأن الانصياع أسهل وعواقبه أقل خطورة من قول “لا” ومن النقد والسؤال ومن تذوق طعم الحرية. لكن عدم تذوق الحرية يشبه موتا صغيرا.

إنها تجربة الكتابة في مكان جديد، أي في باريس. أمر لم أعتد عليه. تجربة تبدو لي صعبة ومحفزة. لكنها تجعل من العلاقة مع النص ومع جهاز الكتابة (الكومبيوتر) أكثر حميمية وقربا. يصبح مكاني الخاص هنا، في تلك البقعة المضيئة الضيقة. يكفيني هذا. مكان حميم وخاص. أتآلف مع لغتي الغريبة عن المكان، والتي لا يفهمها أحد في المبنى حيث أقيم. نتصادق لغتي وأنا ونتصارع. أجد في الغربة قوة أكثر لتطويعها، وهي أحيانا تقاومني وتخبئ عني مفرداتها. أشعر لوهلة بأنني ربما نسيت الكلمات في وطني الأم. لكن رغم ذلك، وفي هذا المكان الغريب بالذات، وجدت لغتي أكثر رحابة، أكثر ألفة وتتسع لذاكرة وتعبير لم أجرؤ على مواجهتهما من قبل. لغة تتسع لخيال يواجه الرقيب بقوة.

أنا المهاجرة، كتبت قصة نساء مهاجرات. ربما لم أستطع الخوض في موضوع مشابه لو أنني لم أعش تلك التجربة. كذلك الكتابة عن مدن أخرى الى جانب مدينتي بيروت. كتبت عن النساء اللواتي يهاجرن لأسباب عدة. بدءا من لقمة عيشهن كالعاملة الآسيوية مالا، الى المرأة التي سافرت لمتابعة الدراسة مثل مايا أو العمل في المجال الصحافي مثل نورا أو لأسباب اخرى مثل سفر صباح. واذا أردت اختصار اسباب هجرة النساء لكتبت كلمة واحدة فقط هي: العنف!

حين كتبت الكلمة الاخيرة في الرواية وجدت نفسي أكتب تحتها : باريس ربيع 2015

لا بد ان هذا المكان الجديد ايضا صار جزءا مني ومن كتابتي.

لذا أشعر بالخوف الآن من أن يصل اليه عنف هربت منه ولم أعد أستطيع مواجهته.


إيمان حميدان - جريدة السفير اللبنانية


صدر العدد الأول من جريدة السفير في 26 آذار 1974، وكانت ولا تزال تحمل شعاري “صوت الذين لا صوت لهم” و “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
اليوم، وبفضل تقنيات الاتصال الحديثة والإنترنت، تخطت السفير مصاعب الرقابة والتكاليف الباهظة للطباعة في الخارج وتمكنت من الوصول إلى قرائها في القارات الخمس.
تتضمن صفحات السفير الأخبار والتغطية الميدانية للأحداث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والرياضة والترفيه، بالإضافة إلى التحقيقات الميدانية والعلمية والبيئية.
وتتولى تغطية الأحداث اليومية مجموعة صحفيو السفير ومراسلوها في واشنطن وباريس ولندن والقاهرة وفلسطين ودمشق وعمان وموسكو وروما وبون، مستعينون كذلك بالخدمات الإخبارية التي توفرها وكالات الأنباء العالمية.
لقراءة المزيد


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)