خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ، محمد مشبال (المغرب)، نقد

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 18-02-2016، العدد: 10189، ص(15)
الصفحة : ثقافة
العرب - عبد الرحيم الشاهد - الدار البيضاء


دراسة عن البلاغة والجمال وخطاب الأخلاق في أدب الجاحظ


تشكلت رسائل الجاحظ الكلامية والسياسية والأدبية، في سياقات تواصلية لها علاقة بقضايا اجتماعية وسياسية ودينية لعصره، وعلى هذا النحو جاءت دراسة الناقد محمد مشبال في كتابه المعنون بـ”خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ”.

يكشف لنا كتاب “خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ” لمحمد مشبال عن الاستراتيجية الحجاجية والمقاصد التأثيرية لرسائل الجاحظ وأبعادها البلاغية والجمالية، وقد اعتمدت الدراسة مفاهيم علم النص والبلاغة الجديدة في تحليل تلك الرسائل، وبالنظر إلى أن العديد من تلك الرسائل قد ورد في سياق الردّ على قضية أو قضايا خلافية، مما جعلها تتقاطع مع أنواع خطابية من قبيل المناظرة أو المفاخرة أو الوصية، فكان لا بدّ من مقاربتها في إطار مبدأ الحوارية وهو ما تجلى في الفصل المعنون بـ“الحوارية وحجاجية النص”، وقد توقف التحليل في رسالة تفضيل النطق على الصمت، وتبيّن استراتيجيتها الحجاجية وإبراز الغرض الحجاجي المتمثل في إقناع المتلقي بأفضلية النطق على الصمت، وفي الدفاع عن بلاغة الكلام.

وانطلاقا من نفس المبادئ قارب محمد مشبال رسالتي “القيان” و“تفضيل البطن على الظهر” إذ يحلل الكتاب صور المتحاورين وصور الأسلوب وغير ذلك من الملفوظات الحجاجية التي ميزت الخطاب في الرسالتين. وكما أن الدراسة أبرزت الغاية المتحكمة في إنتاج تلك الرسائل وما تصبو إليه من مدح أو هجاء أو سخرية، أو اتهام أو دحض أو ردّ على الخصوم أو نهي أو تفضيل، فضلا عمّا تزخر به من وظائف حجاجية.

وقد أدرجت الدراسة البعض من تلك الرسائل في سياق الأدب الأخلاقي والأدب السياسي، ذلك أن التحام الأخلاق بالسياسة جاء من حيث اعتبارها رسائل موجهة إلى مخاطبين لهم مسؤوليات في الدولة وهي رسائل: المعاد والمعاش، والفصل بين العداوة والحسد، وكتمان السر وحفظ اللسان، والحجاب. وهي رسائل تتضمن نصوصا وشواهد مستمدة من أنواع خطابية مختلفة، حيث يتجاور فيها الخبر السردي والوصية والحديث وأقوال الصحابة والأقوال المأثورة وغيرها.

لقد توقفت الـدراسة بالتحليـل عنـد التشكيل البلاغي لصياغة خطاب الأخلاق والهوية، وعلاقة ذلـك بالـذات في سيـاق التفـاعـل الجماعي وفي تصـويـر طبـائع فئـات اجتماعيـة مختلفة، إنهـا رسائـل ذات غـرض تأديبي تصبو إلى تهذيب أخلاق مخاطبيهـا، أو تنفع في تدبير شؤون الحياة العـامـة، وأخـرى تنتقـد سلوكات اجتمـاعية وتسخر من شخصيـات وتبرز عيوبها، وتستخلص الدراسة كـون الجاحظ يلزم المقصود بالخطاب؛ الفضيلـة والخلق المحمود. لقد فكك محمد مشبال الأنساق الخطابية لرسائل فصل بين العداوة والحسد، وحفظ اللسان، والحجاب، وتوقفت الدراسة عند استراتيجيتها الحجاجية وغرض صياغتها المتمثل في قصدية بناء صورة مثالية للفرد في حفظ اللسان وتصوير صراعه المتأرجح بين العقل والهوى.

وأبرزت رسالة “كتمان السر وحفظ اللسان” انشغال الجاحظ بأدب الطبائع إلى جانب الأخلاق السياسية كما في رسالتي التربيع والتدوير، وذمّ أخلاق الكتاب وغير ذلك، وخلصت إلى أن الخطاب الأخلاقي عند الجاحظ يجب إدراكه في سياق خطاب بلاغي نوعي يقوم تارة على المدح والذمّ، وتارة أخرى على الحض والنهي.

وبعد أن يستعرض الجاحظ الحجج الداعية إلى حفظ اللسان، يؤكد أن ذلك لا يمكن إنجازه فعليا، وهذا التعارض بين الاحتجاج للشيء ونقيضه يعزوه محمد مشبال إلى وجوب النظر في الأمر من سياقين: السياق الأخلاقي الاجتماعي، والسياق العلمي الفلسفي. حيث يلتقيان ويعضد بعضهما بعضا، وقد توقفت الدراسة في رسالة المعاد والمعاش عند الحجج التي أوردها الجاحظ في سياق مدح المخاطب، وكشفت عن الأفعال الكلامية الدالة على كون الرسالة تدخل في جنس الوصية وما تنطوي عليه من سمات بلاغية وحجاجية.

وفي تحليله لخطاب الأخلاق في السياسة فككت الدراسة صورتي المحتجب والحاجب الأخلاقيتين، وتوقفت عند تنوع الخطابات التي تتضمنها رسائل الجاحظ وما تنطوي عليه من تنوع أسلوبي وجمالي قصد تقوية طاقتها الحجاجية، ويرصد محمد مشبال في رسالة ذمّ أخلاق الكتاب حجج الجاحظ الإقناعية، فضلا عن الكشف الجمالي لبنية الخطاب الحجاجي فيها وما تختزنه من معارف.

لقد وظف الجاحظ البلاغة لخدمة العقيدة خاصة في رسالة الردّ على النصارى، وقد تبلور هذا الاستنتاج النقدي بعد أن تتبعت الدراسة مختلف الحجج الواردة فيها، وعن بنيتها التواصلية والحوارية وعلى مكوّناتها وعناصرها وثغراتها الناتجة عن الحساسيات الدينية لتلك الفترة.

لقد أبرز كتاب “خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ” للباحث محمد مشبال أهمية المقاربات الحديثة في تفكيك مختلف أشكال الخطابات والوقوف على استراتيجيتها الحجاجية، وقد برع المؤلف في استجلاء الوظائف البلاغية والحجاجية لخطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ بدقة ومهارة واقتدار.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)