كتاب

حقبة من تاريخ القصة القصيرة في الأردن: اجيال متلاحقة وأصوات مختلفة دار الساقي

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


28-02-2013
جريدة القدس العربي
د. إبراهيم خليل، ناقد وأكاديمي من الأردن


في الكتاب الذي صدر مؤخرًا بعنوان مختارات من القصة في الأردن افتئات واضح على التاريخ الأدبي لهذا النوع من فنون الإبداع، ففي الكتاب مقالتان عن القصة القصيرة إحداهما لفخري صالح والثانية للدكتور شفيق طه النوباني وفي المقالتين تجاوز مثير للحيرة، إذ لم تشر المقالتان للقصة القصيرة في الحقبة الممتدة من العام 1952 حتى بداية الثمانينات مما يدعو لبيان الكثير من الحقائق عن تلك الحقبة من تاريخ القصة في الأردن، مع التنبيه على ارتباط هذا الفن القصصي بظهور القصة في مصر وفلسطين وسورية.

ويرى بعض الدارسين أن القصة القصيرة، من حيث هي فن نثري مستقل عن النوادر، والرسائل، والملح، عرف في النثر العربي على يدي الجاحظ (255هـ) وعدّوا نوادره في كتاب البخلاء من القصص القصيرة مثلما عدوا المقامات قصصا كذلك. أما ظهور هذا الفنّ بمعناه الاصطلاحي الذي أوضحناه، فكان في مُستهل القرن العشرين. ويقال: إنَّ أول كتاب يحتوي مجموعة من القصص القصيرة التي ينسحب عليها هذا الوصف طبع في مصر، وكان لمحمد لطفي جمعة (1905) وظهرتْ أولى قصص محمد تيمور وهي بعنوان ’ في القطار ’ في جريدة السفور سنة 1917 وما فتئ هذا الفن يشق طريقه بصعوبة حتى توالتْ المجموعات القصصية لكل من عيسى عبيد، ومحمود طاهر لاشين، ومحمد تيمور، ومحمود تيمور. وذكر يحيى حقي في كتابه ’ فجر القصة المصرية ’ عددًا من المجموعات التي طبعتْ بين عامي 1921 و 1922 وهو العام الذي ظهرت فيه مجموعة ’ أغاني الليل ’ لمحمد صبحي أبو غنيمة في مطبعة الترقي بدمشق. وفي الأثناء ظهرت المحاولات المبكّرة لكل من عيسى الناعوري (1918- 1985) وروكس العزيزي (1903- 2004)، وانضم إليهم لاحقا كاتبان جاءا إلى الأردن من فلسطين، وهما محمود سيف الدين الإيراني (1914- 1974) الذي كتب ’ أول الشوط ’ 1937 ومحمد أديب العامري(1907- 1978) الذي كتبَ ونشرَ ’ شعاع النور وقصص أخرى ’ 1954 التي تضمّ- في الواقع - قصصًا من تأليفه، وأخرى مترجمة عن الإنجليزيّة لكتاب عالميِّينَ مشْهورين منهم مكسيم غوركي، وتوجنيف .

وايًا ما كان الأمر، فإنّ الكتّاب الذين بدأوا الكتابة القصصيّة قبيل النكبة، واصلوا الكتابة بعْدها، ففي العقد الخامس من القرن الماضي، والسادس، ظهرت مجموعات قصصية لحسني فريز’ قصص ونقدات ’ ولمحمود سيف الدين الإيراني ’ متى ينتهي الليل؟ ’ 1955 وما أقل الثمن 1962 ولعيسى الناعوري ’ أقاصيص أردنية ’ و ’ خلّ السيف اقول ’ ولأمين فارس ملحس ’ من وحي الواقع ’ 1952 ولعبد الحميد ياسين ’ عشر قصص مصورة ’ 1959 وعبد الحميد الأنشاصي ’ عطف أم وقصص أخرى ’وسليمان الموسى، وميشيل الحاج، وأحمد العناني، وعبد الحليم عباس، وأديب عباسي.

على أنّ الفارق بين هذا العطاء القصصي الذي يمثل حصادًا لما زُرعَ واسْتحصد قبل عقود، والعطاء الذي عرفته سبعينات القرن الماضي، يتجلى في ظهور عدد من الكتاب الذين جعلوا القصة القصيرة هاجسَهم الأول، الذي لا يغلبُ عليه هاجسٌ آخر، فكتابُ الجيل السابق كانوا يكتبون إلى جانب القصة: الشعر، والمقالة، والرواية، والبحوث، والمؤلفات، ولبعضهم موطئ قدم في الصحافة، وفي النقد الأدبي، وفي الترْجمة عن اللغات الأخرى، أي أنّ أكثرهم كتب القصة فيما كتب من فنون دون أن يمنح الشكل القصصي ما هو جديرٌ به، وخليق، من تحليل، وتدقيق، سواء في الحدث أو في الشخصية، أو في المكان، أو في الزمن، أو في العقدة، أو في النسيج اللغوي الذي تكتبُ به. فالكاتبُ منهم لا يعنيه شيء قدر عنايته باختراع الحدث الشيق، أو الشخصية التي تستحوذ على إعجاب القارئ، وتعاطف المُتلقي. وقصة عيسى الناعوري (معمّر بوابير الكاز) نموذجٌ لهذا النوع من القصص. ولا تختلفُ عنها في قليل، أو كثير، قصَّة (سنيّة) لحسني فريز، وهي من مجموعته ’ قصص من بلدي’ التي تتلخَّصُ بالعبارة المعهودة ’ وتصرَّمت الأيام وشابت سنية ’ أما الإيراني فقد ظل يقتفي اثر الكتاب الغربيين ممن قرأ أعمالهم، وترجم بعضها، فلاحت على قصصه المتأخرة ملامح التجريب، التي تتجلى بصفة خاصة في ’ أصابع في الظلام ’ 1971. فقد تخلى فيها عن الاهتمام المطلق بالشخوص، وعني بالتركيز، مؤكدًا وحدة الزمن في القصة القصيرة، وخلوَّها من التشتّت، ومن انقطاع السرد، ونبذ الوصف لصالح التحليل الوظيفي .

ويجوزُ القوْل عن الجيل الذي بدأ الكتابَة في الستينات- أيْ في مرحلة مجلة الأفق الجديد أنه هو الجيل الذي تكاملتْ على يديه صورة هذا الفن في الأردن وفي فلسطين. وفي هذا المقام لا نَسْتطيعُ أن نتجاهل الدور الذي قامت به المجلة (1961- 1966) فالكتاب الذين نشروا فيها بواكيرهمْ همْ الذين نضج عطاؤهم القصصي بين عاميْ 1971 و 1980 لذا تجبُ الإشارة، ولو من بعيد، لقصص صبحي شحروري، وماجد أبو شرار، ويَحْيى يَخلف، ومحمود شقير، وخليل السواحري، وفخري قعوار، وغالب هلسا، ومن التحق بهم لاحقا كجمال أبو حمدان، ومحمود الريماوي، وسالم النحاس، وإبراهيم العبسي، وهند أبو الشعر، وفايز محمود، وخليل قنديل، ويوسف ضمرة، وعدنان علي خالد، وأحمد عودة، وعصام الموسى، وفايز محمود، وقاسم توفيق، وإلياس فركوح، وبدر عبد الحق.

فمن كتاب هذا الجيل البارزين، بالإضافة لخليل السواحري، وجمال ابو حمدان، وفخري قعوار، وبدرعبد الحق، القاص محمود الريماوي، الذي بدأ التواصل مع القراء عبر صحيفة فلسطين، إلى جانب محمود شقير ويحيى يخلف، ثم عبر مجلة الآداب البيروتية التي شهدت صفحاتها بواكيره الجيدة منذ العام 1967وفي العام 1972 صدرت أولى مجموعاته القصصية، وكانتْ بعنوان ’ العُري في صحراء ليلية ’ وقد حظيت بتقريظ غير قليل بوصفها شهادة ميلاد لمبدع جديد في القصة القصيرة سرعان ما تدفق عطاؤه في كتب كثيرة توالتْ بعد ذلك. منها ’ الجرح الشمالي ’ 1980 و’ كوكب تفاح وأملاح’ 1988 وغرباء، 1989 و ’ ضربٌ بطيء على طبل صغير ’ 1990 و ’ القطار ’ 1997 و’ سحابة من عصافير ’ واخيرا عودة الطائر. وابتداءً، لا بدّ من ملاحظة ضرورية قبل الحديث عن إنجازه القصصي، وهي أن الريماوي يسعى في كلّ عمل جديد يصدره لتجاوز الكتابة السردية المعتادة بما فيها كتاباته هو، فهو يأنفُ التكرار، ويتجنب الاجترار، وينزع لتسليط الضوء على المشاعر، والإحساسات الداخلية للشخصيّات، والإصغاء لهواجس الأعماق، إلى جانب الاستخدام المُتنوّع لتكنيك المراوحة في الزمن time shifting الذي يقوم على جري السارد في اتجاهين، أحدهما يعود بالقارئ إلى الماضي، والثاني يعود به للحاضر الآني، وذلك شيءٌ يتجلى في أكثر القصص. أما توجُّهه نحو السرد الغرائبي، فقد ابتدأ منذ زمن، وقصته ’ الحكماء يجتمعون في غمرة الأحداث ’ شاهدة على هذا التحول الذي يستمر في مجموعته (ضربٌ بطيء) باستخدام السارد المشارك، بالتوازي مع تحويله الشيء الطبيعي إلى شيء غرائبي، مثلما هو الشأن في قصته الجيدة (الحافلة) وتستوقفنا في مجموعة (القطار) قصص عدة تقوم على تصوير اللحظات الحرجة، والحميمة، التي تمر بها الشخوص، وهذا شيء يلحظه القارئ بيسر في قصة (موت سيارة) وقصة (تحت طائلة الحرب) و(عشرون عاما فقط) ومن يتتبعْ قصص الريماوي في (سحابة من عصافير)، و(عودة الطائر) وغيرها، فلا بد أنْ يلاحظ ، بوضوح، سعيه الدائب، وبحثه الموصول، عن تقنيات سردية جديدة سواءٌ بتقطيع النص السردي إلى وحدات مستقلة بعناوين مميزة، أو بإعادة إنتاج الحدَث ومزج الحاضر بالماضي، واتباع تقنية السّرد المتكسِّر، أو المراوحة في الزمن، واتخاذ الراوي بطلا وساردًا ليقدّم رؤية ذاتية، وداخلية، مصاحبة لزمن الوقوع، واستخدام الرمز، والمفارقة، والابتعاد عن الواقع، من حيث هو مرجع توثيقي للحوادث، مع الاقتراب من الفانتازيا التي تحيل السرد لمرجعياتها الخاصّة التي تتخلّق فنيًا من خلال الخطاب السردي، وهذا يجعل من قصصه قصصًا تعبّر، وتوحي، أكثر مما تصف، أو تقول، أو تحلل الفكرة، تاركة للقارئ مَساحةً أكبر للتأمل، والتأويل.

وإذا كان الريماوي من أكثر كتاب ذلك الجيل تواصلا مع الجديد، فإن لخليل السواحري ولفخري قعوار تاريخاً مشتركاُ مع ما يعرف بالقصة الواقعية التي تتوخَّي اختيار الحوادث، والشخوصَ، اللصيقة بالواقع. وشاع في العقد السابع، لا سيما بعد صدور الكتاب المشترك ’ ثلاثة أصوات ’ 1972 تعبير: هذا أدب واقعي، وذلك غير واقعي. وتعد ’ مقهى الباشورة ’ أحد النماذج التي تكرَّرتْ الإشارة إليها بوصفها تضم قصصًا من النوع الواقعي مثلما أشير إلى قصص محمود شقير في مجموعتهِ الأولى (خبز الآخرين ) 1975. وأيًا ما كان الأمر، فإنَّ كلا من السواحري، وقعوار، سرعان ما جرفتهما توجهات الكتاب إلى التجريب؛ فها هو السواحري يكتب في ’ مطر آخر الليل ’ قصصًا يخرجُ فيها عن تقاليد القصة الواقعية شكلا ومحتوى، ويقترب بصورة أكثر إلحاحًا من القصة ذات الشكل الغرائبي، والمحتوى الرمزي، الإيمائي. والشيء نفسه نجده في قصص فخري قعوار، لا سيما تلك التي أعقبتْ مجموعته ’ لماذا بكت سوزي كثيرا ’. ففي ’ البرميل ’ و ’ أنا البطريرك ’ و ’أيوب الفلسطيني ’ وقبلهما ’ممنوع لعب الشطرنج ’ و’ حلم حارس ليلي ’ وغيرها من نصوص قصيرة يتجاوز فيها الحدث بمفهومه التقليدي، مثلما يتجاوز الشخوص، والعقدة، ويعتمد الرمز أداة لتبليغ القارئ بمضمون القصة التي تفتقر للحكاية بقالبها المعروف. وقد تكرّر لدى فخري قعوار النهج القائم على تكثيف القصّة حد التماس مع القصة القصيرة جدًا، وهذا جليّ في مجموعة ’ البرميل ’ و ’ أنا البطريك ’ وأقصى من نصه السردي الحدث بالمفهوم التقليدي، واستغنى في بعض القصص عن الإنسان، فقد نجد البطل في قصصه حصانًا مثلا، أو شجرة، ومزج بين النموذج التاريخي كالمتنبي، والنموذج الإنساني الذي يمر في وضع مشابه لوضع المتنبي، في قصة ’ الخيل والليل ’على سبيل المثال، واتخذ من العبارة المُجزّأة، والعبارة الشعرية القصيرة، أداة تعبير تغني توجهه القصصي، ولا تخلو قصص قعوار المتأخرة من عدول بالنص من السرد إلى ما يشبه الخبر الصحفي، أو المقالة القصيرة.

وقد ذكر الإيراني، في متابعته للقصة الأردنيّة القصيرة، أنّ جمال أبو حمدان من أوائل من كتبوا القصة القصيرة الجديدة التي تنحو إلى التجريد بدلا من مُحاكاة الواقع، مثلما كان الحال سائدًا في قصصه هو، وقصص كتاب آخرين كعيسى الناعوري، وحسني فريز، وروكس العزيزي، ومحمد صبحي أبو غنيمة، وأمين فارس ملحس. ووَصفَ قصص أبو حمدان التي تتألفُ منها مجموعته الأولى ’ أحزانٌ كثيرة وثلاثة غزلان ’ بالغُموض، مؤكدًاً أنَّ بعض الكتاب يثنون عليها مع أنه هو يجد صعوبة في تقبّل هذا النوع من القصص. والصحيح أنَّ لهذه المجموعة تأثيرًا كبيرًا في القصة الأردنية القصيرة، صحيح أنَّ الكاتب بنى فيها على معطيات سرديّة سبق إليها زكريا تامر في قصصه القصيرة الموسومة بعنوان ’ ربيع في الرماد ’، و’ الرعد ’ ولكنَّ جمال أبو حمدان طوَّع هذه الطريقة الجديدة في الكتابة، واستطاع أن يأتي فيها بما يشهد على ابتكاره، وأنه لا يُدلي بدلاء الآخرين. فهو من الانطباع الأول يكتب القصة ذات الحكاية المُكثفة التي يستعيرُ بعض حوادثها من الماضي، أو من التاريخ القديم، كما في ’ سبارتاكوس ’ أو ’ أبو ذر الغفاري ’ أو قيس، وغيرها من قصص، وربما لجأ إلى ما يسميه المحدثون اليوم التناصّ الأسطوري، أوالديني، كما في قصَّتهِ ’ أحزانٌ كثيرة وثلاثة غزلان ’ التي تقنّعتْ فيها شخصيات القصة بشخصية زليخة تارَة، وشخصية يوسف تارة، مع أنّه يُسلط الضوء على وضع سياسي راهن، وهو ما تبع نكسة 5 حزيران من ردود فعل تعرض لها جندي مصري عائد من ساحة القتال. ولم يلبثْ جمال أبو حمدان أنْ توالتْ مجموعاته القصصية الأخرى مثل: مكان أمام البحر، والبحث عن زيزياء، ومملكة النمل، وأمْس الغد، وغيرها.. قبل أن يختطفه السيناريو من بين كتاب القصة القصيرة البارعين. ولا يفوتنا هنا أنْ نذكّر بأن لقصص جمال أبو حمدان طابع الصورة، فاللغة فيها تقوم على العبارة المجزأة، والشعرية، والإفراط في المجاز السرْدي، فضلا عن القناع الذي يتكرّر في قصصه كثيرًا، وهي كقصص فخري قعوار تجمع بين القصة الغرائبية ومحاكاة الواقع، لكنّ له طابعا مختلفا جدًا يتجلى في اقتراب النصّ القصصي عنده من القصيدة. وقد انتفع أبو حمدان من هذا الأسلوب في كتاباته الروائيّة الأخرى، ومنها - على سبيل المثال - روايته ’ الموت الجميل ’.

ومن الكتاب الذين برز عطاؤهم القصصي في العقد السابع من القرن الماضي: إبراهيم العبسي، وسالم النحاس الذي جرفه هو الآخر تيار التجريب. ففي مجموعته الأولى و’ أنت يا مأدبا ’ 1978قصص ينحو فيها هذا المَنحى، ومنها قصة دائرة الأفق، وقصة أشجار الصنوبر، وقصة الثقب. وغالب هلسا هو الآخر بدأ كتابة القصة منذ العام 1968 ونشر في القاهرة ’ وديع والقديسة ميلادة وآخرون ’ وتابع الكتابة القصصية لتمثل مجموعته ’ زنوجٌ وبدْوٌ وفلاحون ’ 1974نمطاً من القصة القصيرة التي تحافظ على القوالب المعهودة في أسلوب لا يتجنب التطرق مباشرة لهموم الناس في مصر، وفي الأردن، فهو كاتب يتجاوز المألفوف، ولكنه لا يبتعد كثيرًا، ولا يسقط في شرك التجريب.

وكانتْ هند أبو الشعر من الكتاب الذين أسْهموا في القصة منذ العام 1971 بعد أن تخلت عن كتابة الشعر، ولكنها لم تصدر أي مجموعة قصصية إلا في العام 1981 وهي ’ شقوق في كف خضرة ’ وسواءٌ نظر القارئ في هذه المجموعة، أو فيما تلاها من مجموعاتٍ، كمجموعة ’ المُجابهة ’ 1984، و’ الحصان ’ 1991 و ’ عندما تصبح الذاكرة وطنا ’ 1996، أو ’ الوشم ’ 2000، وغيرها منْ مَجموعات نضدت، وطبعت في مجلد ضخم صدر في منشورات البنك الأهلي 2006، فإنّ الشيء الذي لا تخطئه النظرة العجلى هو حرصُ الكاتبة على تطوير القصة تطويرًا قدْ يبدو في مرحلة من مراحلها علامة فارقة تميّزُها عما سبق، ففي المجابهة كتبت القصة التي تعتمد الرمز، فتتخيل حكاية بما فيها من تفاصيل توحي رمزيًا بما يجري في الواقع اليومي. وفي الحصان تتخذ من النموذج التاريخي أداة تعبّر عن طريقها عن الحاضر؛ فالحصان يرمز في القصة لأمة تحتضر، وهي في حاجة للنجدة، والدواء، والتدليك أكثر مما هي في حاجة للثرثرة، والاختلافات الفكرية، والتشرْذُم الذهني. وفي مجموعة الوشم تقترب من اللغة التي تمثل هاجسًا فنيًا للكاتب، فهو يريد الكتابة كأيِّ كاتبٍ لكنْ بلُغة تشهد على تفرده، وابتكاره، فكانتْ القصص تجنح فيها إلى لغة الشعر، سواءٌ عن طريق الإسراف المَجازيّ، والتصويري، أوْ عنْ طريق الإيقاع الذي لا يَتجاهلُ النغمة السردية، والنبْرة.

ولا يفوتُ الباحثَ أن يشير لبعض قصص إلياس فركوح، ابتدأء من الصفعَة 1978، ومرورًا بمن يحرث البحر وطيور عمان تحلق منخفضة، وأسرار ساعة الرمل 1991 وانتهاءً بالملائكة في العراء 1997، وفايز محمود، وبدر عبد الحق، الذي بدأ بنشر القصص منذ عام 1971 واشترك في المجموعة ’ ثلاثة أصوات’ ولكن مجموعته الأولى، والوحيدة، لم تصدر إلا في العام 1991 وهي بعنوان ’ المَلعون ’ وهي قصص تراوح بين السرد الغرائبي، والواقعي، لكن القاسم المشترك فيها جميعًا هو الرمز، بسبب ما لديه من حرص لافت على تجنب المباشرة فيما يكتب، خلافا لمقالاته الصحفية التي اعتدنا قراءتها في الرأي، وجمع منها الكثير في كتاب بعنوان ’ أقوال شاهد عيان ’.

ولا مندوحة لنا من التنبيه على التداخل الكبير بين الأجيال في الأدب، سواء أكانَ الأمر خاصّا بالشعر، أم بالقصة، أم بالرواية، فالذين بدأوا الكتابة في العقد الثامن من القرن الماضي من أمثال قاسم توفيق، ومحمد طملية، وغيرهما.. تكونوا في العقد السابق. ومثلما رأينا في عطاء الكتاب الذين أشرنا لأعمالهم، منهم من بَدأ الكتابة في الستينات كمحمود الريماوي، ولكن مجموعته الأولى لم تصدر إلا في العام 1972 وهذا ينسحب على خليل السواحري، ومفيد نحلة، وهند أبو الشعر، وعصام الموسى، وسليمان الموسى، وبدر عبد الحق.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)