حطب سراييفو، سعيد خطيبي (الجزائر)، رواية منشورات الاختلاف - منشورات ضفاف - 2019

, بقلم محمد بكري


جريدة الأيام الفلسطينية


موقع جريدة الأيام الفلسطينية
الثلاثاء 25-02-2020
الأيام - أدب وفن
كتبت بديعة زيدان


"حطب سراييفو" لسعيد خطيبي.. الحرب كجسر لحكايات الناجين غير الناجين منها !


“نحن إخوة في الألم، عدا ذلك، فإن كل شيء يفرقنا”.. بهذه الجملة الاستهلالية، يفتح الروائي الجزائري سعيد خطيبي باب السرد مشرعاً على حكايات وجغرافيات عدة، تحمل معها تأويلات وتأويلات، في روايته “حطب سراييفو”، وهي واحدة من الروايات المنافسة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) بوصولها إلى القائمة القصيرة للجائزة.

وتسير الرواية في خطين متوازيين، أحدهما في الجزائر العاصمة حيث يعيش سليم (الشخصية المحورية) وعائلته المكونة من والده ابراهيم وشقيقه، والثانية في سراييفو حيث تعيش إيفانا وعائلتها المكونة من أم وشقيقة، فيما تسرد الحكايات على أرض سلوفينيا.

و"حطب سراييفو"، الصادرة عن منشورات الاختلاف في الجزائر بالاشتراك مع منشورات ضفاف في بيروت، رواية تفترش آلام الحرب، وتلتحف انعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على الناس وحيواتهم، وخاصة الشباب منهم، أولئك الذين وجدوا أنفسهم في أتون الحرب قسراً، مجبرين على تحمل بطشها وجبروتها من قتل يومي، وقصف، وتفجيرات، كما أن أنوفهم اعتادت، وقسراً أيضاً، على استنشاق روائح جثث من حولهم، وإن كانت كلها في نهاية المطاف جزءاً من رائحة الموت الكلّية، متميزة بانحيازها لضحايا الحرب العاديين من الناجين، أو المفترض أنهم نجوا منها حتى لحظة الكتابة، وربما ليس حتى الانتهاء من رصّ الكلمات بلغة كان لها مفعولها وحضورها الطاغي.

وتتحدث حكاية “حطب سراييفو” عن سليم ابن الحاج إبراهيم، وهو صحافي من مواليد العام 1970 يجد نفسه فجأة بلا عمل، فالجريدة التي كان يعمل فيها تغلق بسبب الأوضاع غير المستقرة في الجزائر، فيقرر السفر إلى سلوفينيا عند عمه أحمد الذي بدوره ايضا كان سبقه بسنوات طويلة في الهجرة.

وفي ذات الخط السردي، ينقلنا خطيبي الى حكاية أخرى لشابة بوسنية تعيش في سراييفو، تدعى إيفانا، درست المسرح، وتحلم بشهرة في عالم الكتابة المسرحية، وبالفعل تكتب مسرحية لا تريدها باللغة المحلية، لذا خرجت بالإنكليزية التي لا تتقنها جيداً، لعلها تضمن لها الانتشار.

يلتقي سليم وإيفانا في مقهى عمه، حيث تعمل البوسنية نادلة هناك لتأمين قوتها وتكاليف إيجار غرفة في فندق بائس، بينما كان سليم يتردد على مقهى عمّه باستمرار، إلا أن العلاقة بينهما لا تتطور بشكل لافت، فإيفانا منشغلة بعملها، وبكتابة المسرحية الحلم بالنسبة لها، وتواصل حياتها رغم تعرضها لتحرش من العم الذي تضطر لمجاراته أحياناً لفرط حاجتها إلى العمل.

وتتعثر إيفانا بمعشوقها غوران الذي هاجر من سراييفو منذ سنوات، وتنقّل في عدة دول حتى وصل إلى سلوفينيا، لتكتشف منه أنه عمل في ذات المقهى قبلها، لكن مالكه أحمد لم يمنحه أجر الشهر الأخير المستحق له، وطرده من العمل.. وهنا تذهب إلى رب عملها لتطلب مستحقات غوران، إلا أنه يعنفها، فتقع بينهما مشاجرة تترك إيفانا على إثرها العمل في المقهى، هي التي قامت بضرب “العم أحمد” على وجهه، وتُدميه، فيطردها.

ولتأخذ بثأرها منه تذهب الى زوجته السلوفينية، وتخبرها بكونه تحرش بها، فينشب شجار بين أحمد وزوجته، وهنا يتوجه الأول إلى حيث غرفة إيفانا، فيقع شجار آخر بينهما، ولكن غوران يتدخل هذه المرة، ويطعنه بسكين قاتلة.

وما بعد مقتل “العم”، تفضح زوجته السلوفينية سرّه، ليتضح أنه والد سليم لا عمّه، فقد كان “أحمد” الثائر الجزائري السابق، قد أنجبه قبل أن يقتل زوجته التي ادعى انتحارها، والحديث هنا عن والدة سليم، وقبل أن يسلّم الرضيع لشقيقه ورفيق درب ثورة خمسينيات القرن الماضي أيضاً، والذي بات الأب المفترض لعقود، وهنا يكتشف سليم أكذوبة عاشته وعاشها حتى بات على مشارف الثلاثين من عمره، أو فاض عنها.

واللافت، أنه على الرغم من اللقاءات المتقطعة والحوارات المتناثرة ما بين سليم وإيفانا، إلا أن مصائرهما تبدو متقاطعة، بل حتى حكايات والد كل منهما، مع اختلاف السياقات، فكلاهما، أي سليم وإيفانا، فرّ من الحرب في بلده، وكلاهما ابن خائن لهذه البلاد، بشكل أو بآخر، فأحمد العم والأب المُكتشف، كان تخلى عن مبادئه الثورية كواحد من المحاربين القدامى، فيما وقع والد إيفانا في شرك التعاون مع “التشنيك”، الذي هم من الصرب مرتكبي مجازر “سراييفو”، وهو اسم استقاه المتطرفون منهم تأثراً بجنود الإمبراطورية الصربية الأرثوذوكسية القديمة، التي كانت تقتل وتقتحم وتجتاح، وتفعل ما تشاء من فظائع لكل من هم ليسوا صربيين.

هي رواية صادمة عمّا يمكن تسميته بـ"حرب الأخوة" سواء في الجزائر أم في سراييفو، فهذا الصحافي شاهد الكثير من الفظائع في بلده، والتي جعلت منه صحيفة متنقلة، ما دام يحمل رأساً يحتفظ كما عينيه وبقية أجزاء جسده بذكريات لا تنسى، بل وتتغلغل عميقاً.

“هي شاهدتْ وسمعتْ في التلفاز فقط، وأنا شاهدتُ بعيني رؤوساً مقطوعة، وجثثاً مرميّة على أرصفة وطرقات. شاهدتُ رأس فتاة في العشرينات، معلّقاً على عمود كهربائي، كتحذير للفتيات الأخريات بعدم الخروج من بيوتهن دون حجاب. شاهدتُ دموع الثكالى وصمت الأيتام”.

يلتقي الناجيان من الحربين القريبة والبعيدة، والتوصيف بالقرب والبعد هنا يعتمد على موقع الراوي الذي يتلبس جسد سليم ولسانه تارة، وتارة أخرى تتلبّسه إيفانا، فتبدو الرواية اثنتين، وليس فقط تحت سقف مقهى “تريغلاو”، في رواية جزائرية بامتياز، فحضور “سراييفو” هنا لم يكن ظاهراً لا من حيث تفاصيل الحرب فيها، ولا على مستوى استحضارها تاريخاً وعادات وجغرافيا ومعماراً وملابس وتفاصيل تجعل من توظيفها في عنوان الرواية مبرراً، وما ينطبق على سراييفو ينطبق نسبياً على ليوبليانا، العاصمة السلوفينية، مسرح الأحداث والحكايات الشخصية، التي تصلح لأن تكون بين ضحايا الحروب عامة، ولكون الروائي جزائرياً، فكان يمكن استحضار ضحية أي حرب أخرى في العالم، ما دامت الأحداث على أرض محايدة قد يكون اختارها لتبرير عدم الخوض في تلك التفاصيل حول “سراييفو”.

ورغم كل هذا التشظي، وما سبقه من شظايا فعلت ما فعلته ولا تزال، يقرر كل من سليم وإيفانا العودة إلى الجزائر العاصمة، و"سراييفو"، ليبدأ كل منهما حياته من جديد، بعيداً وليس بعيداً عن ذكريات حروب لا تنسى، وبتر طال حتى علاقة كل منهما العاطفية، لتبقى رواية “حطب سراييفو” إنسانية المدى، تنهل من تاريخ الجزائر منذ الحرب العالمية الثانية وحتى ما بعد “حرب الأخوة”، أو قتال “الأخوة الأعداء” في ثمانينيات وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتعرّج على مآسي حرب البوسنة والهرسك، في رواية لا تركز على الحرب بحد ذاتها، بل تجعل منها مطيةً تتبع حيوات أشخاص عاديين، وصفهم خطيبي، بـ “الـمسحوقين تحت وطأة الأحداث الدامية التي تمحو ماضيهم، وتنزع عنهم هويّاتهم”، بل، وكما رأيت، تحولهم إلى أشخاص آخرين بهويات جديدة مختلفة تماماً عما كانت عليه هوياتهم من قبل.. فالحرب قد تُنسى مع تعاقب الأجيال، لكن آثارها تبقى حاضرة، ولو على فرع شجرة، أو اسم شارع، أو طريقة عبور المشاة لطرق كانت شاهدة على مآسٍ تتكرر ولا تزال في حروب لا تنتهي، هنا أو هناك.

عن موقع جريدة الأيام الفلسطينية

شروط الاستخدام

يشير البند السادس من شروط الاستخدام بأنه لا يحق للمستخدم نسخ المادة الموجودة على الموقع أو إعادة إنتاجها أو نشرها أو إذاعتها أو استغلالها بأي طريقة مهما كانت من دون ذكر الموقع والاشارة الى الموقع كمصدر لهذه المواد بوضوح، وفي حال تم التعديل بالحذف والإضافة والتحليل يجب الإشارة إلى موقع “الأيام” كمرجع للمادة التحليلية، ويستثنى من ذلك أغراض الاستعمال الشخصي غير التجاري. لقراءة المزيد عن شروط الاستخدام.

جريدة الأيام يومية سياسية تصدر عن شركة مؤسسة الأيام للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع.


مقالات ذات صلة :

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)