جيوب مثقلة بالحجارة، فرجينيا وولف (المملكة المتحدة)، رواية ترجمة وتقديم فاطمة ناعوت - المركز القومي للترجمة - القاهرة 2018

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثلاثون العدد 9521 الأحد 21 نيسان (ابريل) 2019 - 15 شعبان 1440 هـ
هاشم شفيق - شاعر من العراق يقيم في بريطانيا


رواية جديدة لفرجينيا وولف في «جيوب مثقلة بالحجارة»


فرجينيا وولف الروائية والقاصة والكاتبة البريطانية، اسم ذو بريق لامع وساطع في سماء الثقافة العالمية، كونها أصدرت وهي صغيرة عملاً حكائياً جديداً وغريباً وفريداً من نوعه، خلخل بنية الثقافة الإنكليزية المحافظة، واخترق السياق المفاهيمي التقليدي لكتابة الرواية التي تبدأ بحكاية تقليدية، وأبطال واضحين، وخاتمة سعيدة أو مأسوية، أما فرجينيا وولف فكانت شيئاً مختلفاً ومغايراً، وهي أحد الأعمدة البارزة التي بنت لحداثة متقدمة وجديدة، في عالم السرد الروائي والمحكي الأوروبي، هي وجيمس جويس ووليم فوكنر، أسسوا لطريق غير مسلوكة من قبل، في فضاء القصة والرواية الأوروبيتين، اللتين لقيتا بعد الحرب العالمية الأولى والثانية هذا النمط المختلف من الكتابة الإبداعية، والجمالية المراوغة، والمبتكرة في آفاق السرد الحديث. فحين يتم ذكر المجددين لهذه الحداثة، يتبادر إلى الذهن أولاً اسمها وأعمالها اللافتة، إلى جانب جيمس جويس، وصموئيل بيكيت وعمالقة التجديد الآخرين.

لقد لاقت أعمالها الأولى النجاح الباهر، حيث قدّمتْ لهذا العالم الصدمة الغريبة، تلك التي لم يألفوها سابقاً في الأعمال الروائية والقصصية، وحتى في دورها النقدي، فهي ناقدة بارعة للوضع الثقافي البريطاني البارد حينذاك، والعائم فوق روايات تشارلز ديكنز وهنري جيمس وأغاثا كريستي وغيرهم من الروائيين المعروفين والمكرسين والذائعين، لكن وولف بظهورها اللامع، وثقافتها الواسعة، ومعرفتها الداحضة لليقين، والمتشككة بالسياق النمطي، والسرد الشائع، والروي العائم على السطح، اخترقت المفهوم الكلاسيكي والمتداول، لتؤدي عملية الخلق والارتقاء بفنها نحو مظاهر التخليق والاكتناه الداخلي، وسبر الأعماق، كما تجلى في الرواية التي تنشر هنا في هذا الكتاب تحت اسم «رواية لم تكتب بعد» حيث ستسعى فرجينيا وولف إلى استخدام تيار الشعور، والتداعي الداخلي لفهم شخصياتها، مستغورة أعماقهم ونافذة إلى مناطق تفكيرهم، حيث أضحت بفنها وعبقريتها، دارسة لأعماق الروح الإنسانية، وتفاصيلها الشائكة، مع الحياة والكون والعالم، وغدت أيضاً عالمة من علماء النفس الذين يلجون الذهن البشري، لتقرأ أفكار الآخرين ومشاعرهم وذكرياتهم وماضيهم الغابر، عدا عن لحظة الحاضر المستحكمة.

قدّمتْ فرجينيا وولف وهي لم تزل شابة، في بدء مشوارها الأدبي، رواياتها التي خلقتْ نوعاً من التوتر الجمالي والفني بين قرائها ونقَّادها، فهناك بالطبع من لم يتقبَّل الصيغ الجديدة والحديثة، ولاسيِّما الرأي العام، المتعود على النمط والدارج والمتعارف عليه، وكذلك النقاد الذين ألهبوا نهجها وجلدوه، بكتاباتهم غير المرحِّبة، والمُحبطة والعدوانية والمتهكمة، بما تُقدِّم من جديد، مستفز للمستقر والراكد.

ولكن ثمة من كان يناصرها من النقاد الجدد المغامرين، وكذلك من القراء الحاذقين، القادرين على ولوغ الجديد والمُحدَث والمضاد للسائد والشائع والمتداول بين العامة.

وحين ظهرت روايات مثل «الرحلة البحرية» لفتت القراء إليها، وبنت جسراً بينها وبينهم، لتصل إلى قاع أرواحهم ونواحيهم الذاتية، لتردفهم فيما بعد وهي في مطلع العشرين، بروايات مدهشة وجريئة في طرحها، من ناحية الحدث، والشخصيات، والأزمنة، والأمكنة التي ينبثقون منها، ومن ناحية سياقها المفاهيمي وعملية التركيب والبناء الجديدين، وعملية فهم سياق أفكارها ونوازعها الجمالية، والمعرفية، والفكرية، والفلسفية الحديثة، تلك التي بنت عليها معمار أعمالها، لتردفهم فيما بعد بروايات خالدة مثل «الليل والنهار» و «غرفة يعقوب» و«باتجاه المنارة» و«مسز دالوي» الشهيرة التي دشّنتْ بها أفق الحداثة والمسار الجديد لأعمالها كلها، ومن ضمنها أيضاً «أورلاندو» السيروية، تلك التي صدرت عام 1928، وهي بمثابة رواية سيرة ذاتية لحياتها الشخصية.

سعت فرجينيا وولف بفنها المغاير، لأن تؤسس مع من سبقها كهنري جيمس ومارسيل بروست صاحب الرواية الذائعة «البحث عن الزمن الضائع» إلى تجسيد تقنيات مبتكرة في الفن الروائي.

تتحدَّر فرجينيا وولف من عائلة إنكليزية مرموقة، فوالدها هو السير ليزلي ستيفن، ولقب السير لا يحمله إلا المؤثرون في الحياة الإنكليزية عامة، الذين لهم مواقف وخدمات جلى في مجالات الاقتصاد والفنون والعلوم والآداب والسياسة وغيرها مما يرتبط بالقضايا الإنسانية الكبرى، فوالدها محرّر معجم «السِّيَر القومية» وبدءاً من عام 1912 ستقترن بليونارد وولف، وهو صحافي وكاتب، كان يدير مطبعة «هوغارث» التي طبعت غالبية كتبها. آنئذ لفتتْ انتباه القراء روايتها الأولى»الرحلة البحرية إلى الخارج»، لتكر بعدها الأعمال المميزة، تلك التي تعد فتحاً لمسار الحداثة الجديد، المسار الصعب الذي لم يكن ليخترق بسهولة، كونه مؤثثاً بأسماء كلاسيكية كبيرة وفاعلة حينذاك في مشغل الرواية العالمية .
لقد سعت فرجينيا وولف بفنها المغاير، لأن تؤسس مع من سبقها كهنري جيمس ومارسيل بروست صاحب الرواية الذائعة «البحث عن الزمن الضائع» إلى تجسيد تقنيات مبتكرة في الفن الروائي، وبخاصة العمل على الزاوية التكنيكية في الرواية، وتمهيد السبيل إلى العامل السايكولوجي المهم والمسيطر على جل أعمالها، بجعل العمل والنص الروائي والسرد الذي يتخلل نسيج الرواية، شبكياً ومعقداً وذا منحى تركيبي، تتواشج فيه الأمشاج بطريقة تحمل على التفكير، وإعمال الذهن، والمنطق، وتحفيز المخيلة على تجاوز الصيغ النمطية والتقليدية، العادية التي تميزتْ بها رواية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، حتى استوعب القراء هذا الفن الروائي الجديد، المفتوح على الاحتمالات والتأويلات والرموز التي تلج النص، ناخلة إياه من الصيغ الجاهزة، والتعابير السطحية التي حفلت بها الرواية سابقاً، وكرسته كأيقونة لا يمكن زحزحتها، لكن المواهب الكبيرة، والفن العظيم، قارد على الدوام، على تقديم عامل الإزاحة، وقادر على تحفيز الرأي العام على القبول بالمختلف النابذ للمتشابه، والشكلاني، والنابذ للقوالب والأساليب الجاهزة، وهذا ما حققه الروائيون الجدد، كفرجينيا وولف وصحبها من اختراق السياق التقليدي للرواية العادية، كيما يقدموا أيقوناتهم المذهلة، والمبشرة برؤاهم الجديدة، في عصر ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

عاشت فرجينيا وولف ويلات الحرب العالمية الأولى، وأيضاً الثانية تلك التي انطلقت شرارتها في عام 1939 لتعيش حالات صفارات الإنذار، والتعتيم الدائم على الحياة وإغراقها في ظلام دائم ودامس، ولتعيش حالات من الخوف والرعب والقلق الذي يلاحق الطفولة والطبيعة والبشر والكائنات. ولقد كتبت في مذكراتها أثناء الحرب وهي في قريتها في الريف الإنكليزي حيث تقول «كم كرهتُ هذا التعتيم الأسود، أن التعتيم الأسود أشد إجراماً من الحرب ذاتها، لم تغب عن خاطري لندن، في حال السلم، مصابيح الليل… كنت كثيراً ما أتشوّق لجولاتي المسائية… كان إحساسي الوطني يشتعل، بالرغم من كوني أميل للنهج المسالم، وأرفض الحرب بكل مستوياتها، كان زوجي متورطاً في العمل السياسي، وكنت على دراية بالكثير من الظروف السياسية التي يمر بها العالم آنذاك، غير أني بدأت أشعر أن التفكير في أسباب الحرب لون من إهدار الوقت».

فرجينيا وولف وهي تعيش أيام الحرب في بلدتها الصغيرة والآمنة إلى حد ما، كانت مستعدة للانتحار مع زوجها اليهودي الأصل بطريقة الاختناق بالغاز، إذا ما داهم النازيون منزلهم لحظة اجتياح لندن والقصبات والقرى البريطانية.

على أن فرجينيا وولف وهي تعيش أيام الحرب في بلدتها الصغيرة والآمنة إلى حد ما، كانت مستعدة للانتحار مع زوجها اليهودي الأصل بطريقة الاختناق بالغاز، إذا ما داهم النازيون منزلهم لحظة اجتياح لندن والقصبات والقرى البريطانية.
كانت وولف فتاة رقيقة، وفائقة الحساسية، منذ صغرها، ومنذ ولوجها الحياة المحافظة في لندن، هي وشقيقاتها، يوم عمد الأب المحافظ أن يُدرِّس بناته في المنزل، دون الذهاب إلى المدارس والإعداديات والجامعات، كان التدريس يتم في البيت، وتحت اشراف تعليمي راق، ومراقب بطريقة مثلى، من قبل عوائل الارستقراطيات البريطانية، وهي طريقة كانت قد تركتْ أثرها البالغ على شكل حياتها، وعلى مسار شخصيتها، تلك الشخصية التي نشأت في عالم شبه مغلق، عالم العزل عن عالم الطفولة، عالم الصديقات، واللهو واللعب، مع الفتيات الصغيرات اللواتي في مثل سنها في فضاء المدرسة، أو رؤية العالم الذكوري هناك، والنشوء في جو مشترك ومختلط، الذي سيكون غير جو الستائر الثقيلة المسدلة، على حياة العائلة التي كانت تسكن بمنطقة «الهايد بارك» في كنسزكتون، حيث الحياة الجميلة والراقية، والداعية إلى التأمل، والتمتع بهبات الطبيعة ومعطياتها الخضراء والساحرة.

لعل المرض النفسي الذي لازمها طويلاً منذ فقدانها المبكر لأمها، ثم الموت البطيء لوالدها ولشقيقها المحبوب والمُقرَّب إليها، وبعدها موت أصدقائها الكثار، وتداعيات الحرب، وما خلفته في النفوس من مشكلات وويلات ودمار روحي ونفسي وحياتي هو الذي عجَّل في رسم نهايتها، بالانتحار غرقاً في نهر «أووز» بالقرب من منزلها في بلدة «ساسكس» في الثامن والعشرين من شهر آذار/مارس عام 1941 مثقلة معطفها بالحجارة، ومُخلفة رواية جديدة عنوانها «بين فصول العرض» ورسالتين واحدة لأختها، وأخرى لزوجها، توضح فيهما التداعيات العقلية والنفسية التي ألمت بها في ذلك الوقت، مما دعاها لوضع حد لحياتها الشخصية.

وعطفاً على السياق الآنف، تنبغي الإشارة إلى أن كتاب «جيوب مثقلة بالحجارة» لمترجمته الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، ومراجعة وتصدير المترجم ماهر شفيق فريد، يضيف إلى عالم فرجينيا وولف بالعربية والعالمية، الكثير من المواكبة المشرقة لأعمالها الروائية والقصصية، وكذلك لحياتها التي انتهت نهاية مأساوية.

فرجينيا وولف : «جيوب مثقلة بالحجارة»
ترجمة وتقديم : فاطمة ناعوت
المركز القومي للترجمة، القاهرة 2018
157 صفحة.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.


فرجينيا وولف على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)