جورج نصر... الاب الشرعي للسينما اللبنانية

, بقلم محمد بكري


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٣٣٦٢ الخميس ٤ كانون االثاني ٢٠١٨
جريدة الأخبار
ادب وفنون


جورج نصر... الاب الشرعي للسينما اللبنانية



أكثر من 60 سنة مرّت على عرض «إلى أين؟» في المسابقة الرسمية من «مهرجان كان السينمائي». بعد كلّ هذه السنوات، عاد المخرج التسعيني في أيار (مايو) الماضي الى المدينة الفرنسية الساحلية في مناسبة عرض النسخة المرممة من الشريط ضمن «كلاسيكيات كان». اليوم، تعيد «متروبوليس أمبير صوفيل» اكتشاف ذلك السينمائي الذي ظلمته الظروف التاريخية والاجتماعية، بعدما وضع الفن السابع اللبناني على الخريطة العالمية. اشتغل على تأصيل سينما بتيمات ومواضيع وإطار ومفردات لبنانية، تحاكي هموم المجتمع الذي طلعت منه، على رأسها الهجرة والهوية والبيئة الريفية

ساندرا الخوري

لزم الأمر ما يزيد عن نصف القرن ليرى جورج نصر (1927) نفسه مكرماً في المهرجانات الدولية مجدداً وفي لبنان خصوصاً. هو الذي اعتبر 2017 سنة التكريمات التي بدأت في «مهرجان كان السينمائي الدولي» واستُكملت بصدور فيلم وثائقي («نصر» - 65 دقيقة ـــ للمخرجين بديع مسعد وأنطوان واكد)، وكتاب حول مسيرته بعنوان «جورج نصر: السينما الداخلية» (إشراف غسان قطيط ـــ منشورات جامعة الـ «البا». علماً أنّ نصر تولى تعليم مادة الإخراج هناك على مدى سنوات).

التقته «الأخبار» في أحد مقاهي الحمرا حيث اعتاد الجلوس. عدنا معه بالذكريات الى خمسينيات القرن الماضي والى مسيرته الشاقة في عالم السينما، والى ما اعتبرها فترة محاربة له.

في أواخر الاربعينيات، كان جورج نصر طالباً في الهندسة المعمارية في إحدى جامعات شيكاغو. ابن طرابلس ــ كما يقول ــ كان بحاجة الى رؤية البحر، وعندما انتقل لإكمال دراسته في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس، لم يُعترف بسنتي الدراسة اللتين قضاهما في شيكاغو، فاضطر للبدء من الصفر. تعرّف مصادفة الى رجل كان يسكن في المكان نفسه الذي استأجر فيه غرفة، فأخبره عن اختصاص السينما في الجامعة نفسها حيث كان يدرس. اعتبره نصر بمثابة وحي من الله، هو الذي كان يشاهد سبعة أو ثمانية أفلام في الاسبوع، فكانت تلك البداية في عالم السينما.


مشهد من فيلم «إلى أين ؟"


مع انه عمل لثمانية أشهر في استديوهات هوليوود بعدما تخرّج، لم يرغب نصر في البقاء هناك، إذ رأى أنه سيحتاج الى أكثر من 10 سنوات ليعرف درب الشهرة. فضّل العودة الى بيروت. وبعد فترة تدريب في باريس، بدأ البحث عن منتج لفيلمه الروائي الاول وعن موضوع مناسب: «كنت قد ذهبت قبل عام للبرازيل، ورأيت اللبنانيين ينامون في الحدائق. كما زرت نيويورك لاحقاً ولاحظت انتشار اللبنانيين هناك. في أحد الايام، رأيت منهم من ينتظر أمام باب مطعم أملاً بالحصول على بعض فتات الطعام. وهكذا ولدت فكرة الحديث عن الهجرة التي كنت ضدّها». عن ذكريات التصوير وصعوباته آنذاك، يخبرنا نصر: «اخترت منطقة درعون بالقرب من حريصا وكان الضباب يلفّها غالباً. لم يكن التصوير سهلاً، خصوصاً في وجود ثلاثة أجيال في الفيلم. وكان من الصعب إيجاد الوقت المناسب لجمعهم، إذ إن الصغار يذهبون الى المدرسة، أما الكبار فيعملون. كنا ننتظر أيام الفرص للتصوير، فاستغرق الامر نحو 11 شهراً. لم يكن هناك من محترفين وتقنيين كما هي الحال اليوم، فاجتمعت بأصدقاء، وأسندت الى كل منهم وظيفة ما في الفيلم.



ثمّ اقتُرح عليّ في باريس، حيث أجريت المونتاج، أن أُرسل الفيلم الى «مهرجان كان». لم تكن هذه الفكرة في بالي من قبل، بل لم أملك الجرأة للتفكير بها أساساً. فكان بالفيلم أن أعجبهم وهكذا بات «الى أين؟» أول فيلم يمثّل لبنان رسمياً في «كان» ويضعه على الخريطة السينمائية للعالم. يومها، كان «مهرجان كان» في سنته العاشرة».

لم يمرّ تصوير الفيلم وإنجازه من دون صعوبات أخرى على الصعيد التقني أيضاً. اضطر الطاقم الى التصوير مجدداً بعد استخدام كاميرا غير ملائمة في المرة الاولى، إذ كان المصوّر رودريغ دحداح الآتي من عالم الدعايات لا يملك الخبرة في المجال السينمائي. يتذكر نصر: «في مشهد الدبكة في الفيلم، لجأنا الى ثلاث كاميرات، ولم يكن هذا الامر رائجاً آنذاك، وقد استغرب المبتدئون في عالم السينما الأمر. صورّنا الفيلم من دون تسجيل صوتي، وعملنا على الدبلجة لاحقاً في لبنان. ولكننا واجهنا صعوبة في فرق السرعة في الصوت بين لبنان وفرنسا أيضاً!».

بعد العودة من «مهرجان كان» عام 1957، شعر نصر بخيبة كبيرة: «توقعت أن يتمّ استقبالي في المطار، ولكن لم يكن هناك أحد. كما لم تقبل أي صالة لبنانية عرض الفيلم، الا في الاوبرا. ولكن جمهور هذه السينما كان متعوداً على الافلام المصرية. «الى أين؟» موضوع لبناني وتمثيله جامد، لم يتعرف الجمهور إلى نفسه فيه». ضمن فئة كلاسيكيات التي يحتفي خلالها «مهرجان كان» سنوياً بأعمال قديمة بارزة، عُرض «إلى أين؟» بنسخته المرممة (بمبادرة من قبل شركة «أبوط» و«مؤسسة سينما لبنان» و«نادي لكلّ الناس») في أيار (مايو) الماضي، بعد مرور 60 عاماً على تقديمه في المهرجان نفسه، بحضور مخرجه الذي اعتبره تكريماً هائلاً بعد كلّ هذا الوقت.

مشاركة نصر الأولى في «مهرجان كان» تبعتها أخرى العام 1962 مع فيلم «الغريب الصغير». وكان له فيلم روائي ثالث بعنوان «المطلوب رجل واحد» (1973) الذي يؤكد نصر أنّه عُرض في سوريا لأكثر من 30 عاماً !

أما في ما يتعلّق برحلته الأخيرة الى كان، فيضيف: «كان شرفاً كبيراً أن أمثل لبنان رسمياً في كان، مع كل الصعوبات التي واجهناها لصنع الفيلم. عرض الفيلم ثمانية أشهر بعد تأميم قناة السويس. وانتقدتني إحدى الصحف الفرنسية بسبب اسمي وأشارت إلي بـ «نصر ما» (Un Certain Nasser) وكأنني من أقارب عبد الناصر، إذ كان الاسمان يكتبان بالطريقة نفسها بالفرنسية». «نصر» أو Un Certain Nasser هو أيضاً عنوان فيلم وثائقي من إخراج أنطوان واكد وبديع مسعد تعرضه «متروبوليس» تزامناً مع عرض «إلى أين؟». شريط يتركز على شخصية نصر ومسيرته التي يرويها بنفسه كونه نجم الفيلم كما يؤكد بفكاهة.

مسيرة جورج نصر في السينما والحقبة التي انطلق فيها كانت مرتبطة بشكل وثيق بظروف المنطقة السياسية والتاريخية. يروي لنا: «آنذاك، كان عبد الناصر قد أمّم السينما المصرية، وأصبح التركيز على إنجاز أفلام يمكن عرضها في الدور المصرية. كان هناك إنتاج كثيف للافلام في لبنان، ولكنها كانت من دون هوية. في تلك الفترة، لم أشأ أن أقوم بما يتعارض مع قناعاتي في السينما، وعملت في المقابل على نحو 150 فيلماً دعائياً وأفلام وثائقية.



كنت أريد أن أخلق سينما لبنانية، ولكن تلك لم تكن رغبة الجميع، والميل كان الى إنتاج الافلام التجارية التي تأتي بالارباح. اتصلت بعشرة وزراء والكثير من المسؤولين يومها لتأسيس صندوق دعم للسينما، لكن من دون جدوى. كنت مقتنعاً أنه لو ساعدت الدولة السينما اللبنانية، كان بإمكانها أن تصبح صناعة مهمة. لم أتوقف عن الكتابة للسينما طوال هذه الفترة، وأملك الآن خمسة نصوص، أحدها بعنوان «على عيون الناس». أحتاج الى التمويل لإنجازه، وأرغب في إنتاجه بنفسي لأنه موضوع لبناني زغرتاوي. كتبته العام 1959، وعندما اندلعت الحرب، اكتسب المزيد من العمق. من الصعب أن نلاحظ بعد كلّ هذا الوقت والحروب أنّ شيئاً لم يتغيّر. هناك في تاريخ لبنان ما يغذّي السينما لعشرات السنين».

اليوم، لا يزال نصر يشعر بأنه حورب بشدة آنذلك: «السفير المصري كان يدير السياسة هنا. هيمنة السينما المصرية على صالات السينما كانت تامة، وكان أصحاب الصالات ينتظرون الاعياد لعرض فيلم مصري، من دون أن يعوا أن السينما هي في الواقع مرآة البلد الذي تصدر منه. يمكنها أن تكون إحدى أبرز الصناعات في لبنان. أفلام بريجيت باردو كانت تجلب لفرنسا مبالغ طائلة. ولكن للأسف تلك كانت الظروف التي مررت بها، ولم يسعني الا تلقي تلك الضربات».

من جهة أخرى، يتحدث نصر عن نظرته الى السينما في العالم وفي لبنان اليوم: «أصبحت الافلام الاميركية متشابهة وتجارية، ولم يعد هناك الا القليل من الاعمال الجيدة. ولكن السينما الاوروبية أكثر غنى من ناحية المواضيع». أما بالنسبة الى الافلام اللبنانية، فيقرّ أنه لا يتابعها حقاً: «التلفزيون قلل من قيمة تكاليف الانتاج. وأي كان يسمّي نفسه مخرجاً، في غياب الرقابة على المستوى والنتيجة «تخبيص». لكن أجد أن أفلام بعض من تلاميذي هي الافضل، على غرار مير جان شعيا وأمين درة اللذين قدّما فيلمين جيدين».

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية

المقال بالـ Pdf في جريدة الأخبار

المقال بالـ Pdf في جريدة الأخبار


رحلة الترميم وسيرة المخرج

تعرض «متروبوليس أمبير صوفيل» النسخة المرمَمة من «إلى أين؟» الذي يشكّل محطة مهمة في تاريخ السينما اللبنانية، إذ وَضَعَها على خريطة الفن السابع العالمية كونه شارَك عام 1957 ضمن المسابقة الرسمية لـ «مهرجان كان»، وكان بذلك أول عمل سينمائي لبناني يُعرَض عالمياً. كذلك، تقيم «متروبوليس» بالتوازي عُروضاً للشريط الوثائقي «نصر» (Un Certain Nasser) الذي يتناول سيرة المخرج.

وكان جرى ترميم «إلى أين؟» بمبادرة من شركة «أبوط برودكشنز» (Abbout Productions)، و«مؤسسة سينما لبنان» و«نادي لكل الناس». وعُرِضَت النسخة المرممة ضمن تظاهرة «كلاسيكيات كان» (Cannes Classics) في الدورة السبعين من المهرجان، بعد 60 عاماً على مشاركة الفيلم في المهرجان. وكان جورج نصر حاضراً شخصياً خلال عرض الفيلم في مشهد مؤثّر.

أما الوثائقي، فهو من إخراج أنطوان واكد وبديع مسعد، ويتبع مسيرة جورج نصر والمعارك التي خاضها من أجل إيجاد صناعة سينمائية في لبنان، ويربط بين قصّة حياته وقصّة ولادة وتطوّر السينما اللبنانيّة. وقد حصل «نصر» في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت على «جائزة صلاح أبوسيف» لأحسن إسهام فني من مسابقة «آفاق السينما العربية» ضمن الدورة 39 من «مهرجان القاهرة السينمائي».

وأملت ميريام ساسين من شركة «أبوط برودكشنز» في أن يُقبِل الجمهور على حضور هذا الفيلم «الذي يشكّل محطة مهمة في تاريخ السينما اللبنانية». وقالت: «نحن فخورون بأننا ساهمنا من خلال ترميم هذا الكنز الوطني، في توثيق هذا الجزء من تاريخنا وحمايته وتعريف الأجيال الجديدة به وبمخرج بالغ الأهمية لا يعرف اللبنانيون تفاصيل مسيرته وقيمتها».


الاغتراب مذ كان لبنان

الهجرة والاغتراب احتلا كل بيت لبناني منذ أن وجد هذا البلد. يروي «إلى أين» قصة عائلة فقيرة تعيش في إحدى القرى اللبنانية في خمسينيات القرن المنصرم. يقرر رب العائلة الهجرة إلى البرازيل بحثاً عن حياة أفضل لعائلته ولكن لن يعود قبل عشرين عاماً وقد ناضلت الأم لتربية أولادها وحدها. عبر قصة هذه العائلة، أراد جورد نصر استكشاف تيمة الهجرة والعيش في المنفى ورسم صورة لمجتمع ما زال يواجه الصعوبات نفسها بعد مرور كل هذا الوقت، مازجاً بين تقنية الوثائقي والروائي، وموثقاً للحياة في القرية اللبنانية وتقاليدها.


حقوق النشر
مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الخميس 04-01-2018
المدن - ثقافة
روجيه عوطة


مأساة جورج نصر


جورج نصر في مهرجان “كان”


ابتداء من اليوم الخميس، ستعمد سينما “ميتروبوليس” إلى عرض فيلم “إلى أين؟” لجورج نصر، بالإضافة إلى فيلم معنون باسمه الأول. طوال أسبوع، سيجري تكريم هذا المخرج، وذلك، في سياق الإحتفاء به على إثر عرض مهرجان كان لـ"إلى أين؟" ضمن كلاسيكياته في العام الماضي.

وحين تقدم “ميتروبوليس” على خطوتها تلك، تبدو أنها تكلل تجربة المخرج، بطريقة وجيزة، صحيح، ولكن، بطريقة محكومة بفوات الآوان أيضاً. ومرد هذا، ليس لأنه المخرج صار تسعينياً، بل لأن تجربته، والقصيرة بدورها، في صناعة السينما هي خلاصة التاريخ الرسمي للفن السابع في البلاد، التي تنطوي على ضرب من ضروب المأساة. وبالطبع، الكلام هنا عن رسمية هذا التاريخ لا يعني حضور غيره على الرغم من المحاولات فيه.



بدأت تجربة نصر من انحرافه عن أمر الأهل، إذ إن إخوته، وبسبب عمل الأب في التجارة، درسوا المحاسبة في حين أنه توجه إلى دراسة الهندسة المعمارية، قبل أن يتغلب حبه للسينما على تخصصه العلمي المتعثر، فيمضي إلى إثباته. حصّل هذا الحب الفني أكاديمياً في لوس أنجليس، وتنفيذياً في استديوهات هوليوود وفرنسا، ولاحقاً، قرر العودة إلى الأهل، وهم، في هذا السياق، البلد بأكمله، لكي يؤسس لما شاهده واختبره في الخارج، أي سينما محلية. أخرج فيلم “إلى أين؟” (1958)، ذهب به إلى مهرجان كان، إلا أنه، ولما رجع به إلى لبنان، جمهور الأهل لم يستقبله، وذلك، مع أنه يدور بوقائعه عن الشريحة المهاجرة منهم، فخلال غياب نصر عنهم، كانوا قد اعتادوا على السينما المصرية والأميركية. كان هذا أول النفي، الذي تعرض نصر له، وعلى إثره، وبعد ثلاث سنوات من “إلى أين؟”، أخرج “الغريب الصغير”، الذي تناول فيه قصة فتى يراهق وينضج في عالم الرجال. ولكن، النفي استمر، وطال هذا الغريب، أي المخرج وفيلمه، من جديد، فقد رفضت الصالات عرضه.

غدا نصر سينمائياً بلا سينما، ومنتجاً بلا ربح، وقبل كل هذا، كان نصر فناناً بلا مكان، وبالتالي، كان لا بد له أن يفتش عن هذا المكان، الذي يضمن فيه التوازن بين سينمائيته وإنتاجه، وفي الوقت نفسه، يسوي داخله صلته مع أهله. فوجد مكانه هذا في الدولة، وفي مؤسستها العسكرية على وجه الدقة، عامداً إلى إخراج أفلامه القصيرة عن الجيش اللبناني، وإحترام الأهل له، عدا عن إخراج أفلام وثائقية عن بلدهم. فقد تمسك الغريب بنضجه، الذي لاح في فيلم الطويل الثاني، وراح يصنع صورة تربط الدولة بأهلها، ولما كان هذا وضعه، قرر التأكيد على أنه ما عاد الغريب، بل إنه كبر، متحولاً إلى ابن، يسعى، وبعد وفاة أبيه، إلى تخليص أهل قريته من الدخيل فيهم، والزارع للفتنة بينهم، وهذه قصة فيلمه “مطلوب رجل واحد”. وعلى هذا النحو، الغريب صار راشداً، وصار يصطاد الغرباء بين أهله.



ظن نصر أن غربته حيال أهله قد تخففت عبر وسيط الدولة، إذ عمل على صنع صورة لهما. لكن هذه الصورة لم تتواصل. فحرب الأهل ودولتهم سرعان ما اندلعت، مبقيةً غريبها السابق على هامشها، حيث استمر في إخراج الأفلام الوثائقية، وعاود التفتيش عن مكان ثان له، يقيه انهيار المكان الأول. جهد في تأسيس نقابة لتقنيي الأفلام، فلم يفلح، وصندوق لدعم السينما المحلية، فلم ينجح. انتهت الحرب بلا أن يخرج فيلماً طويلاً، يضيفه إلى أفلام غربته، وعندها، تبدل من مخرج إلى مدرس في الجامعة. هناك، شرع نصر في نقل تجربته المحتبسة إلى أولاد الحرب إياها، فإذا استفهموا منه عن غياب السينما المحلية، يعيد سرد قصة “مطلوب رجل واحد” على مسامعهم، مخبراً إياهم عن الدخيل المصري والغربي عليها، وإذا استفهموا منه عن معنى هذه السينما، يقارن لهم بين الكاميرا والريشة، وإذا سألوه عن امتهانها، يحدثهم عن الحظ، الذي يتمناه لهم، أما، وإذا سألوه عن التلفزيون، فيلتبس الأمر عليه، متأرجحاً بين ذمه ومدحه. فنصر لا يريد تعليمهم دواعي انتقاله من الشاشة الكبيرة إلى الشاشة الصغيرة، ولكن، أن يحميهم من شر الغربة فقط. نقل نصر هذه التجربة إلى تلاميذه، علّهم يستكملونها، وإذا لم يفعلوا، يكون قد ذاع بها بينهم على الأقل، وحينها، يجد في شهرته سبيلاً لتسكين غربته أكثر، فلما لا ما دام حلمه الهوليوودي الأساس كان أن يغدو ممثلاً، لا مخرجاً؟!

إلا أن هؤلاء التلاميذ شبوا وشابوا، وتوزعوا بين إخراج الدعايات، والفيديوكليبات، والمسلسلات، والوثائقيات، والأشرطة الممهورة بصيغ نمطية، تقسم نفسها على أساس ثنائية “تجاري” و"بديل". وقد كان نصر، ومن جامعته، مطمئناً إلى أن مكانه مصان بينهم، نظراً إلى أنه درسهم، أو تحدثوا عنه لزملائهم في المهنة. ودليله على ذلك، أن مخرجة شهيرة، تدعى نادين لبكي، عنونت فيلمها بـ"هلق لوين؟"، وهو عنوان قريب من فيلمه الأول “إلى أين؟”. ذهب نصر إلى صالة العرض، حيث يجري إطلاق فيلم لبكي، عرفها عن نفسه، لكنها، للأسف، لم تعرفه. سقط المكان بين التلاميذ، واستنتج نصر: «هناك نكران للماضي السينمائي من قبل الجيل الجديد». وهكذا، الابن، في “مطلوب رجل واحد”، صار أباً، أي من عديد الأهل، وغدا يقرع أبناء تجربته، التي لم ينقلها لهم سوى لحمايتهم من الغربة، وهم، بدورهم، داوموا على هذه التجربة بدون أن يشعروا بالغربة. لم يتجاوزا مدرسهم، أكلموا ما بدأه، ولكن، حلوا في مقاصد مختلفة عن مقاصده.

فعندما لاح بـ"إلى أين؟"، وبمعية “أبوط برادكشون” و"مؤسسة سينما لبنان"، في مقصدهم الرئيسي، أي مهرجان كان، من جديد، إنتبهوا إليه، وشرعوا في الإحتفاء به، فاتحين صالات مدينتهم إليها. ولكن، التكريم هذا ينطوي على تكليل لنفي نصر، نفيه الأهلي ونفيه الذاتي. لقد قال نصر عن “إلى أين؟” بأنه “مأساة حياته”، التي لم يقدر على التخلص من غربتها من خلال الأمكنة التي فتش عنها، ولم يستطع زيادة أفلام طويلة أخرى عليها لكي لا تعود سلبية. مأساة بدأت في مهرجان كان، وانتهت إليه، الأهل رفضوها، وأبناء حربهم كرموها بدون أن يدركوها، ذلك، أن مدرّسها لقنهم التغاضي عنها حين نقل تجربته لهم.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


جورج نصر

المخرج السينمائي مواليد 15 يونيو 1927 في طرابلس أتمّ دراسته الابتدائية والتكميلية والثانوية في مدرسة الفرير - طرابلس، وتخرّج منها ببكالوريا تجارية، فأعمال الوالد حدّدت مسار الأبناء إذ توجّه كل أشقائه إلى دراسة المحاسبة. ومع ذلك كان شغفه بالسينما واضحًا، فقد كان يشاهد نحو ثمانية أفلام في الأسبوع، هذا الشغف ما لبث أن حدّد له مسارًا جديدًا في ما بعد. إتجه إلى التخصّص في الهندسة المعمارية عبر المراسلة مع معهد American school of Chicago، وبعد سنتين (1948) قصد الولايات المتحدة الأميركية وتحديدًا ولاية شيكاغو لمتابعة دراسته في المعهد نفسه، لم يوفّق، فهذا المعهد يعتمد التعليم بالمراسلة فقط. قصد مدينة لوس أنجلوس بحثًا عن جو مشمس لمتابعة اختصاصه، وهناك، أحدثت الصدفة تحوّلاً أساسيًا في مسيرة حياته، إذ انتقل من الهندسة المعمارية إلى الإخراج السينمائي. درس أربع سنوات في جامعة University of California in Los Angelos-ACLA، وحاز الإجازة العام 1954 بتفوّق. أما فترة التدريب فكانت بين استوديوهات هوليوود، والاستوديوهات الفرنسية. وفي تلك الأثناء أتيحت أمامه فرصة العمل مع فريق أنتاج للسينما والتلفزيون في الخارج، لكنّه فضّل العودة إلى الوطن الجميل (1955)، وفي باله حلم كبير: تأسيس سينما في لبنان. وأنتج فيلمه الأول «إلى أين؟» (1956)، الذي سلّط الضوء على معاناة المهاجرين اللبنانيين إلى أميركا والبرازيل، والظروف المأسوية التي يعيشونها. وفي حين تمّ تصوير الفيلم في منطقة درعون - حريصا، وضعت اللمسات الأخيرة عليه في أحد الاستوديوهات الفرنسية، هناك شاهده أحد المخرجين الفرنسيين، فأعجب به وتحدّث عنه إلى لجنة مهرجانات «كان»، وهكذا أدرج الفيلم في المهرجان وصنّف بين الأفلام الثلاثة الأول (1957)، وأدرج لبنان، وللمرة الأولى، على الخريطة السينمائية العالمية.فيلم «المطلوب رجل واحد» من إنتاج نقابة الفنانين السوريين. صوّر هذا الفيلم في سوريا، وفي منطقة كسب على الحدود التركية. ومثّل سوريا رسميًّا في كل من مهرجاني موسكو و قرطاج.

عن موقع السينما.كوم

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)