جامع السليمانية لسنان باشا

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة، ٣٠ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«جامع السليمانية» لسنان باشا : قوة حضارة في عمرانها


في العام 1539 أنجز المعماري العثماني، سنان باشا، في إسطنبول، أول مبنى غير عسكري اضطلع بمهمة تشييده، وذلك بعدما أنفق السنوات السابقة في تصميم وتنفيذ الكثير من الجسور الحربية والتحصينات والثكنات. وهو سيواصل العمل طوال نصف القرن التالي، أي حتى رحيله في العام 1588، في إنشاء الكثير من تلك الروائع العمرانية التي ستعطي المعنى الأساسي لعبارة «العمران العثماني» طوال القرون التالية، وستجعل من إسطنبول وغيرها من المدن العثمانية - التركية، مكان وجود هندسة عز نظيرها في ذلك الحين إلا في كبريات المدن الأوروبية العريقة. ولسوف يدهش العالم كله أمام ذلك العمراني العجيب الذي، من ناحية الكيف، أعاد اختراع الهندسة المعمارية من أساسها لتتناسب مع القواعد الإسلامية كما مع الصورة التي رسمتها عظمة الحضارة العثمانية نفسها، ومن ناحية الكم، أنجز طوال فترة نشاطه البالغة أكثر من خمسين عاماً، ما لا يقل عن 300 صرح، بين مسجد وقصر وتكية وكرفان - سراي ومدرسة. ناهيك بالمقبرة الجماعية وعدد لا يحصى من القبور الفردية. ولعلهم لم يكونوا مخطئين كثيراً أولئك المؤرخين، الذين اعتبروا القبر الذي شيّده سنان لنفسه، مأثرته الكبرى، خارج إطار تشييده المساجد الهائلة والتي لا تزال قائمة حتى اليوم تشهد على مرور هذا الرجل غير العادي في دنيانا. ومع هذا يظل المسجد الجامع الذي بني تخليداً لذكرى السلطان سليمان في إسطنبول، - بين أعمال لا تقل عنه جمالاً، مثل إعادة الاشتغال على «آيا صوفيا» ومسجد السليمية في أدرنة، ومسجد شيخزادة في إسطنبول -، يظل العمل الأكبر الذي حققه سنان باشا الذي كان يقول عنه إنه العمل الأساسي خلال فترة نضوجه الفنية.

بالنسبة إلى مسجد السليمانية الجامع الذي أنجزه سنان باشا بين 1550 و1557، من الواضح أن هذا المعماري الفنان الكبير، انطلق في بنائه من سؤال كان يؤرقه، وهو المتحدر من مسار ألف عام من الهندسة العمرانية البيزنطية: ترى أفلا ينتقص من قدر الهندسة الإسلامية أن يكون المهندسون الذين عملوا مع الإمبراطور جوستنيان، قبل ذلك بقرون عدة، قد وفّروا داخل المعابد مساحات كانت أكثر فساحة وضخامة وراحة للتحرك والنظر، من كل ما تمكن المهندسون المسلمون، من عثمانيين وغير عثمانيين، من تحقيقه حتى الآن (أي حتى أواسط القرن السادس عشر)؟ والواضح أن سنان، بعدما كان أنجز مأثرة في هذا المجال عبر تمكنه من إقامة قبة فسيحة في مسجد شيخزاده قبل ذلك بسنوات، إنما حقق هذه المرة مأثرة أكثر أهمية، من الناحية التقنية خاصة، في السليمانية. إذ أنه هنا، وتعويضاً عن عدم قدرته على إحداث تحولات داخلية كبيرة في «آيا صوفيا» إذ حُوّل من كاتدرائية بيزنطية إلى مسجد عثماني، استفاد سنان من تجربته في الشيخزاده، وتمكن من أن يجعل العين داخل فناء السليمانية، ومهما كان الموقع الذي يقف فيه المتفرج، تتجه مباشرة الى المحراب، يساعد على ذلك الضوء الزهري اللون الذي يحمل إلى المتفرج قدراً كبيراً من الإحساس بالتأمل والخشوع. وإضافة إلى هذا يحس المتفرج ما أن يقف في الداخل أن القبة المرتفعة بشكل استثنائي تطل عليه وعلى الكون كله، يساعد على ذلك - هنا - الأسلوب العمراني الفذ الذي جعل سنان يستغني عن إقامة أي عمود في المساحة الهائلة التي تتوسط المسجد.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن سنان استخدم في بناء جامع السليمانية، التصميمات نفسها التي كان استخدمها في بناء «شيخزاده» وكان اقتبسها أصلاً - ومع تعديلات عدة يستجيب في معظمها لقواعد الصلاة والاجتماع في الإسلام -، من مخطط إنشاء آيا صوفيا، الذي كان يعتبر من أعظم مآثر الهندسة البيزنطية. وجامع السليمانية كما يعرف كل زائر إلى إسطنبول يطل اليوم على المدينة متوسطاً إياها ويمكن مشاهدته من أي نقطة من نقاطها، وكأنه يقوم بحراستها ببنائه الأساسي الذي تتوسطه، كما يشاهد من الخارج، تلك القبة الضخمة تحيط بها قباب ثانوية وُزّعت بشكل متناسق، إنما غير رتيب، لتعطي المشهد من الخارج قدراً كبيراً من الجمال والفرادة. وهذه القبب الصغيرة تحيط بها من زوايا البناء الأربع، أربع منارات نحيلة شديدة الارتفاع، يُفترض مبدئياً أن سنان باشا قد تعمّد أن تكون ذات نعومة شكلية تتنافى والضخامة التي للبناء ككل، بشكل يجعلها تبدو متسللة بأناقة ورفق في اتجاه السماء، أو على أية حال تتجنب أن تنافس القباب نفسها في احتلالها المكان في شكل يجعلها أكثر بروزاً. والحال أن نحول منارات جامع السليمانية يستجيب في مفهومه لذلك التصوّر المهيمن على بناء المآذن العثمانية بصورة غالبة، ما يتناقض، مثلاً مع ما يسم عمران المآذن المملوكية أو الأندلسية أو حتى العباسية من ضخامة ترجّح كفة القبة على المئذنة. وهو موضوع شغل على أية حال اهتمامات كثر من دارسي العمران الديني الإسلامي في العصر الحديث ومن الواضح أنهم لم يتفقوا على نظريات قاطعة في شأنه.

ومهما يكن من أمر من البديهي القول أن سنان باشا في بنائه جامع السليمانية، - وكذلك في الكثير من إنجازاته الأخرى، التي يصعب حصرها، وإن كان في الإمكان التوقف دائماً عند «الشيخزاده» كما عند مسجد «السليمية» إضافة إلى تعديلاته البسيطة أحياناً الجذرية في أحيان أخرى، في «توبكابي» و»آيا صوفيا» -، تمكّن من أن يحقق للعمران الإسلامي ما كان يتمناه له منذ البداية، معبراً بهذا عن وفائه للدين الإسلامي الذي سيقال لاحقاً أنه كان اختياره الشخصي أن ينتمي إليه، كما كان اختياره الشخصي أن يضع في العمران المرتبط به والدال عليه، كل ذلك التاريخ الذي كان يحمله على كتفيه.
ونقول هذا، لأن سنان باشا كان في الأصل، ابن عائلة مسيحية أورثوذكسية كانت تعيش في قرية أجيرناز، في تركيا، وتعود في جذورها إلى الزمن البيزنطي، وربما إلى الزمن الإغريقي أيضاً. وعند طفولته بدأ سنان، وكان اسمه لا يزال في ذلك الحين جوزيف، يعمل في مهنة والده الذي كان يتاجر بمواد البناء من حجارة وأخشاب. ولقد ولد جوزيف (سنان) في القرية التي كان يعمل فيها أبوه في العام 1489 (أجيرناز). وتقول الحكاية أنه في العام 1512، وكان جوزيف في الثالثة والعشرين من عمره، دخل جنود السلطان قريته كعادتهم في ذلك الحين، سعياً وراء جمع الشبان المسيحيين (وغيرهم من أهل الذمة) لإدخالهم في خدمة السلطان في إسطنبول. وكان جوزيف يومها من بين الذين تم اختيارهم وأرسل إلى إسطنبول، حيث بدأ حياته العملية، عاملاً في خدمة السلطان، وهو سرعان ما أُلحق بمجنّدي الإنكشارية وصار واحداً منهم، ويقال أنه اعتنق الإسلام في ذلك الحين، على رغم أن ثمة مصادر تقول إنه اعتنقه لاحقاً، وأخرى أنه لم يعتنق الإسلام أبداً (وتبدو غرابة هذا الأمر إن نحن تفحصنا جيداً إنجازات سنان التي لا يمكن أن يحققها شخص غير منتم إلى الدين الذي تعبّر عنه!). المهم، خلال سنواته الأولى في الإنكشارية تلقى جوزيف تدريباً ودراسة صارمين، قبل أن يلتحق بالجيش العثماني كضابط هندسة معمارية هذه المرة، وهو في هذا المجال سرعان ما أبدى تفوقاً وكشف عن موهبة خارقة جعلت رؤساءه يكلفونه إقامة الجسور والتحصينات. ومن هنا انطلق إلى العمران المدني الذي راح يبرع فيه، وظل يبرع طوال نحو خمسين عاماً، لم يهدأ خلالها. فحقق للحضارة العثمانية، ما كان عجز عن تحقيقه مئات المهندسين من قبله، ولن يضاهيه لاحقاً أي من كبار المهندسين الذين جاؤوا بعده، بمن فيهم أولئك الذين تتلمذوا على يديه. ولعل من أهم إنجازات سنان، إضافة إلى المساجد التي ذكرنا، قبر سليمان وقبر زوجته القوية الروسية الأصل روكسيلانا، وقبر خير الدين المطل على البحر، ومساجد الوزراء سوكولو محمد باشا ورستم باشا بين آخرين ومسجد الأميرة محرمية زوجة رستم باشا.

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)