ثورة يوليو في السينما المصرية

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 24-07-2018
الصفحة : ثقافة
محمد صبحي


ثورة يوليو في السينما المصرية.. سَلَف ودَين


<article4820|cycle|docs=5758,5759,5760,5761>


إذا كانت قضية فلسطين قد شغلت كمّاً معتبراً من إنتاجات السينما المصرية التي تناولتها، من قريب أو من بعيد، يبقى انقلاب 23 تموز/يوليو 1952 صاحب السيادة الكيفية من ناحية الرؤى التي تناولته، مدحًا وتمجيداً، أو اتهاماً ومساءلة، أو محاولة لفهم الأسباب والنتائج والتأثيرات، وهذا الاتجاه الأخير نادر عموماً. لم يشهد حدث تاريخي كل هذا الاهتمام الذي أولته السينما المصرية وصنّاعها، للانقلاب العسكري الذي نفذته مجموعة من ضباط الجيش المصري وأطاحت الملك فاروق وبدأت حياة جديدة لبلدٍ لم يكن حتى ذلك الوقت يعرف معنى أن يحكمه أبناؤه.

“الحركة المباركة”، “حركة الضباط الأحرار”، “ثورة 23 يوليو”.. كلها أسماء ألبسها رجال الثورة وأذرعهم، لانقلابهم، لإسباغ هالة خيّرة ومقدّسة على ما فعلوه، لكن الواقع أن القبول الجماهيري حالفهم وطرّز مسعاهم بالتوفيق، ربما لأن حركتهم جاءت للتبشير بمظلة عادلة يحيا تحتها المصريون ممن عانوا مرارات كثيرة تحت حكم أسرة محمد علي. إذن، تحوّل الانقلاب إلى ثورة، بعد التفاف قطاع كبير من المصريين حوله. أسباب ذلك متعددة، لكن يظل أبرزها وعي رجال الثورة، خصوصاً جمال عبد الناصر، بأهمية الوسيط السينمائي وقدرته على التأثير والانتشار، أكثر من الإذاعة والصحافة.

هكذا نمَت العلاقة بين السينما المصرية والسلطة السياسية، الباحثة عن بوق لدعايتها تروّج فيه لنفسها، وتغذّي خيالات المصريين، وتحكم به سيطرتها على جموع الناس. على أن هذا لا ينفي أبداً أن قطاعاً من السينمائيين، توافقت أحلامه بالغد المشرق مع مبادئ ثورة يوليو، التي أعلنتها في بداية قيامها، وهو أمر مفهوم ومألوف. وهكذا، قدّمت “الطلائع السينمائية” أفلاماً تعبّر عن أفكار جميلة مجردة فجّرتها ثورة الضباط، مثل الحلم والأمل والحرية، ألبسوها ثياباً مصرية وأمعنوا في التأصيل لكل جميل قادم والشمس الطالعة حتماً من وراء غيوم “العهد البائد”.

بالطبع، لم يأت هذا من فراغ، فقد سبق قيام “الثورة”، إنتاج أفلام تحلم بغد أفضل وواقع أفضل ليعيشه المصريون، تماماً كما يحدث في أي بلد تحكمه قلّة فاسدة مثل الملك وحاشيته. أفلام لم يكتب لها العرض الجماهيري في عهد الملكية، لجأت إلى الاسقاط السياسي، كما فعل فيلم “لاشين” (1938، إخراج فريتز كرامب)، الذي اعترضت عليه الأسرة الملكية لما حمله من “إدانة الذات الملكية ومعاداة نظام الحكم في مصر”، وصدر قرار بمنع عرضه في ذلك الوقت. ملخص حكاية “لاشين” يعطينا فكرة كاشفة عن السبب وراء منع الفيلم، وأيضاً اعتباره “الفيلم الذي تنبأ بثورة يوليو قبل 14 عاماً من حدوثها”. يحكي “لاشين” قصة رمزية موحية تدور في بلد غير مسمى عن قائد عسكري لجيش أحد الحكام، يحاول إقامة العدل وتنبيه الحاكم لما يفعله رئيس الوزراء الذى يتاجر بقوت الرعية، فى حين أن الحاكم يعيش في حالة لامبالاة غارقاً في ملذاته ونزواته الجنسية. يُقبض على لاشين، بعد مكيدة مدبرة، اتهم فيها بغواية إحدى الجاريات المفضلة للحاكم، وينتهي به الأمر في السجن. لكن الشعب يثور، بعدما ضاق ذرعاً بما يفعله رئيس الوزراء الظالم، واستغلاله المجاعة التي حلّت بالبلاد للاستيلاء على السلطة، ويفرج عن لاشين بأيدي الشعب، وتعمّ العدالة في البلاد.

ثم ظهر فيلم لا يمكن إخفاء دلالة توقيت ظهوره وربطها بظروف إنتاجه وإنجازه، هو فيلم “مصطفى كامل” (1952، أحمد بدرخان)، الذي أُنتج قبل الثورة ولم يُعرض إلا بعد قيامها، وحضر حفلة الافتتاح، أنور السادات، كممثل عن مجلس قيادة الثورة. يتخذ “مصطفى كامل” الفلاش باك أساساً لحكايته عن سيرة الزعيم الوطني الراحل الذي قضى حياته في الدفاع عن الوطن المغتصب، ولهذا يبدو مفهوماً سبب المنع الذي لاحقه قبل رحيل فاروق عن حكم مصر،
مثلما يبرّر موافقة مجلس قيادة الثورة على السماح بعرضه أخيراً.



بعد قيام “الثورة”، قُدّمت أفلام تحمل في مجملها دعاية مباشرة لها، وتبريرات مجتمعية لضرورتها وحتميتها، مثل فيلم “الله معنا” (1955، أحمد بدرخان)، الذي استكمل السردية الوطنية الرسمية حول الكفاح ضد الاحتلال والإقطاع، مع رفده بخيط درامي ساذج يربط فساد النخبة الحاكمة بخسارة حرب فلسطين ومن ثم إطاحة الجيش بفاروق، وفيلم “رد قلبي” (1957، عز الدين ذو الفقار) الذي جاء تنفيذه بأمر مباشر من جمال عبد الناصر، وهو يناقش الصراع الطبقي من خلال قصة حب تربط بين علي/ابن الجنايني وإنجي/بنت الأمير، وعندما يفكر في الزواج منها بعد أن يصبح ضابط شرطة، يصدمه رفض والدها الإقطاعي الذي يتمسك بالفوارق الطبقية، لكن هذه الفوارق والحواجز والسدود والجدران ستنهار، عندما تتفجر ثورة العسكر بوعودها الشاهقة وقدراتها المعجزة، إذ يستعيد والد علي، الضرير، بصره، في نهاية الفيلم مع استماعه إلى بيان الثورة بصوت السادات الإذاعي الأداء.

كذلك فعل فيلم “في بيتنا رجل” (1961، هنري بركات) الذي يعدّ من الأفلام النادرة ذات القيمة الفنية والمعبرة عن الثورة في الوقت نفسه، حيث تناول الكفاح المسلح ضد الاستعمار الإنكليزي في فترة ما قبل الثورة، من خلال إبراهيم حمدي (عمر الشريف) الذي يغتال رئيس الوزراء الخائن المتعاون مع الاستعمار، وبعد نجاحه في الهرب من ملاحقيه، يلجأ إلى أحد البيوت لأسرة مصرية بسيطة من الطبقة المتوسطة لا علاقة لها بالسياسة، لكنه في غضون أيام قليلة يغيّر حياتهم ويدفع بهم إلى الإيمان بالثورة ضد المحتل وضرور التحرك من أجل التغيير، ليخرج في النهاية ويختم حياته بعملية فدائية جديدة.

والحال، أنه بهذه الطريقة الدافعة والأجواء المسيطرة على المناخ السينمائي والسياسي والاجتماعي، خلقت “ثورة يوليو” نجومها في السينما، من مخرجين ومؤلفين وممثلين. أحمد مظهر، في الأصل ضابط في سلاح الفرسان، ورأيناه يؤدي دور البرنس في فيلمَي “رد قلبي” و"الأيدي الناعمة"، ثم لعب دور قائد المجموعة الفدائية في فيلم “جميلة بوحريد”. كذلك الحال بالنسبة للمخرجين، الذين يأتي في مقدمتهم صلاح أبو سيف، ويعدّ من أبرز المخرجين الذين قدّموا أفلامًا تحاكي هذه الفترة وما قبلها، منها فيلم “بداية ونهاية” المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ، ورصد خلاله العلاقات الاجتماعية ما قبل الثورة. كما قدّم أبو سيف فيلم “القاهرة 30” الذي رصد خلاله الفساد في فترة ما قبل الثورة، من خلال إحسان (سعاد حسني) الفتاة الفقيرة التي تعيش قصة حب مع علي (عبد العزيز مكيوي) الشاب الثوري الذي لا يستطيع أن يوفّر لها شيئًا مما تحلم به، وتقع فريسة لسطوة المال والنفوذ، لينتهي بها الأمر إلى أن تصبح عشيقة الوزير قاسم بك (أحمد مظهر) الذي يزوّجها بأحد موظفيه محجوب عبد الدايم (حمدي أحمد)، كي يتمكن من زيارتها مرة كل أسبوع. كذلك في “الفتوة” (1957) يقدّم تحليلاً بارعاً لميكانزم الاستغلال الاجتماعي ودورة التسلط المتوارث، من خلال حكاية تدور أحداثها داخل سوق كبير للخضر والفاكهة في أحد أحياء القاهرة الشعبية، حيث يرحل الظالم ويأتي خليفته الذي لا يقل ظلماً، بينما يبقى الناس مسلوبي الإرادة أمام طاغية يتحكم في مصائرهم.



كما عبّر المخرج حسن الإمام عن أحداث ما قبل الثورة من خلال ثلاثية نجيب محفوظ، حيث أفاض في تقديم مشاهد ثورة الشعب المصري في مقاومته للاحتلال الإنكليزي. وقدّم المخرج كمال الشيخ فيلم “غروب وشروق” (1970) الذي لا تخفى رمزية عنوانه على أي مشاهد، فمع غروب العهد الملكي ومجيء الشروق على يد الثورة، تكون مصر على موعد مع انتهاء الفساد والانحلال والظلم، ليحل العدل والمبادئ والأخلاق. قدّم “غروب وشروق” هذه الرسالة، عبر حكاية استعادت فترة ما قبل الثورة للتذكير بهول ما ساد وقتذاك، ربما للتغطية على آثار هزيمة 1967 الماثلة في الأذهان وظهور الأصوات الخارجة عن صف التأييد الكامل للثورة وزعيمها. لذلك حرص على إظهار استغلال رموز العهد الملكي لنفوذهم، للحصول على مكاسبهم الخاصة والتخلص من أعدائهم، في حين يقدّم المبادئ والأخلاق التي يتمتع بها أعضاء التنظيم الثوري.

ربما لم تتناول هذه الأفلام، “الثورة”، بشكل مباشر، لكنها تناولت الواقع الاجتماعي والسياسي قبله، مقدمةً مبررات قيامها. وإذا كنا اليوم نستطيع تأكيد أن “هذا الواقع” الذي قدمته “سينما الثورة” قد شابته المبالغات الميلودرامية والتلفيقات الأيديولوجية، إلا أن التشكيك في صدق نوايا جميع من ساهم في خروج هذه الأفلام سيكون إجحافاً وإنكاراً لضخامة وكبر تأثير حالة الغيبوبة والانتشاء الوطنية التي سيطرت على مناخ تلك الفترة من تاريخ مصر. ربما يعطينا النظر إلى الأيام الحالية والحالة الراهنة للحالة المصرية، بعض الإجابات الشافية عن “يوفوريا” الوطنية المختلطة بالشوفينية وشيطنة الآخر. وهذا هو التبرير المنطقي الوحيد لخروج أفلام تمجّد “الثورة” بعد خمس سنوات كاملة على قيامها، أفلام تأتي بتكليف مباشر من جمال عبد الناصر وأخرى تُنجز على عجل وبمستوى فني ضحل، نذكر منها “بور سعيد” و"سجين أبو زعبل" و"السمان والخريف" و"لا تطفئ الشمس".

بعد ذلك بسنوات، ظهرت أفلام تنتقد الثورة ورجالها، مثل فيلم “شيء من الخوف” (1969، حسين كمال)، الذي اعترضت عليه الرقابة ورفضت عرضه، وبرّرت ذلك وقتها بأن شخصية عتريس في الفيلم يُرمز بها إلى جمال عبد الناصر. الأمر نفسه حدث مع فيلم “المتمردون” (1968، توفيق صالح)، الذي انتقد قيادات الثورة بشدة وأتهمها بالاستبداد والتخلي عن الشعب الذي ساندها ودعمها. اللافت أن كلا الفيلمين عُرضا بأمر شخصي من عبد الناصر، الذي لم يكن يرى في نفسه أو في نظامه ما يشبه الاسقاطات والإدانات التي يحملها الفيلمان.



لكن عقب وفاة عبد الناصر، ظهرت سلسلة من الأفلام تنتقد عصره وتبرز سلبياته، بداية من الاستئثار بالسلطة وظهور ما اسماه أنور السادات بـ"مراكز القوى"، وصولاً إلى وقائع التعذيب والقتل في السجون والمعتقلات المصرية. ويعدّ أبرز تلك الأفلام الناقدة فيلم “الكرنك” (1975، علي بدرخان)، الذي أثار جدلاً واسعاً لتركيزه على الظلم والقمع اللذين سادا خلال فترة حكم جمال عبد الناصر من قبل المسؤولين الأمنيين. ثم توالت بعد ذلك أفلام سارت في الاتجاه نفسه، وجدت المساحة للظهور مشمولة بمظلة الكراهية التي اختزنها السادات لسلفه الراحل، فكان فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” (1979، حسين كمال) وفيلم “وراء الشمس” (1978، محمد راضي) وهو يشبه في جرأته إلى حد كبير فيلم “الكرنك”، حيث يسعى مدير السجن الحربي إلى قتل أحد الضباط الوطنيين المعتقلين لأنه يطالب بمحاكمة من تسببوا فى هزيمة 1967.

المدهش بالفعل، أن السينمائيين الذين صنعوا أفلام تمجيد يوليو ورجالها، هم أنفسهم من قدّموا أفلام السبعينيات الناقدة والمتهمة لجمال عبد الناصر، والتي وصلت أحيانًا إلى حد التجريح الشخصي في بعض الأفلام. فهل هي مفارقة أم أنهم كانوا “مخدوعون”، باقتباس عنوان فيلم توفيق صالح الذي يؤرخ فيه للخيبة العربية الكبرى، واكتشفوا زيف الشعارات والأحلام التي روجّوا لها وغنّوا من أجلها؟ أم أنه في البداية والنهاية لا يبتعد الأمر عن سيطرة السلطة السياسية على السينما وإرغام الجميع على اللف في مدارها؟ الإجابة عن ذلك دائماً ما تخضع لتقييم شخصي للفترات السياسية السابقة، لأن التاريخ يُكتب من وجهات نظر عديدة، لكن تظل هذه الأفلام أبرز دليل على علاقة وطيدة دائمة التأرجح بين السينما المصرية والسياسة.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)