ثرثرة فوق نهر التايمز، منى النموري (مصر)، رواية رحلة دار العين - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الإثنين، ٣٠ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٧
جريدة الحياة
عمار علي حسن


أبعدُ مِن «ثرثرة فوق نهر التايمز»


على رغم أن ثورة الاتصالات، التي حوَّلت العالم إلى غرفة صغيرة، لم تجعل لأدب الرحلات ما كان له في الأزمنة التي رحلت، فإن كتاب منى النموري «ثرثرة فوق نهر التايمز» (دار العين) يضيف جديداً، فالمواقف والحالات والشخوص تتوالى فيه بلغة سلسلة، لا تكتفي برسم ملامح الأمكنة، إنما تصور الكثير من طرائق العيش، وأحوال البلاد والعباد، وما يدور في ذهن الغريب ونفسه وهو يجوب المدن البعيدة. ولأن الكاتبة، وهي ناقدة ومترجمة وأستاذة جامعية، لها خبرة في التعامل مع ألوان الأدب كافة، أتى كتابها قطعة أدبية لافتة جديرة بقارئ يبحث عن المتعة والفائدة في آن واحد.

يبدو الكتاب للوهلة الأولى، من خلال لغته المحكية أو الشفهية، وكأنه مجرد خواطر مبثوثة، أو تسجيل يوميات في رحلة الكاتبة إلى إنكلترا، لكن هذه العفوية أعطته مذاقاً خاصاً، لا سيما حين مزجت الكاتبة بين تجربتها في الكتابة، وموقف مَن حولها حيال هذا، وبين مضمون الكتابة نفسها. وهي في هذا تُجاري بعض السرديات الروائية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، والتي تتجاوز الطريقة التقليدية إلى الجمع بين تجربة الكاتب مع كتابه وما حواه هذا الكتاب. ولعل الفصل الأول في رواية المصري صبحي موسى الأخيرة «نقطة نظام» (الدار المصرية اللبنانية) يعطي مثلاً على هذا، مع الأخذ في الاعتبار الاختلاف في النوع الأدبي والمضمون وبنية الجملة بين كتاب موسى وكتاب النموري.

لكن سرعان ما نكتشف أن عفوية النموري لا تخلو من دهاء، إذ تتداخل في كتابها، أصوات عدة في الحكي، وتدلي برأيها في رغبة المؤلفة في الكتابة من الأساس، ثم تعلق على ما تكتب.

من بين هذه الأصوات شخصية «مدام نظيفة» والأبناء الذين لا يكفون عن الشغب والثرثرة، والزوج الذي يدرك أن اكتمال هذا الكتاب يعني عبئاً شديداً عليه بفعل السفر والتجوال والانتظار والتأمل.

يصلح الكتاب مرشداً لشخص راغب في زيارة إنكلترا، منذ أن يفكر في الذهاب وحتى عودته، إذ تصف الكاتبة ما وقع لها في مطاري القاهرة وهيثرو كإعلان عن بداية التجربة، ثم تجول بنا في الأماكن الشهيرة، لنعرف معها معالم البلد من شوارع وميادين ومتاحف ومعارض ومنتديات ثقافية وحدائق ومحلات، بعد رحلتين إلى هذه الدولة الأوروبية المهمة.

وحين تزور الكاتبة معرضاً للكتب لحضور ندوة، نعرف معها أو منها جانباً من الشجار الذي خاضه الكاتب المصري علاء الأسواني ضد «الإخوان» بعد إطاحة حكمهم في مصر، إذ تكشف لنا معركة أخرى له لم تصل إلى سمع الإعلام وبصره دارت بينه وبين كاتب ومترجم إنكليزي خلال ندوة في لندن اتهم فيها الأخير الأول بأنه «ضد الديموقراطية» على رغم أنه يذيل مقالاته بعبارة «الديموقراطية هي الحل»؛ حين وافق على عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي. فانبرى الأسواني له ليصف ما جرى بأنه كان ثورة شعبية، وأن الزمن لو عاد به فلن يفعل إلا ما فعل.

هذه الحكاية في الكتاب ربما هي الأقل تهكماً من الواقع المعيش، فالكاتبة منذ السطور الأولى تتوسل بالسخرية تعبيراً عن موقفها من كل ما يجري حولها، لا سيما في المرحلة التي شرعت خلالها في تأليف كتابها هذا، إذ كانت مصر لا تزال تعيش توابع خروج «الإخوان» من الحكم، بعدما رماهم الشعب المصري بسخرية لاذعة من أفكارهم وقادتهم ونياتهم ومسارهم ومستقبلهم.

ولكن كانت هناك سخرية أعمق حيال ما آلت إليه ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، التي حاولت جماعة «الإخوان» سرقتها ففسد كل شيء.

ولا تلتزم الكاتبة هنا بالطرق المتعارف عليها في أدب الرحلات والتي تعتمد بالأساس على وصف مظهر الأشياء والشخصيات، إنما هناك وصف داخلي لما يدور في نفس الراوي من خواطر وأفكار، وهي حال استبطان تجعل الكتاب يقف بين أدب الرحلات، ومشاهد قصصية قصيرة، متتابعة عبر تسعة وثلاثين عنواناً، لتصنع ما يشبه الحكاية الطويلة، نظراً لما يربط بينها من خيوط، يصنعها مَن يروي، ورأى من حوله فيه وما يكتبه، ووجود شخصية مستمرة في كثير من الحكايات مثل «مدام نظيفة»، وشخصية خلفية متوارية تطل من الذاكرة لكنها تؤثر في سير الأحداث وهو صحافي اسمه حسين قدري قرأت له المؤلفة في صباها كتاباً بعنوان «مذكرات شاب مصري يغسل الصحون في لندن»، ولم يغب عن رأسها ما فيه من حكايات ومعانٍ، وحين ذهبت هي إلى لندن، بدا وكأنها تسعى خلفه، أو تحاول أن تلتقي بنماذج بشرية تشبهه، أو خاضت ما خاض هو مِن تجربة صعبة في الغربة.

ويبدو أن الكاتبة نفسها مدركة أن كتابها عصي على التصنيف، أو أنها غير معنية بهذا، إذ نجد في متن النص مَن يسألها: «يعنى الكتاب ده رواية ولا إيه؟ أنا ماعدتش فاهم!»؛ فتجيب هي على الفور: «مش رواية... مش أي حاجة. ثرثرة. بس كده!». لكن هذه الثرثرة، المنفتحة على ألوان أدبية عدة، صنعت كتاباً جذَّاباً، ما إن تبدأ في قراءته حتى تجد نفسك راغباً في استكماله، وبوسعك في الوقت نفسه أن تفتحه على أي عنوان وتقرأه منفصلاً، فهذا التقطع والتتابع والامتزاج يضيف إلى الكتاب بعداً جديداً، ويسهم في صناعة الاختلاف حول تصنيفه.

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)