تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري (المغرب)، نقد

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 8078 السبت 18 نيسان (ابريل) ـ 29 جمادي االثانية 1436هـ
المصطفى المصدوقي - كاتب مغربي


ملامح المشروع الفكري عند محمد عابد الجابري : قراءة في كتاب «تكوين العقل العربي»


مشروع نقد العقل العربي هو مشروع للنهضة العربية، فقد كان الهم الأساسي للجابري في هذا المشروع هو: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم؟ وبالتالي فالجابري كان مهموما بالبحث عن الأسباب التي أدت إلى فشل المشروع النهضوي العربي مع الأفغاني ومحمد عبده…

هذا الهم الذي سبق أن ظهر في مؤلفاته السابقة لنقد العقل العربي، وتحديدا في كتاب «نحن والتراث»، الذي يعد بمثابة مقدمة تأسيسية لمشروعه، بالإضافة إلى كتابه «الخطاب العربي المعاصر».

يري الجابري في كتابة «تكوين العقل العربي»، أن العقل العربي تكون ووضعت أسسه الأولى والنهائية والمستمرة خلال عصر التدوين. هذا العصر الذي جمعت فيه الأحاديث وتفاسير القرآن، وبداية كتابة التاريخ الإسلامي، وأسس علم النحو وقواعد الفقه، وتشكلت فيه الفرق والمذاهب الإسلامية. وهو نقطة البداية لتكوين النظام المعرفي في الثقافة العربية.

وفي هذا العصر اكتمل تكوين العقل العربي ولم يتغير منذ ذلك الوقت، ومازال سائدا في ثقافتنا حتى اليوم، وهو الإطار المرجعي للعقل العربي، وعلى هذا فإن بنية الثقافة العربية ذات زمن واحد، زمن راكد، يعيشه الإنسان العربي اليوم مثل ما عاشه أجداده في القرون الماضية. «الثقافة العربية بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي، نعتبرها ذات زمن واحد منذ أن تشكلت إلى اليوم، زمن راكد يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية»، يقول الجابري في كتابه، قبل أن يضيف: «يعيشه من دون أن يشعر بأي اغتراب أو نفي في الماضي عندما يتعامل فكريا مع شخصيات هذا الماضي… وبالتالي فالعقل العربي إنما تشكل ككيان وثبتت أركانه وتعينت حدوده واتجاهاته خلال عصر التدوين». بعد ذلك، يرجع الجابري تصنيف العلوم التي تشكلت في عصر التدوين، إلى ثلاثة أنواع:

علوم البيان:

من نحو وفقه وكلام وبلاغة… وبحسب الجابري فإن هذه العلوم تشكلت دفعة واحدة في عصر التدوين، بهدف الحفاظ على قراءة النص القرآني، على أساس قياسي نظري، ومصدر سماعي، استنادا إلى السماع العربي. فأصبح البدوي العربي هو الأداة والمرجع للثقافة العربية.

الأعرابي صانع العالم العربي:

وفي فصل تحت عنوان «الأعرابي صانع العالم العربي»، يوضح الجابري أن المرجعية الأكاديمية للغويين في تأسيسهم لعلوم اللغة النحو والبلاغة- كان هو الأعرابي.

فالمنهجية التي اتبعها اللغويون والنحاة الأوائل، وكذلك المفاهيم التي استعملوها، والآليات الذهنية التي اعتمدوها عند جمع اللغة العربية وتقعيدها، تقوم على الاستماع إلى الأعراب.. لقد اتجه جامعو اللغة إلى البادية، إلى الأعراب الأقحاح وأصبح هؤلاء «الحفاة العراة» مطلوبين بإلحاح.

وفي هذا السياق يقول الجابري: «لقد جمعت اللغة العربية من البدو العرب الذين كانوا يعيشون زمنا ممتدا كامتداد الصحراء، زمن التكرار والرتابة، ومكانا بل فضاء فارغا هادئا، كل شيء فيه صورة حسية، بصرية أو سمعية. هذا العالم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها، اليوم وقبل اليوم، وسيظل هو مادامت اللغة خاضعة لمقاييس عصر التدوين».
والنتيجة بحسب الجابري هي: تحكم القديم وهيمنة عالم الأعرابي على الذوق، بل على الفكر العربي عموما. وهذا ما ليس بالطبيعي، ويجب أن يفهم كي يغير: «أن يظل الذهن العربي مشدودا، إلى اليوم، إلى ذلك العالم الحسي اللاتاريخي الذي شيده عصر التدوين اعتمادا على أدنى درجات الحضارة التاريخية عبر التاريخ، حضارة البدو الرحل التي اتخذت كأصل ففرضت على العقل العربي طريقة معينة في الحكم على الأشياء، قوامها: الحكم على الجديد بما يراه القديم».

النص السلطة المرجعية للعقل العربي:

ودائما في إطار حديثه عن علوم البيان، يلجأ الجابري إلى عقد مقارنة بين الثقافة اليونانية والأوروبية من جهة، والثقافة العربية من جهة أخرى، بقصد تحديد الطريقة التي يعمل بها العقل العربي.

وهذا ما جعل الجابري يقول إذا كانت الحضارة اليونانية حضارة فلسفة، والحضارة الأوروبية المعاصرة حضارة علم وتقنية، فإن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة فقه في الأساس. ونستشف من هذا أن العقل الفقهي هو الذي أسس العقل العربي، بل أن العقل العربي هو عقل فقهي. وهذا ما جعل الجابري يعود إلى دراسة أصول الفقه، ليخلص إلى أن الفقه شرع للعقل، يقول الجابري: «هنا مع أبي حنيفة، ومع أهل الرأي عامة، كان المشرع هو العقل، أما مع الشافعي فقد كان العقل هو المشرع له».

وعليه، لم يعد العقل هو المشرع للفقه، وإنما الفقه هو المشرع للعقل،أي أن النص أصبح السلطة المرجعية للعقل العربي. فأصبح العقل العربي عقلا نصوصيا، لا هو مرتبط بالواقع وقضاياه، ولا هو مرتبط بالطبيعة والتاريخ.

علوم العرفان:

ولها أصول في الحضارات السابقة على الإسلام وتضم: التصوف، والفكر الشيعي، والتفسير الباطني، والفلسفة الإشراقية، والسحر والتنجيم .. وقد كان هذا هو العقل الذي تحمله الهرمسية، وهو أول ما انتقل إلى الثقافة الإسلامية، عبر الكيمياء – السيمياء عند العرب- والتنجيم. (لقد كان العقل المستقيل الذي تحمله الهرمسية هو أول ما انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من عناصر الموروث القديم، وذلك عبر الكيمياء والتنجيم) يقول الجابري.

أما عن المواقع الرئيسية التي احتلتها الهرمسية في الثقافة العربية الإسلامية وأشكال حضورها فيها، فيقول عنها الجابري: «فمن الغلاة الأوائل إلى الرافضة والجهمية وبعض التيارات المجسمة، إلى مؤسسي التصوف النظري الأوائل، إلى رسائل إخوان الصفا، إلى التيارات الصوفية الباطنية والفلسفة الاشراقية، مرورا بأصحاب الحلول وأصحاب وحدة الشهود في القرن الثالث الهجري… إلى فلسفة ابن سينا المشرقية وتصوف الغزالي».

علوم البرهان:

وتضم المنطق والرياضيات، وعلوم الطبيعة والميتافيزيقا.. كانت بدايتها الأولى عند أول فيلسوف عربي الكندي ثم الفارابي.. وكانت مرحلة الازدهار البرهاني في الأندلس، متواكبة مع العرفان والبيان في المشرق العربي.

وهكذا كانت بحسب الجابري ظاهرة ابن حزم ذات الطابع العقلاني الذي أراد أن يؤسس البيان تأسيسا منطقيا على البرهان، رغم قياس الشاهد على الغائب، كانت بداية انطلاقة للعقل العربي. «إننا هنا أمام ترتيب جديدة تماما، بل إعادة تأسيس كاملة للعلاقة بين البيان والبرهان، وعلى أساس نظرة واقعية عقلانية إلى الأمور، نظرة تعالج الواقع الديني والواقع الفلسفي بروح نقدية تحترم معطيات الواقع، ولكن من دون أن تستسلم له وتتركه يحتويها، بل بالعكس تحرص على احتوائه وتعمل على إعادة بنائه وإخصابه. إنها بداية جديدة فعلا للفكر العربي، تلك التي دشنها ابن حزم». تواصلت مع الشاطبي وابن باجة وابن رشد وابن خلدون.

ولكن ما اكتمل تأسيس هذه المرحلة حتى انطفأ شعاعها، وأخذت تسود المصالحة بين البيان والعرفان طوال عصور الانحطاط اللاعقلانية، خصوصا بعد الغزالي وبعض المتصوفة. وقد فسر الجابري هذه المصالحة بمسألتين: أولاهما تتعلق بكون العقل العربي لم يكن يقبل بطبيعته التجربة، واكتفى بالنصوص يستنبط منها القواعد والأحكام. وتوقفت العلوم العربية، لأن البحث فيها كان بهدف خدمة الدين، ولم يكن درسا للطبيعة واكتشاف قوانينها. فوفقا للنصوص كانت الطبيعة معطى الهيا مسيرة بفعل خالقها، لا دخل للإنسان في صيرورتها، ولا ضرورة لمعرفة قوانينها.

أما العلم، فقد بقي على هامش المنظومات الفكرية والإيديولوجية المتصارعة، بالتالي فلم تتح له الفرصة في تكوين العقل العربي. «لقد ظل العلم العربي، علم الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم، خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية، فلم يشارك في تغذية العقل العربي، ولا في تجديد قوالبه وفحص قبلياته ومسبقاته. فبقي الزمن الثقافي العربي هو هو ممتدا على بساط واحد من عصر التدوين إلى عصر ابن خلدون، وركد هذا الزمن وتخشبت موجاته منذ عصر ابن خلدون إلى النهضة العربية الحديثة التي لم تتحقق بعد».

إذن، فاللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم، وإنما كانت تحددها السياسة. ثانيهما تتعلق بتوجيه السياسة للفكر العربي الإسلامي وتحديد مساره ومنعرجاته. ويهمنا هنا أن نقتبس ما يلقي أضواء كاشفة على جوانب هذه المسألة. يقول الجابري بهذا الصدد: «إن تنصيب العقل الكوني في الثقافة العربية الإسلامية، قد جاء ضمن صراع إيديولوجي سياسي بين المأمون، الخليفة العباسي وخصوم دولته الشيعة الباطنية. لقد استعمل الموروث القديم في هذا الصراع كسلاح: فبينما لجأت الشيعة إلى الغنوص لتأكيد استمرارية الوحي في أئمتهم، وبالتالي تأكيد أحقيتهم في الإمامة وقيادة المسلمين دينيا وسياسيا. استنجد المأمون بالعقل الكوني اليوناني ليعزز به جانب المعقول الديني العربي، كما قرره العقل المعتزلي وكرسه الواقع السياسي». وهكذا انتهى كل شيء في مرحلة التدوين وانغلقت الدائرة، وأصبحت الحركة فيها تكرس التكرار، فصار الزمن فيها زمنا مكررا معادا، زمنا ميتا.

ليخلص الجابري في كتابه إلى استقالة العقل العربي، حين بدأ الأوروبيون يتقدمون. «إن المسلمين بدأوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته، حينما أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويساءل نفسه». إن الإضافة الحقيقية التي قدمها الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي»، الذي هيمن عليه التحليل التكويني، تكمن في تحليل الطريقة التي تشكل وتكون بها العقل العربي.

لهذا يعتبر أننا ما لم ندخل في عصر تدوين جديد، وما لم نصنع عقلا سائدا جديدا، وبالتالي ما لم يغير العقل العربي الإسلامي من طرائق تفكيره وآلياته ومفاهيمه ومناهجه وتصوراته ورؤاه، فلن نستطيع – بأي حال من الأحوال- أن نتحدث عن فعل نهضوي.

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)