تعويذة العيفة، توفيق العلوي (تونس)، رواية دار زينب - 2015

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون العدد 8393 الجمعة 4 آذار (مارس) 2016 - 24 جمادى الأولى 1437هــ
رياض خليف


رواية «تعويذة العيفة» لتوفيق العلوي: لعبة الأسماء المزيفة


لا أحبذ أن أضم رواية «تعويذة العيفة» لتوفيق العلوي الصادرة هذه الايام عن دار زينب في تونس إلى روايات أدب السجون، رغم انتساب بعض مفاصلها لهذه النوعية من النصوص، ورغم حضور القمع بين طياتها، ذلك أن هذا الأمر قد يعزل الكثير من خصائصها الفنية ومضامينها الدلالية ويحصرها في مجال ضيق…

فهي رواية ذات صلة كبيرة بالواقعية لارتباطها بفترة محددة من تاريخ المجتمع، ويمكن أن ندرجها في مجال أدب وروايات الإفراج عن الذاكرة الحية، وهو مصطلح أعني به الأعمال السردية التي ظهرت بعد سقوط النظام، والتي اتجهت نحو الذاكرة لإفراغها مما كانت تختزنه من ذكريات وحكايات ممنوعة سياسيا، لا من باب الشهادة التي تحيل إلى محاولة توثيق، وإنما من باب الأدب الذي يعتمد الخيال والمشابهة ويلتقط الصور ويصيغها في سياق خيالي فني… ولعل هذه الرواية تندرج ضمن هذا المسار، فهي تطرق جانبا من المسكوت عنه وتكشف وجوها من معاناة المبدع والمثقف والمتعلم عموما… فالراوي الذي اتخذ من العيفة شخصية رئيسية مر بنا على صفحات من معاناة الطلبة الفقراء وحملة الشهادات العلمية وأصحاب الطموحات الإبداعية وأطل بنا على فضاءات متنوعة كاشفا الكثير من الزيف والظلم والحرمان والانكسار… والحقيقة أن باب هذه الرواية مشرع للدخول إليها من مداخل عدة من عتباتها أو بنيتها أو تركيبها، ولكنني اخترت دخولها من لعبة سردية مهمة تكررت فيها وبدت لي تحمل نوعا من الطرافة، فلعبة تزييف الأسماء تشكل مدخلا مهما لهذه الرواية، ذلك أنها تكررت في مواقع كثيرة من الحكاية حاملة معها سياقات ودلالات متنوعة… إنها لعبة تخف وتقنع، اشترك في نحتها الراوي والسياق الاجتماعي، فلم تكن مجرد حركة نصية، وإنما كانت محركا أساسيا للحبكة السردية ومولدة للأحداث والشخصيات… فكيف انتظمت هذه اللعبة السردية وما هي دلالاتها وإيحاءاتها؟

يتعلق التزييف الأول بشخصية العيفة الهويمل، وهي الشخصية الرئيسية في هذا العمل، التي تلعب أحيانا دور الراوي- وهذا حديث آخر- وهو خريج جامعي وروائي صاحب جملة من الروايات منها رواية «حذاء السجان» يضطر إلى إصدار أعماله في فرنسا تحت اسم «روائي مجهول»، ولعل هذا الأمر يحيلنا إلى ظاهرة حقيقية في الساحة الأدبية، وهي ظاهرة الأعمال المجهولة التي اضطر أصحابها للتخفي خوفا من السلطات السياسية والاجتماعية، وهروبا من القمع، ولعل اضطرار العيفة لهذه العملية إشارة إلى المرحلة القمعية التي عشناها في ثوبها القديم. وإشارة إلى جهود عدد من المثقفين الذين حاولوا طوال سنوات كشف المستور واتخذوا من الموضوع الحقوقي مدخلا نضاليا، ولعل رواية «حذاء السجان» تحمل بدورها هذا المدلول. أما السبب الثاني للتخفي فهو عقدة شخصية وخوف من السخرية من هذا الاسم لما يحمله من مدلول اجتماعي ناتج أساسا عن فعل «عاف»… فالعيفة اضطر للعيش مغتربا عن أعماله الأدبية رغم نجاحاتها، وهو ما يحيلنا إلى اغتراب المثقف، من دون أن ننسى أن الاسم الحقيقي في حد ذاته يحمل دلالات أخرى، فهو المنبوذ والمكروه والمنسي والمهمل وهي إشارة لوضعه الاجتماعي من جهة ولصورة المثقف في هذه البلاد من جهة ثانية…

أما التزييف الثاني فاعتمدته الأجهزة الداخلية للدولة التي قدمت شخصا ثانيا زاعمة أنه المؤلف المجهول، وقد تمتع بالدعاية الحكومية ونال حظوة وتم تكريمه مرارا، ولعل هذه العملية تكشف لنا بتتبع مراحلها عن خور كثير في المشهد الثقافي الذي يغيب المبدع الحقيقي ويملأ الفراغ بشخصيات وهمية… وهذا يحيلنا إلى صورة مثقف السلطة وما يمارسه من تزييف وادعاء وما يناله من اهتمام.

أما التزييف الثالث فطابعه اجتماعي ويتعلق بمريم التي أعطتها العائلة اسم اختها راضية المتوفاة عشية نتائج السيزيام قبيل إعلان نجاحها، وقد التجأت العائلة إلى تبادل الاسماء وتسجيل راضية في قائمة المتوفين وتمكينها من مواصلة الدراسة بوثائق اختها الناجحة فعليا… فمريم تحمل اسم اختها المتوفاة لاختيار عائلي، وهذه ممارسة اجتماعية، لكن ظهور مريم في صفة المسؤولة ثم الصحافية ثم تبين اشتغالها بالمخابرات يجعل من هذا التزييف حاملا لمعاني أخرى أشد عمقا…

وأما التزييف الرابع فارتكبته راضية ابنة مريم والعيفة، التي أخذت بدورها اسم امها القديم حين شاركت في مسابقة مدرسية وكتبت لقب صديقتها على الورقة تهربا من لقبها الحقيقي…

…انها لعبة الاسماء تدور على مفاصل الرواية تزداد غموضا ثم تنكشف في الصفحات الأخيرة فتنكشف معها الأدوار والألاعيب وتسقط الحجب وتلوح الحقائق الموجعة ويقاد العيفة إلى السجن جراء انكشاف علاقته برواياته…

ليس الحديث عن لعبة الاسماء المزيفة إلا محاولة للاقتراب من تعويذة العيفة وفك طلاسمها وملامسة سريعة لقضاياها التزاما بمساحة النشر، وما من شك أن هذه الرواية تستحق المزيد من البحث والنقد، فرحلة العيفة متعددة الوجوه: هي رحلة سردية وميتاسردية وهي رحلة سياسية واجتماعية ووجودية وثقافية يكشف من خلالها توفيق العلوي عن قدراته السردية وقدرة قلمه على التقاط اليومي وتخزينه في الذاكرة وإعادة صياغته ليكتسب أدبية ولتتسع دلالاته….

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد القدس العربي للمقال بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



موقع ميدل ايست اونلاين


2016-01-26
ميدل ايست اونلاين
د. توفيق قريرة ـ كاتب من تونس


’تعويذة العيفة’ .. الكاتب الهارب من قدره


توفيق العلوي استطاع من خلال صوت الشخصيّة أن ينفّس عن نفسه الأمّارة بالكتابة وأن يشكو من ازدحام المسارات التي يمكن أن تسير فيها أحداث روايته.

تتوزع رواية “تعويذة العيفة” على تسعة فصول تحكي عن معاناة مثقف في بلاد تكون فيها الكتابة لعنة والقلم رصاصا يمكن أن يصيب صاحبه في مقتل قبل أن ينطلق في اتجاه الحق.

هذه هي قصة “العيفة” بطل الرواية البكر للأستاذ الجامعي الدكتور توفيق العلوي أستاذ اللّغة بالجامعة التونسية. سمّاه أبوه “العيفة” لتعافه الموت وامتهن الكتابة فكانت تعويذته الكتابة ذات الطلاسم التي تريد أن تطرد شياطين الإنس وتطهر الحياة من دنسهم.

نحن نجد أنفسنا منذ العنوان في جوّ ثقافي بامتياز. ثقافة تجعل الأسماء حيلة للتنصّل من الموت وتجعل من الكتابة حلية للتخلص من الشرور لكنّ الاسم وإن كان ينجي صاحبه من الموت فإنّه يلقي به على أعتاب حياة كالموت أو أشدّ عسرا؛ وإذا كانت التعويذة تفريجا عن الكرب بالكتابة فإنّ للكتابة مقايِضا هو الحرية.

إنّنا ندخل الرواية - الصادرة عن دار زينب للنشر بتونس من بوّابة الأسماء، والأسماء- بهذا المنظار الثقافي الذي كان بوابتنا إلى الرواية - لا تعيّن أصحابها بل هي عنوان للنجاة من الموت المتربص بالبدو البسطاء: يعتقدون أنّ الموت يخطفهم تقصُّدا فيتخفون وراء أسماء بشعة حتّى الموت يعافها. لكنّها لعنة تظل تصاحب من تسمّى بها طيلة الحياة لأنّها ستكون عبئا يحمله المتسمّى بها في ثقافة تكون الأسماء فيها حكما أوّلا وقد يكون باتّا على المرجع المُسمّى.

لم تطرح التسمية في سياق الاستخفاف العادي بالأسماء أو في سياق الطابع الثقافي لها فحسب؛ بل كانت تتستّر وراءها مسألة فلسفية تطارحها الفلاسفة الإغريق منذ سقراط وخصوصا في محاورة فلسفية تضمنها كتاب “كراتيل” المذكور صراحة في الرواية وهو كتاب نقل فيه إفلاطون المحاورة التي دارت بين كراتيل وهرموجين بحضور سقراط حول إحكام الأسماء ودقتها بردّها إلى الأصل الطبيعي أو العقلي.

بساطة المأساة ليست في دقة الأسماء، بل في أنّها لا تناسب أصحابها فالعيفة عاش طريدا لعدم دقة اسمه في علاقته بذاته مسمّى متساميا على الواقع.

ما يشدّك في الرواية ذات الـ 244 صفحة، أشياء ثلاثة على الأقلّ أوّلها لغتها المتقنة، وثانيها طبقات القص التي فيها، وثالثها النزعة إلى تغليف القص بمعطيات سيرذاتية.

اللغة التي كتبت بها رواية “تعويذة العيفة” لغة راقية فيها ماءُ الأدب وانسيابية الكلام، وهذا ما يقلل من الكلفة ويجعل الأدبي كالجزء من اليومي. وهذا مكسب كبير يوفق بين لغة الإبداع والفكرة المبدعة فلا تقدّم الأفكار في أثواب لغوية مترهلة.

كان النسيج اللغوي متينا من دون أن يظهر أنّ الروائيّ لغويّ مدقّق. كانت الجملة خفيفة كلما احتاج الموقف خفتها وكانت عقليّة تجنح إلى التجريد كلما تطلب الموقف الروائي ذلك؛ ولكنّها كانت شعرية استعارية حين كان الموقف يتطلب ذلك. لقد خلقت اللغة في النص شعريّة البساطة والاحتفال بالدقائق والجزئيّات لأنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، ولكن تكمن فيها أيضا الملائكة.

ومن جهة أخرى فإنّ في الرواية طبقتين: رواية تحت أخرى، أو رواية أصلية، تفتح ذراعيها لرواية فرعية واحدة كتبها البطل، والثانية كُتبت عن البطل الروائيّ: فضاء روائيّ أمّ يتكفّل به الروائيّ وفضاء روائي بنت يتكفّل به البطل.

ولقد حاول الروائي أن يجعل أسلوبي الكتابة مختلفين، فالرواية التي يكتبها البطل يغلب عليها التجريب والتجريد، وقد تتنفّس بالتفاصيل الرمزية وهي تقدّم معطيات سردية تكمّل الرواية الأصلية أو الأمّ.

يمكن القول إنّ هذا الشكل من التضمين قد خلق كسرا للرتابة في مستوى المشاهد وأتاح فرصة لتعليق دوّار القصّ لتشغيل دوّار قصّ آخر. وما دفع إلى هذا الازدواج أو التضمين ليس فقط تنويع الرؤى بل أيضا إثبات أنّ الروائيّ قصّاص ذو خبرة بالكتابة، سطع نجم كتابته لكنّه كان عرضة لأن تستلب ملكيته الفكرية وحين عادت إليه استلبت حريّته بالكامل. لكن ما يلفت الانتباه أنّ الرواية تنفتح بالنص المضمّن أو الرواية البنت وبها تنتهي وما بينهما نجد الرواية الأمّ لكنّ الروايتين تلتحمان في النهاية: نهايتان في نهاية وصوتان ممتزجان ملتحمان لأنّ صوتيهما متحدان في الهوية والمشاغل. لقد اتحد النصان في النهاية اتحادا هو من نوع حلول نصّ في نصّ وشخصيّة في ذاتها وهو ضرب من التواشج والتصالح بين البطل راويا والبطل روائيّا.

ولكنّ هذا التشابك بين الروايتين كان في عمقه ضربا من الإيحاء بأنّ النص الروائي يمكن أن يكون منفتحا على التجربة السيرذاتية في الكتابة: سيرة ذاتية هي ذاتها في طبقتين: سيرة ذاتية فنيّة هي سيرة البطل العيفة وسيرة ذاتية خفية هي سيرة المؤلف، فلقد نُفثت في النصّ كثير من أصدائه المحيلة عليه.

إنّ السيرة الذاتية التي تتداخل بالرواية ليست سرا في النص بل هي حقيقة مكشوفة إذ يقول الراوي عن البطل: “همّ العيفة أن يقول إنّه سيكتب لا محالة سيرته الذاتية في رواية”. (ص 159).

لكن هل يمكن القول إنّ ما كتبه العلوي هو رواية سيرذاتية؟ أعتقد أنّ ذلك لم يكن محقّقا إن نحن فهمنا من السيرة الذاتية ترجمة روائية لشخص مؤلفها. فما نجده في الروائية سيرة ذاتية لجيل من طلبة الثمانينيات الآفاقيين القادمين إلى المدينة بكل عطر الريف والساعين إلى تكسير حواجز الفقر بالتعليم، ولقد كان ذلك ممكنا فمن مزايا ديمقراطية التعليم بتونس أن جعلت المتعلمين يفتكون الوظائف ويطلقون الانتماء إلى الطبقة الفقيرة ويتدرجون شيئا فشيئا إلى الطبقة الوسطى، وكان ذلك ممكنا بفضل مجانية التعليم وديمقراطيته.

لكنّ المعضلة أنّ المثقف الذي ارتقى إلى طبقة وسطى لم ينس معاناة طبقته الكادحة وسعى بالوسائل الثقافية السلمية إلى أن يكشف فساد الطبقة السياسية والمآل معروف هو السجن والتضييق والعذاب. لكنّه أمر يشبه عَدْوَ التناوب إذ لا يتوقف المتسابق ضدّ التيار إلا ليحمل المضمار عنه ذووه وقد كانت بنت البطل، وعلى الرغم من أنّها لم تعش ظروفا موضوعية من الحرمان كالتي عاشها أبوها، فإنّها تبنّت قضيته والتزمت بالدفاع عن الحقّ والعدل والكرامة. وفي كل هذا قول إنّ النضال ليس حقّا وإنّما هو واجب وأنّه المطالبة بقيم الحق والعدل ليس حكرا على الطبقة الفقيرة بل هو دور الإنسان المثقف مطلقا.

أجمل ما في التداخل بين الروائي والسيرذاتي ليس في البحث عن خفايا حياة المؤلف في ثنايا الرواية فذلك مألوف لكنّه تمثل في شكل آخر أرفع حين تحدث الروائي على لسان الراوي عن مخاض الكتابة الروائية فقال عن شخوص الرواية:

“شخوص روايته آه من شخوص روايته، لقد أتعبته أيّما تعب، جاهد طويلا لينصفها ويوفيها حقّها”. (ص 132).

ويقول عن هاجس الكتابة: “ما استطاع التخلص من هاجس الكتابة، تهاجمه الأفكار الروائية من كل صوب وحدب، تحمله في أحضانها، تمسح شعره وتربّت على كتفه، تضعه على كرسي مكتبه” ( ص176).

بذلك استطاع الروائي ومن خلال صوت الشخصيّة أن ينفّس عن نفسه الأمّارة بالكتابة وأن يشكو من ازدحام المسارات التي يمكن أن تسير فيها الأحداث.

ليست الكتابة الروائية كالكتابة العلمية فكرة تناطحها أخرى وتدخلها المخبر لتخرج منه وهي على برد من اليقين حتى وإن كان وقتيّا. الكتابة الإبداعية والروائية بالأساس قلق يظلّ يتكاثر ويتوالد وعيش مع شخصيّات يخلقها الروائي ولا يتخلّص منها يراها في كل اتجاه وفي كلّ مكان يريد أن يقتلها كتابة لكنّها تقتله ألما و تحييه أملا.

عن موقع ميدل ايست اونلاين


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)