شعر

تطور الشعر العربي عبر التاريخ Evolution de la poésie arabe

, بقلم محمد بكري


جريدة الرياض السعودية


النسخة الإلكترونية من صحيفة الرياض اليومية
الأحد 9 ربيع الآخر 1435 - 9 فبراير 2014م - العدد 16666
الصفحة : ثقافة اليوم


جهاد فاضل


يخيل لمن يقرأ بعض الدراسات التي تناولت الشعر العربي في القرن العشرين، أن هذا الشعر كان عالة على الشعر الأجنبي في التطور الملموس الذي أصابه. فقد كان بنظر أصحاب هذه الدراسات متخلفاً في شكله وفي موضوعاته إلى أن قرأ الشعراء العرب المعاصرون قصيدة «البحيرة» للامارتين وقصيدة «الأرض اليباب» لإليوث وسواهما من قصائد سان جون برس، فبدأت رياح التطور تلفح شعرنا حتى استجاب كثيرون لنداءات التجديد. ولولا هذا الانفتاح على الشعر الأجنبي لاقتصرت معاني شعرائنا على معاني الشعر العربي القديم يجترّونها وينسجون على منوالها، ولظل الشعراء العرب في مرحلة البارودي وبقية المحافظين.

ولكن الباحث الكبير الدكتور عبدالواحد لؤلؤة لا يوافق على هذا النمط من التناول النقدي، ويرى أن الشعر، أي شعر، كائن حي ينمو ويتطور، وأن الشعر العربي عرف التطور والتغير منذ الجاهلية، وفي الجاهلية نفسها، سواء من حيث الأشكال أو المضامين. فإذا كان امرؤ القيس أول من وقف على أطلال دار الحبيبة وبكى لغيابها عنه، وكان واقفاً يخاطب صاحبيه، فإن الذي بكى في قصيدة لاحقة لهذه القصيدة لم يكن الشاعر بل صاحبه، أو رفيق رحلته الوحيد إلى القسطنطينية. فهذا تطور ونحن لما نبارح صاحب أول معلقة جاهلية. ولم يلتزم الشعراء بعد امرئ القيس بالبحر الطويل، بل طوروا في ايقاعات وأوزان جمعها الخليل، أو جمع المشهور منها، بخمسة عشر بحراً، زاد عليها تلميذه الأخفش بحراً، هو السادس عشر، المتدارك.

لكن مخاطبة الاثنين (يا صاحبي) بقيت ماثلة في بعض الشعر العربي اللاحق، ربما من باب احترام التراث، لكنها تطورت خطاباً ليس في صحراء، بل في رياض وجنان:

يا صاحبي تقصيا نظريكما

ثريا وجوه الأرض كيف تصور

تريا نهاراً مشمساً قد زانه

زهر الربى فكأنما هو مقمر

وإذا كان الفراهيدي قد حدد لنا ما جمع من معروف الشعر في أيامه، و«قطّع» إيقاعاته على إيقاعات المدقة في سوق القصابين بالبصرة، فإن بعض تلك القصائد لم تستجب تماماً لتفعيلاته، فكان الزحاف والخبن والطي، وكانت قصيدة/ معلقة عبيد بن الأبرص (٣٥ قبل الهجرة) التي تتحدى العروضيين إلى يومنا هذا:

أقفر من أهله ملحوب

فالقطبيات فالذنوب

فعلى الرغم مما في هذه القصيدة من اضطراب الأوزان بالنسبة لقوانين الخليل، نجد نقاد القرن الثالث الهجري، مثل ابن قتيبة يقول إن قصيدة عبيد هذه هي من القصائد السبع. وكانت القصيدة على مستوى عال من التقدير عند الجاهليين، وهم أعرف الناس بشعرهم. وإذا كان عبيد بن الأبرص قد بالغ في الخروج على قواعد العروض أكثر من غيره (وقد خرج كثيرون في زمانه أيضاً عليها) فنحن لا نعرف ما أهمله الخليل عن الشعر الجاهلي «لنبوّ أوزانه».

كان الخروج على «قواعد العروض» في بقية المعلقات، قليلاً أو كثيراً، زحافاً أو خبناً أو طياً، بشكل واع أو غير واع، هو نوع من «التطوير» الذي مر به الشعر الجاهلي. كما أن «الأسلوب» أصابه تطور هو الآخر، بشكل واع أو غير واع. وهذه نقطة لها دلالتها. وقف امرؤ القيس يبكي ويخاطب «صاحبين اثنين» لكن طرفة بن العبد يفتتح معلقته بالوقوف على أطلال خولة من دون بكاء. وفي البيت الثاني يخاطب «صحبه» وهم أكثر من اثنين:

وقوفاً بها صحبي، علي مطيهم

يقولون: لا تهلك أسى، وتجلّد

وكأنه بذلك يخالف امرأ القيس في مطلع قصيدته، إذ اصطحب أكثر من اثنين، ولم يبك، ولم يطلب من «صحبه» البكاء على أطلال خولة، بل أصغى إلى نصيحتهم أن لا يهلك أسى، بل عليه أن يتجلد. أليس في هذه البداية كفاية من تطوير في الأسلوب؟

يرى أغلب الباحثين أن التطوير في الوزن والقافية وشكل القصيدة العربية التراثية قد بدأ بشكل واع في القرن الثالث الهجري. ويرى آخرون أن اشكالاً من القصيدة العربية التي ظهرت في العصر العباسي، مثل المخمّس والمسمّط والمزدوج لها أمثلة سابقة عليها، يرجعها بعضهم إلى امرئ القيس نفسه. وفي الشعر المسمّط (الذي يشبه نظام السمط، أو القلادة) يأتي الشاعر ببيت ذي شطرين يشبه المطلع في القصيدة التراثية، ويعقبه بأربعة أشطار تشكل بيتين من قافية مختلفة، يختمها بشطر خامس من قافية بيت المطلع:

توهمت من هند معالم أطلال

عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي

مرابع من هند خلت ومصايف

يصيح بمغناها صدى وعوازف

وغيّرها هوج الرياح العواصف

وكل مسف ثم آخر رادف

بأسحم من نوء السماكين هطّال

وثمة تسميط من نوع آخر يخلو من المطلع قوامه أربعة أشطار ثلاثة منها بقافية والشطر الرابع بقافية مختلفة:

غزال هاج لي شجنا

فبث مكابدا حزنا

عميد القلب مرتهنا

يذكر اللهو والطرب

هذا نظم تفوح منه روائح القصور العباسية في أواخر أيامها، بل تخيم عليه أجواء العصور المظلمة. ومهما يكن من أمر الانتحال والمنتحلين، هذه ظاهرة من رغبة في التطوير في شكل القصيدة العربية ولغتها. نجد امتداداً لذلك في العصر العباسي الذي شاعت فيه «حريات» لم تألفها العصور الأموية، أو عصور صدر الإسلام، أو عصور الجاهلية، التي كان الحاكم في شعرها سدنة عكاظ.

ومن أمثلة الحريات التي شاعت في العصر العباسي بين الشعراء، بل الانفلات من قواعد الخليل والخروج عليها، ما يروى عن أبي العتاهية (١٠٣/٢١٣ه) أنه قال: «أنا أكبر من العروض» وذلك في قوله:

للمنون دائرا/م/ تٌ يدرن حولها

حين ينتقيننا واحدا فواحدا

ومن ضروب التطوير في شكل القصيدة وأفنانها نمط المزدوجات الذي شاع في العصر العباسي، مع الخروج على نمط القافية الواحدة. ويلاحظ أن المولدين من شعراء ذلك العصر هم من أكثرها النظم في هذه الأنماط «الخارجة على القانون». وربما كان بشار بن برد (ت سنة ١٦٧ه) ذا الأصل الفارسي، من أوائل من نظم المزدوجات. ثم هناك ابن المعتز (ت سنة ٢٩٦ه)، الخليفة القتيل بعد ليلة واحدة، والمغرم بالمحسنات البلاغية والتجريب في النظم. ويرى بعض الباحثين أنه «مخترع» الموشح قبل أن يعرفه الأندلسيون.

وفي العصر العباسي عالج كثير من الشعراء النظم على الأوزان غير المألوفة وعلى البحور النادرة كالمضارع والمجتث، كما نظموا على البحر التي أهملها الخليل. وقد قلبوا بحر الطويل، ودعوه «المستطيل»، كما قلبوا بحر المديد ودعوه «الممتد» ثم قلبوا بحر الوافر ليغدو «المتوفر»، والسريع أصبح «المتئد»، فمن «المستطيل» نظم «أحدهم»:

لقد هاج اشتياقي غرير الطرف أحور

أدير الصدغ منه على مسكٍ وعنبر

وكان مما دفع إلى هذا التطور في مطاوعة الشعر للغناء بداية اختلاط الأقوام ممن ورد إلى المدينة بعد الإسلام من فرس وأحباش وغيرهم ممن أدخلوا موسيقاهم إلى المحيط الجديد، فتطور الشعر ليواكب الغناء، وكان في المدينة شعراء غزل كثيرون مثل الأحوص (ت. سنة ١٠٥ه) الذي أكثر من التشبيب بالإماء في غزل صريح، وكان من ضرورة مصاحبة الموسيقى للشعر المغنى أن مال شعراء الغناء إلى نظم أبيات قليلة تتراوح بين بيتين إلى عشرة، وعلى الأوزان الخفيفة والأشطر القصيرة) كما كانت لغة هذه الأغاني تقترب من اللغة المألوفة للناس. فصار شعراء الغناء يحورون ويجزئون ويغايرون في الأوزان. وكان هذا المحيط الشعري الغنائي، كما يرى الدكتور عبدالواحد لؤلؤة في كتابه (دور العرب في تطور الشعر الأوروبي) هو الحاضنة التي تطور عنها شعر الغناء في العهد الأموي الذي ازدهر في قصور بني العباس حتى حمله زرياب إلى الأندلس عام ٢٠٧ه فوضع اللبنات الأولى لنشوء الموشح. إن كل هذا الذي تقدم ينهض دليلاً على تطور كبير في الأشكال والأساليب والمعاني عرفها الشعر العربي القديم في الجاهلية وفي الحقب اللاحقة لها. وهذا يدحض ما يذكره بعض الباحثين المعاصرين من كون الشعر العربي ظل يدور في إطار التقليد والرتابة والتنويع على السابق حتى عرف قفزته الكبرى في مطالع القرن العشرين على يد المجددين وحركات التجديد المعروفة. ولكن ذلك ينافي الحقيقة التاريخية وفي كتاب الدكتور عبدالواحد لؤلؤة الذي عرضنا لبعض ما ورد فيه آنفاً ما يؤكد أن الشعر، أي شعر، كائن حي ينمو ويتطور ولا يتوقف عن النمو والتطور.

عن موقع جريدة الرياض السعودية


جريدة الرياض أول جريدة يومية تصدر باللغة العربية في عاصمة المملكة العربية السعودية صدر العدد الأول منها بتاريخ 1/1/1385ه الموافق 11/5/1965م بعدد محدود من الصفحات واستمر تطورها حتى أصبحت تصدر في 52 صفحة يومياً منها 32 صفحة ملونة وقد أصدرت أعداداً ب 80-100 صفحة وتتجاوز المساحات الإعلانية فيها (3) *ملايين سم/ عمود سنوياً وتحتل حالياً مركز الصدارة من حيث معدلات التوزيع والقراءة والمساحات الإعلانية بالمملكة العربية السعودية، ويحررها نخبة من الكتاب والمحررين وهي أول مطبوعة سعودية تحقق نسبة (100٪) في سعودة وظائف التحرير.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)