تاريخ البحر الأحمر ... مواعيد الإبحار وأسطورة جبال المغنطيس

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ١٨ أبريل/ نيسان ٢٠١٥
جريدة الحياة
حاتم الطحاوي


احتل البحر الأحمر مكانة مهمة في الحضارات القديمة ولدى الأمم المجاورة له. فقد أطلق الفراعنة عليه اسم «الأخضر الهائل» M-W KDW. على حين ورد في كتاب العهد القديم تحت اسم «يم سوف» Yam Sof. كما عنت كلمة سوف بالعبرية أيضاً «نبات البردى». وهو ما جعل البعض يرى أن البحر الأحمر إنما هو تحريف لكلمة Reed Sea (بحيرة البردى) التي ورد ذكرها في الوثائق المصرية القديمة التي ترجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد.

أسماه اليونانيون والرومان البحر الأريتيري Erytraean بفضل لون مياهه الحمراء بعيد انعكاس أشعة الشمس عليها، أو بسبب جباله التي أصبحت حمراء بفضل الشمس الحارقة. ولا بد من أن نتذكر أن تسمية البحر الأريتيري لم يكن يقصد بها البحر الأحمر الحالي فقط، بل أيضاً المنطقة البحرية شمال المحيط الهندي وجنوب شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى الخليج العربي.

لهذا، نجد بليني يشير إلى انقسام البحر الأريتيري الى خليجين، الأول في الشرق وهو الخليج الفارسي، والآخر في الغرب ويسميه الخليج العربي، بينما يسمى المحيط الهندي بحر عزانيا Azanian Sea. كما تراوحت المصادر التاريخية البيزنطية بين تسمية البحر الأحمر بالخليج العربي Sinus Arabicus أو بالبحر الهندي أيضاً. وتذكر المصادر الرومانية انقسام البحر الأحمر شمالاً إلى خليجين هما خليج هيروبوليس Heroopolis (السويس)، وخليج إيلة Elani (العقبة).

والحقيقة أنه لا يمكن الحديث عن الرواج التجاري الكبير الذي تمتع به ميناء القلزم المصري شمال البحر الأحمر، منذ عهد الإمبراطور البيزنطي أنستاسيوس (491 - 518م) دون الحديث عن رواج تجاري مواز أيضاً في جزيرة تيران Iotabe الواقعة على مدخل خليج العقبة، حيث أقام موظفو الجمارك مكتباً لمتابعة حركة السلع والبضائع حتى عام 473م. حدث هذا قبل أن يتمكن العربي امرؤ القيس Amorkesos من ضم الجزيرة إلى ممتلكاته ليبدأ في جمع الجمارك والمكوس لمصلحته. إلى أن نجح الأسطول البيزنطي في استعادتها عام 498م.

ومن المهم أن نلفت الانتباه إلى مسألة الهجرات القديمة لسكان سواحل البحر الأحمر منذ العصور القديمة، فقد حدثت هجرات قديمة من شبه الجزيرة العربية إلى الأراضي المقابلة الواقعة غرب البحر الأحمر كما هي الحال في الحبشة ومصر نتيجة لظروف جغرافية ومناخية. وهو الأمر الذي دفع بعض الباحثين إلى ملاحظة العلاقة بين سكان قبائل البجة في شرق مصر والسودان وقبائل عرب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام على الساحل الشرقي للبحر الأحمر، خصوصاً قبيلة «بلى» المعروفة، وذلك اعتماداً على ما خلّفه الجغرافيون والمؤرخون المسلمون من كتابات ربطت ما بين قبائل البليمي والبجة. وبالنسبة للإبحار في البحر الأحمر، كانت السفن تخرج من الموانئ المصرية في طريقها إلى جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي خلال الفترة من شهر نيسان(أبريل) حتى تشرين الأول (أكتوبر)، وهو الموعد الذي حددته قوانين ثيودوسيوس للسفر. ومن الملاحظ أن تلك القوانين حظرت الإبحار منذ بداية شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، حيث الشتاء والعواصف التي تؤدي إلى ارتفاع الأمواج. وكان من الطبيعي أن تتسق قوانين ثيودوسيوس الخاصة بالملاحة مع التراث الجغرافي الروماني المتعلق بخروج السفن إلى البحر الأحمر، فنحن نعرف مما ذكره بليني من قبل، أن الرحلات البحرية تخرج من الموانئ المصرية في منتصف فصل الصيف، وتستغرق السفينة شهراً كاملاً حتى تصل إلى ميناء سلا Cel في اليمن. كذلك الحال فإن صاحب كتاب الطواف يخبرنا أن إبحار السفن من مصر إلى موانئ البحر الأحمر والساحل الأفريقي المطل على المحيط الهندي، إنما يكون في شهر تموز (أبيب Epeiph).

هكذا غادرت السفن ميناء ميوس هرموس في تموز (يوليو) لتدخل في نطاق الرياح الشمالية الغربية التي تسود الجزء الجنوبي من البحر الأحمر في فصل الصيف، لتصل إلى ميناء عدوليس الحبشي أو المخا اليمني في شهر أيلول (سبتمبر - توت Thouth)، بينما تعود السفن من الهند في شهر تشرين الثاني لتصل إلى الموانئ المصرية في كانون الأول أو قبل السادس من شهر أمشير Mechir (أي قبل 13 كانون الثاني) عبر استخدام الرياح الجنوبية الشرقية، حيث تصل إلى ميناء عدن، ثم تدخل الطرف الجنوبي للبحر الأحمر مستعينة بالرياح الجنوبية الشرقية في القطاع الأوسط من البحر الأحمر نظراً إلى وجود منطقة الضغط المنخفض السوداني الذي يقوم بجذب الرياح الشمالية، ما يجعل الملاحة بالشراع باتجاه الشمال، صعبة للغاية.

وبالنسبة لمواعيد الإبحار فقد استحسن الملاحون والربابنة مغادرة الموانئ المصرية على البحر الأحمر في شهر تموز بفضل الرياح الشمالية الغربية، التي كانت تدفع بسفنهم إلى المحيط الهندي حيث الرياح الموسمية الجنوبية الغربية التي تصل بهم إلى ساحل جزر المالابار في أيلول.

ولدينا معلومات مهمة من المصادر البيزنطية حول طبيعة السفن التي أبحرت في البحر الأحمر والمحيط الهندي في القرن السادس الميلادي. كما أنها ارتبطت بالقصة التي وردت في التوراة والمتعلقة بابتلاع الحوتُ النبيَّ يونس Jonas. فقد أشار المؤرخ بروكوبيوس إلى أن سفن البحر الأحمر لم تكن تصنع بالطريقة العادية نفسها التي تصنع منها باقي السفن في البحار الأخرى، إذ لا تدخل المسامير الحديد في صناعتها، بينما يتم ربط الألواح الخشبية للسفينة بنوع من الحبال، ثم يتم طلاؤها بالقار.

وفي ملاحظة تشي بمدى ثقافة بروكوبيوس، فإنه يزيد بأن السبب في عدم استخدام المسامير ليس كما يفترض معظم الناس من أن هناك صخوراً مغنطيسية تقوم بجذب الحديد إليها. حيث أكد أن الكثير من شهود العيان في البحر الأحمر شاهدوا بعض السفن البيزنطية التي دخل الحديد في صناعتها قد أبحرت من ميناء أيلة، ثم عادت سالمة من رحلاتها.

غير أنه يعود ليقدم تفسيراً لذلك بأن الهنود والأحباش لا يستخدمون الحديد أو أي معدن آخر في تشييد السفن، فضلاً عن كونهم لا يستطيعون شراء تلك المواد من البيزنطيين لأن ذلك ممنوع بقوة القانون.

يمكننا القول أن أسطورة الجبال أو الصخور المغنطيسية الموجودة في قاع البحر الأحمر التي تقوم بجذب السفن التي يدخل الحديد والمسامير في صناعتها، والتي تلقفها بعض الجغرافيين والمؤرخين المسلمين كالمسعودي والإدريسي وابن جبير وابن بطوطة والقزويني والنويري وغيرهم وترددت لدى المصادر اللاتينية كما عند ماركو بولو، والمصادر العبرية كما لدى الحاخام عوباديا في القرن الخامس عشر الميلادي، هي أقدم من زمن بروكوبيوس والقرن السادس الميلادي.

وقد حاول البعض معالجة تلك الأسطورة والتطرق إلى أصولها ومن ذلك ما فعله ألبرت حوراني الذي افترض أن الكاتب الهندي القديم بهوجا Bhoja هو أول من تناول الصخور المغنطيسية في كتاباته باللغة السنسكريتية.

غير أن الأمر لا يبدو مستقيماً لأننا نعرف أن بهوجا كان ملكاً وفيلسوفاً هندياً واسع الثقافة من أسرة Paramara، قام بحكم مملكة ملوا Malwa في وسط الهند طوال الفترة 1010 – 1060م. وعلى الرغم من أنه كتب فعلاً عن أسطورة جذب المغنطيس السفنَ التي دخلت المسامير الحديد في صناعتها بالبحر الأحمر، فإننا لا نستطيع أن نعده أول من تحدث عن ذلك لأنه تالٍ على زمن بروكوبيوس. ويبدو أن الأخير كان قد استمع إلى أسطورة قديمة متواترة سابقة على القرن السادس الميلادي، فقام بنفيها عبر إشارته السابقة إلى السفن التي دخل الحديد في صناعتها. ويمكننا القيام بمحاولة أكثر جدوى لتحديد الزمن الحقيقي الذي ظهرت فيه هذه الأسطورة، لنذكر أنه ما بين القرنين الثاني والسادس الميلاديين. ودليلنا على ذلك هو أن أهم الكتب الكلاسيكية التي اختصت بالبحر الأحمر، وحملت اسمه، وقام بتأليفها كل من الجغرافي اليوناني أجاثارخيدس في القرن الثاني قبل الميلاد والتاجر السكندري المجهول صاحب كتاب الطواف في القرن الأول الميلادي، لم تشر إلى ذلك على الإطلاق. كما لم تتحدث عنها المصادر الجغرافية الكلاسيكية أيضاً.

وبعيداً من أسطورة جبال المغنطيس، توجد لدينا أدلة كافية من كتاب الطواف تشير إلى وجود السفن التي تدخل الحبال في صناعتها بدلاً من المسامير منذ القرن الأول الميلادي، حينما يتحدث عن آخر الموانئ التجارية في شرق أفريقيا على ساحل عزانيا، وهو ميناء ربطة Rhapta (المخيوطة) الذي اشتق اسمه من صناعة القوارب المخيطة Rhapton Ploiarion، أو التي تدخل الحبال في صناعتها. وكذلك إشارته إلى السفن المخيطة التي كانت تسمى مدرعة Madarata التي تشيد في عمان، ثم تصدر إلى ميناء المخا اليمني.

لدينا مصدر آخر من القرن السادس الميلادي، هو الرواية العربية لشهداء نجران الذي خلف لنا صورة كافية عن السفن التي تألف منها الأسطول الحبشي عند مهاجمته بلاد حمير رداً على اضطهاد الملك ذو نواس المسيحيين في بلاده. حيث تألف من سفن كبيرة للمقاتلين، وأخرى لحمل الجياد كالبواصي، حيث قام المهاجمون الأحباش بربطها إلى بعضها بعضاً بالحبال، ثم استخدموا أيضاً سفناً صغيرة (صنادل) لتقف إلى جوارها وتكون بمثابة الكتف لكي يهبط الجنود عليها.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)