تاريخ الأدب الجغرافي العربي، اغناطيوس كراتشكوفسكي (روسيا)، تاريخ الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية - ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الأربعاء، ٢٩ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«تاريخ الأدب الجغرافي العربي» لكراتشكوفسكي: بين الأنا والآخر


مهما كان «غضب» بعض المفكرين والمؤرخين على المستشرقين واصفين إياهم في شكل إجمالي، بما تيسّر من صفات ومتهمينهم بما تيسّر من اتهامات، ثمة دائماً ما يشبه الإجماع الإيجابي حين يتعلق الأمر بواحد من كبار أولئك المستشرقين: كراتشكوفسكي، الروسي ثم السوفياتي الذي غالباً ما يُستثنى من الإتهامات والإدانات، ليُعترف بأفضاله وانجازاته، وهي على أية حال كثيرة. ومن المعروف عن اغناطيوس كراتشكوفسكي أن أولى اهتماماته انصبت بخاصة على تاريخ الأدب العربي، ومع هذا يمكن لنا ان نجازف ونقول إن هذا الرجل لو لم يضع في حياته كلها سوى كتابه - الذي كان لسنوات قليلة، الأقل شهرة في أوساط الدارسين العرب على أي حال - «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» لكان من شأن المنصفين ان يقولوا، عن حق، بأنه قد أسدى الى التراث العربي واحدة من أروع الخدمات. فهذا الكتاب الضخم الذي قام بترجمته الى العربية ترجمة نموذجية وحيّة في الوقت نفسه، الأديب السوداني صلاح الدين عثمان هاشم، يمكن النظر اليه باعتباره أفضل ما كُتب، في هذا الموضوع، في اللغات كافة، لأنه من خلال استعراضه لما أطلق عليه اسم الأدب الجغرافي العربي، قدم موسوعة حقيقية دقيقة وعابقة بالمعلومات والسير، والتحليلات لواحد من فنون الكتابة التي شكلت جزءاً أساسياً ليس من التراث العربي الاسلامي فحسب، لكن من الحضارة العربية ككل.

لا يقل عدد صفحات الكتاب، في العربية أو في الروسية، عن خمسمئة صفحة إلا قليلاً، لكن من الصعب على قارئه أن يسأمه أو يرغب في التوقف عن القراءة حين يبدأ الغوص فيه. ولا يعود هذا فقط الى أسلوب المؤلف، بل أيضاً الى طرافة الموضوع، وتوسع كراتشكوفسكي في تناوله له، بادئاً من قرون عديدة قبل الإسلام باحثاً في جذور الرحلات العربية القديمة عائداً الى مدونات وأحفورات قديمة. وهو يفصّل في تلك المدونات ما كتب عن المناطق والبلدان، وإن في شكل عشوائي، قبل أن يبدأ العمل الأكثر علمية في الفصول التالية من الكتاب، حيث العمل على الكتب الجغرافية نفسها ومن بينها في شكل أساسي كتب الرحالة العرب، والكتب العلمية عن المخلوقات والتضاريس والشعوب. غير أن هذا لن يبدأ فعلياً إلا بعد صفحات مميّزة يقوم فيها المؤلف بتحليل العديد من قصائد الشعر الجاهلي على اعتبار أنها سجلات للأمكنة ووصف للحياة البدوية والحضرية وما إلى ذلك. من دون أن يفوته التركيز على نصوص تبدو للوهلة الأولى، أسطورية، غير أن سبرها يضع القارئ على تماس مع عقلية تحاول ان تكون «جغرافية» في شكل أو آخر. حيث أن أهم ما يحاول ان يستخلصه المؤلف من مثل هذه المقاربات هو أن ما يسمى عادة بـ «أدب العجائب» إنما هو الرحم الذي ولد منه الأدب الجغرافي.

والى أدب العجائب هذا، يضيف المؤلف ما يعرف بـ «أدب الفضائل» و «أدب المثالب» وهما أدبان يهتمان بذكر حسنات الشعوب ومساوئها، وفق قربها أو بعدها، أو مراحل العداء أو السلام معها، ما يعطي هنا الأدب الجغرافي نفحة «ذاتية» غير موضوعية ستبقى آثار لها حتى في أكثر المؤلفات موضوعية في المجال الجغرافي وغيره. وانطلاقاً من هنا، يبدأ بالتالي البحث في الجغرافيا بمعانيها الأقرب الى العلمية حيث في فصول متتالية يتوسع كراتشكوفسكي في تحليله لمؤلفات العشرات من الجغرافيين والمغامرين والرحالة والحجاج والتجار الذين توغلوا في الصحارى الأفريقية كما في مناطق الإسلام ومناطق الجوار وبلدان آسيا وما تيسر لهم من البلدان الأوروبية، في كل رحاب العالم القديم كله. صحيح أن الإمكانات التي كانت متوافرة لهم بدت دائماً قليلة، وأن تجوالهم الدائم لم يمكنهم من الحصول على ما يتوجب من مراجع، غير أن كون معظمهم كان شاهد عيان حقيقياً على ما يصف، جعل لنصوصهم قيمة مدهشة، في رأي المؤلف، الذي يقول هنا أن علم الجغرافيا كان، على ذلك، بالتالي، أكثر من علم جغرافيا حيث أن المؤلفين كانوا يعرجون في طريقهم على العلوم التاريخية والدينية، كما على العلوم المتعلقة بالنباتات والحيوانات وعلى عادات الشعوب وثقافاتها وكأننا هنا في خضم البحث الأنتروبولوجي متضافراً مع تاريخ «المدى الطويل» الذي سيكون من خصائص ومميزات مدرسة «الحوليات» وتوابعها في القرن العشرين. ومن هنا النظر عادة الى كتاب كراتشكوفسكي هذا باعتباره كتاباً شاملاً يلخص الحضارة العربية/الإسلامية، كما يلخص تطور نظرة العرب الى العالم.

ومع هذا لم يكن «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» الكتاب الوحيد الذي وضعه كراتشكوفسكي، بل كان جزءاً من عمل كبير امتد طوال حياة الرجل، نما بكل تواضع وبكل حب للحضارة العربية الإسلامية، في شكل يضع كراتشكوفسكي، دون أدنى ريب، في مكانة على حدة بين المستشرقين. وهو عند رحيله عن عالمنا عام 1951 عن عمر يناهز الثمانية والستين، لم يلقَ على أي حال من العرب الذين أحبهم ما كان يستحق من تكريم، لأن العهد كان عهد الحرب الباردة، التي كان فيها الأميركيون يؤلبون العرب على كل ما هو سوفياتي، يستوي في ذلك السياسي والفكري، الثقافي والدعائي. ومن هنا رُبط كراتشكوفسكي، عربياً، بعجلة السياسة الستالينية وقلّ المحتفون به، إلا في الأوساط العلمية العربية التي كانت عرفت كراتشكوفسكي عن كثب وعاصرته، بخاصة من خلال عضويته، التي كان يفاخر بها، في المجمع العلمي العربي. والحال ان كراتشكوفسكي كان قد وضع سيرته، مختصرة، بنفسه في مجلة ذلك المجمع منذ العام 1927، حيث ذكر انه ولد في العام 1883 في فلنيوس عاصمة لتوانيا، لكنه كان في الثانية من عمره حين سافر والده، واصطحبه معه الى طشقند، حيث عُيّن رئيساً لمدرسة المعلمين. وهكذا تفتح وعي كراتشكوفسكي باكراً على العالم الإسلامي من خلال جناحه الآسيوي فكان لتأثيرات تلك المنطقة «وقع شديد في نفسي أيام طفولتي، وأكبر ظني اني غدوت ميالاً الى الشرق وإن كنت غير مدرك هذا الميل الغريزي» كما يخبرنا بنفسه.

وكان كراتشكوفسكي في السادسة عشرة حين وعى انجذابه «السحري» نحو الشرق، وهكذا دخل في العام 1901 قسم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ فدرس اللغات العربية والفارسية والتركية والتتارية ولغات سامية أخرى، وراح يدرس تاريخ الشرق الإسلامي، مندفعاً بخاصة نحو اللغة العربية التي أحبها أكثر من أية لغة أخرى، ثم بدأ يدرس الآداب العربية بتوسع، كما تعمق في دراسة علوم اللغة العربية على عدد من كبار مستشرقي ومستعربي تلك المرحلة. وكان من أهم اساتذته بارتولد والبارون روزن. وهو بعد تخرجه أمضى نحو سنتين متجولاً بين لبنان وسورية وفلسطين ومصر حيث عمّق معرفته بشعوبها وتراثها. وفي القاهرة تعرف على عدد من كبار المفكرين والعلماء من أمثال جرجي زيدان وأحمد زكي والمستشرق نالينو، وفي فلسطين ولبنان تعرف الى خليل سكاكيني ولويس شيخو. ولقد بدأ كراتشكوفسكي بوضع مؤلفاته العلمية اعتباراً من العام 1904، ومعظمها حول آداب العرب، وشعر النصارى العرب، وتاريخ الشعر العربي، وركز اهتمامه بخاصة - وكان في ذلك متفرداً بين المستشرقين - حول فكر وآداب عصر النهضة العربي في القرن التاسع عشر.

لقد وضع كراتشكوفسكي العديد من الكتب، والدراسات المتفرقة، وجمعت السلطات العلمية السوفياتية كافة كتاباته بعد موته في مجموعة ضمت ستة أجزاء ضخمة أشرف على وضعها عدد من كبار علماء الاستشراق السوفيات. ولئن كان كراتشكوفسكي قد وضع العديد من الدراسات، فإن الأديب السوداني صلاح الدين هاشم، مترجم كتابه عن الأدب الجغرافي العربي، يقول إن أهم كتابين له، هما اللذان نالا شهرة عالمية: «مع المخطوطات العربية» الذي صدر في العام 1945 و «من تاريخ الاستعراب الروسي»، وصدر في العام 1950 قبل عام من رحيل كراتشكوفسكي. ويفيدنا هاشم بأن كراتشكوفسكي بعد سنوات عديدة قضاها في دراسة الأدب والشعر العربيين، انهمك طوال السنوات العشرين الأخيرة من حياته بالأدب الجغرافي العربي، هو الذي كان في الأصل مهتماً بالجغرافيا في شكل عام. ولقد مكنه ذلك الاهتمام من وضع الكتاب الذي نتحدث عنه. لكن كراتشكوفسكي رحل عن عالمنا قبل أن يفرغ من كتابه، فاهتمت به الدوائر العلمية السوفياتية بعد رحيله، فكان من غريب حظه أن يصدر أهم كتاب وضعه خلال حياته، بعد موته بسنوات.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


تحميل تاريخ الأدب الجغرافي العربي، القسم الأول

تحميل تاريخ الأدب الجغرافي العربي، القسم الثاني

إغناطيوس كراتشكوفسكي على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)