بيوت الأكابر والأعيان والأفندية في دمشق العثمانية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٥ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
جريدة الحياة
مهند مبيضين


بيوت الأكابر والأعيان والأفندية في دمشق العثمانية


أخذ البيت والدار الدمشقيان اهتماماًً ملحوظاً في الدراسات التاريخية والحضرية، ولعل هذا الاهتمام نابع من نظرة الدمشقيين إلى البيت والدار، إذ لهم عناية كبيرة ببيوتهم، وبخاصة من الداخل، فهي جنتهم الصغيرة التي أبدعوا في تزيينها. لكن المصادر المحلية في الزمن العثماني لا تنقل الصورة عن بيوت الناس العاديين وإنما عن بيوت الأكابر والأعيان.

وللبيوت الدمشقية نسيجها الخاص، إذ بنيت هذه البيوت من حجارة بسيطة بما يقارب ثلاث أو أربع أذرع من سطح الأرض، ويرفع البناء باللبن والطوب أو الطوب والخشب، ويستخدم الطين الأحمر أو الشيد، وتمركز البناء الحضري حول مفهوم الحارة التي شكلت عالماً مستقلاً بذاته، و قسمت الكتلة السكانية داخل أسوار دمشق أو في أرباضها المحيطة بها إلى ثمانية أثمان احتوى كل ثمن على عدد من الحارات، واحتوت كل حارة على عدد من الأزقة والدخلات، وكان من هذه الأثمان خمسة خارج السور وثلاثة داخله، أما الخارجية فهي ثمن القنوات وثمن سوق ساروجه وثمن الميدان وثمن الشاغور وأخيراً ثمن الصالحية. أما داخل السور، فهناك ثلاثة أثمان بها حارات عدة منها حارة الجابية وحارة البزورية وحارة الحطب وحارة درب البقل وحارة مسجد البيع وحارة درب الريحان وحارة الكنيسة وحارة النبطيين وحارة داخل باب توما ومنها حارة المنجنيق/ الجنيق وحارة البدارئية وحارة الخضرا وحارة الهنود وحارة الأندر وحارة الظاهرية وحارة الخشابين، وهذه الحارات شكلت تاريخ المدينة ونسيجها المتين عبر القرون.

والناظر إليها من الخارج يغفل عن سر الجمال الداخلي لها، فمن الداخل تحتوي الكثير من الزخارف والنباتات العطرية وأشجار الليمون التي تحف برك الماء الصغير والنوافير، وأصص الورد، ومن أبرز ملامح البيوت الدمشقية التقليدية الدار السماوية وبركة المياه والإيوان، وشاع في القرن التاسع عشر الطراز المعماري الأوروبي والإيطالي بخاصة، فجاءت نوافذها وشرفاتها مفتوحة على الخارج.

ولجهة ارتباط البيوت والدور بالمكانة الاجتماعية تذكر لنا المدونات التاريخية واليوميات الشامية مصطلح الأكابر والأعيان، وبقدر ما يقدم المصطلحان مفهوماً لمجموعة سكانية متقاربة نفوذاً وثروة، وفي المصالح المتشابكة، إلا أنها لا تفصل هذه المجموعة عن المجتمع، بل شاركت المجتمع نضاله في العصر العثماني ضد الاستبداد وفوضى الحكم.

ومن دور الأعيان والأكابر التي تعود إلى القرن الثامن عشر، دار الأسطواني، ويذكرها المؤرخ ابن كنّان الصالحي، والمشمولة بوقف الأسطواني، وكانت تقع في زقاق الحمزاوي، إلى ناحية الشمال من قصر العظم الشهير، وآخر ساكنيها من آل الأسطواني الشيخ عبد المحسن الأسطواني (ت: 1383هـ/ 1963م ).

وهناك دار إسماعيل العظم التي أنشأها غرب المدرسة الجوزية، وهي لصيقة بمدرسة عبدالله باشا العظم. وكانت هذه الدار مقراً لأولاد إسماعيل العظم لاحقاً. ومن الدور الشهيرة دار أحمد أفندي العُكري الذي يصفه ابن كنّان بأنه «من أعيان الشام، وهو قاضي مكة المشرفة» وكان له لدى دخوله دمشق سنة (1115هـ/ 1703م) استقبال مشهود من الأكابر والأعيان. وتقع داره غرب البيمارستان النوري. ويذكر ابن كنّان أنه كانت له دار في إسطنبول وأنه «تسرّى بجوارٍ، ووُلد له، وجاء بهم إلى الشام». ويشير ابن كنّان إلى دار أحد أقطاب الصوفية في دمشق وهو الشيخ عبدالغني النابلسي وهي الدار التي أنشأها في منطقة السهم في حي الصالحية وأقام فيها حفلاً لختان أحفاده.

ومن أشهر الدور الدمشقية التي يصفها ابن كنّان دار الشيخ عبد المعطي الفلاقنسي (1122هـ/ 1710م) الذي كان من رؤساء دمشق وأعيان كتابها وهو من أجلَّ ذوي الأقلام الدفترية وكان ذا ثروة باذخة ومسؤولاً عن تموين العساكر «كلار أميني». يقول ابن كنّان:» وأما داره فلم يكن أحسن منها، فإنها على ما قيل سبع دور، كثيرة الأزهار والأشجار والبحرات المرتفعة والنوافير العالية، والقاعات المذّهبة بالدهون المدهشة الغريبة، والنقوش المتقنة العجيبة، ولم يكن أحد من أهل الثروة أتقن تدبير المنزل مثله، خصوصاً في مدة ما صار أمين الكلار، مما لم يسبق إليه، ولعل ذلك مرتبط بطبيعة الوظيفة التي كان يشغلها صاحب الدار والتي انعكست على بيته.

وفي هذه الدار مجموعة بيوت حسب وظائفها ومنها: بيت للعطريات، وضم إليه الفستق واللوز والصنوبر وأنواع المشمش والزبيب والتمر الهندي والإجاص وغير ذلك. ومكان السكاكر ومكان الأطياب، كالعود والعنبر والمسك والأشياء الطيّبة والعطر شاهي والمكّاوي واللبان المصرية والملبّس من الفلفل والقرنفل، ولكلٍّ منها خادم. ومكان للأدوية يعملها له الأطباء من الحبوب والمعاجين والترياقات والمراهم، بحيث إذا جاء الحكيم، يعمل الأدوية عنده، ولها خادم يدون أسماء الأدوية بدفتر.

وهناك بيت الأدهان، وفيه أكياس الورد والبنفسج واليقطين ونحو ذلك، وبيتٌ آخر فيه أنواع العسل والسّمن إلى غاية ذلك، والعطريات، ثم مكان آخر للمربّيات السكّرية. ومكان للمخللات الغربية كمخلل العنب الزيني وغيره، ومكان تطلع من الآلات السّماعية، حتى قيل عنده كان الأرغلا/ الأرغون، يخرج منها أربعٌ وعشرون نغماً».

ويشير ابن كنان إلى وجود آلة للتسلية في بيت الفلاقنسي جلبها من بلاد الفرنج، وهي إشارة مبكرة إلى صندوق العجب وهي عبارة عن «صندوق بدولاب يحرَّك فيفتح عن صورة وتماثيل تضرب بالدفّ وبالعود بطريقة الجنيّات، أشباح بلا أرواح». ومن مظاهر الترف في هذا البيت أن صاحبه عمل فيه «خلْف القاعة حوضاً من عجايب الدنيا، مغطّى بالبلور عند الشباك، على دوم الدهر أزهاره يانعة، وألوان أنواع نقوشه ساطعة، على مدى الأيّام، وإنما جُعل عليها البلور خوفاً من الغبار... وله مقعد كله من البلور، وفيه رفوف عليها الفواكه الفرنجية، من الرمّان واليقطين والبطيخ والكبّاد والنارنج الفرنجي، مصنوعاً من شمع لا تظنّ إلا أنه حقيقة. وإذا ورد عليه أحد من الأكابر يحضر له ما يليق من الضيافة من غير أن يتكلّم أو يشير».

وفي عام 1163هـ/ 1749م، بني في دمشق أشهر بيوت حكام دمشق وولاتها، وهي دار أسعد باشا العظم المعروفة حتى اليوم بقصر العظم، وقد أورد المؤرخ البديري الحلاق وصفاً لبنائها وما أنفق عليها وما أحضر إليها من نوادر الحجر وأعمال البناء من مختلف الدور القديمة ومن ريف الشام فقال في ذلك: «وفي تلك الأيام أخذ أسعد باشا دار معاوية وأخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمها وشرع في عمارة داره السرايا المشهورة التي هي قبلي الجامع الأموي، وجدّ واجتهد في عمارتها ليلاً ونهاراً، وقطع لها من جملة الخشب ألف خشبة، وذلك عدا الذي أرسله له أكابر البلد والأعيان من الأخشاب وغيرها، واشتغل بها غالب معلمي البلد ونجاريها، وكذلك الدهانون، بل قَلّ أن يوجد معلم متقن أو نجار أو دهان كذلك إلا والجميع مشتغلون بها، وجلب لها البلاط من غالب بيوت المدينة...».

نترك القرن الثامن عشر ونصل إلى القرن التاسع عشر، فيطل نعمان أفندي القساطلي في كتابه «الروضة الغناء في دمشق الفيحاء»، ويحدثنا عن فرش البيوت الدمشقية الذي يوحي باقتدار صاحبه، فمنها ما يحتوي الفرش الشرقي من مقاعد ومساند وسجادات وبسط، وهذا حال بيوت الناس العاديين، أما الأغنياء والأكابر فيذكر أنهم قاموا بفرش بيوتهم بالأثاث الغربي، مبقين على حجرة فرشها شرقي، وفي بعض الدور قاعات رفيعة مدهونة بأجمل الألوان، وفي وسطها برك يجر إليها الماء.

وغالبية بيوت الأكابر والأعيان تحتوي في ترتيبها على إيوان على جانبيه حجرة في كل جانب، وبقية الحجرات تتقابل. وما ميّز هذه البيوت في التصميم وجود ما يسمى الفرنكات (الشرفات) وهي تتبع للغرف العلوية ويغشاها بلور ولها نوافذ كثيرة وتقع فوق الحجرات المتقابلة، وغرف المؤونة تحت الأرض.

وتعتبر دار عبدالله بك العظم الواقعة في طرف سوق البزورية الشمالي من أكبر بيوت الأكابر ونموذجاً في العمارة والزخرفة وإظهار البذخ، ويقال إنها تحتوي على ثلاث مئة وستين حجرة، بين حجرات سفلية وعلوية، كما تحتوي بركاً مائية عدة، وهي مفتوحة للسياح.

ومن دور الأكابر التي يذكرها نعمان أفندي دار حبيب أفندي الصباغ في حي النصارى التي بناها متري شلهوب سنة 1866م ودار أنطون أفندي الشامي، ودار سعيد أفندي قوتلي بجوار الجامع الأموي ودار حسن آغا البارودي، ولكن قساطلي يتوقف عند دار الخواجه يوسف أفندي عنبر، ويصفها بقوله: «ودار يوسف أفندي عنبر موقعها في حي المنكنة ويعز وجود نظيرها في أوروبا لأنه فضلاً عن اتساعها العظيم وانتظام هندستها وسعة بركها وكثرة مياهها ورصف أرضها بالرخام الملون ترى جدرانها قائمة على كل دوائرها من رخام ملون منقوش بأجمل النقوش بنوع لم يوجد له مثيل في دمشق وخلافها إلى أن قال، وهذه الدار تستحق الفرجة وإمعان النظر لما بها من دقة صناعة البناء والنقش وأنها بنقوشها الكثيرة أشبه بقلعة بعلبك... وكان الشروع في بنائها سنة 1867م واشتغل بها العَمَلة بضع سنين ولم تكمل بعد لأن أحوال بانيها قد تأخرت وما بني منها كانت نفقته 42 ألف ليرة ومواد البناء والأجور رخيصة...».

وبلغ عدد دور دمشق كما يشير نعمان قساطلي في التقرير الرسمي لسنة 1288هـ/1871م، ما يقارب 14696 داراً لكل الطوائف.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عن صورة المقال : قصر العظم المشيّد عام 1749 واعتبره فيليب حتي “أروع أثر عربي في القرن الثامن عشر”

سوريا العثمانية على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)