بيت القشلة، سكينة حبيب الله (المغرب)، رواية الدار العربية للعلوم ناشرون - 2016

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ٢٧ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٦
جريدة الحياة
سلمان زين الدين


عالم «بيت القشلة» يتفكك على إيقاع الراهن


تُشكّل الرحلة بالطائرة من باريس إلى الدار البيضاء الفضاء الروائي الذي تتذكّر فيه هاجر، بطلة رواية «بيت القشلة» للكاتبة المغربية سكينة حبيب الله (الدار العربية للعلوم ناشرون)، حكايتها. وهي حكاية تتناثر بعشوائية عبر استعادتها من خلال رسائل الأب. هكذا، تتألّف الحكاية من مجموعة ذكريات تُستحضر في الطائرة التي تغدو إطارًا وقائعيًّا تُستعاد فيه الذكريات. وبذلك، يكون الجوّي إطارًا للأرضي، على المستوى المكاني، ويكون زمن الوقائع الذي لا يتعدّى بضعة ساعات، هي زمن الرحلة بين باريس والدار البيضاء، إطارًا لاستعادة ذكريات تمتد على مسافة عقود، هي حياة ثلاثة أجيال متعاقبة من أسرة واحدة.

ترصد الرواية حكاية التفكّك الأسري، في حيٍّ مغربي، هو قشلة عين البرجة في الدار البيضاء، من خلال قصة هاجر. ولعلّ ما ورد على لسان الراوي العليم من أنّ «أمّها هربت، والدها هرب، جدّها هرب، جدّها الآخر هرب، جدّتها هربت، جدّتها الأخرى هربت» يعبّر خير تعبير عن هذا التفكّك. تستعيد هاجر الثلاثينية سيرة حياتها، بمحطّاتها المختلفة، فنتعرّف فيها الى نشأتها في أسرة فقيرة ترث التفكّك أبًا عن جد، ثم عملها صغيرةً مع أمّها في خدمة خالة الأم المتسلّطة كلثوم، وتخلّي الأب عنها ومغادرته البيت ليلة ولادتها، قبل انقطاع الأم عنها ثماني سنوات تاركة ابنتها في عهدة الخالة.

تعيش هاجر طفولة مفقودة، بعيدًا من الأب والأم اللذين يتحدّران من أسر مفكّكة، وتطوي النفس على مشاعر سلبية إزاء كلٍّ منهما، اضافة الى علاقة ملتبسة تربطها بكلٍّ منهما.

في العلاقة مع الأب، يغادر بوشعيب الشهب - الذي يكتب رواية باسم مستعار هو «صان نام» - بيته ليلة ولادة ابنته، من دون أن يتّضح سبب المغادرة، وتنقطع أخباره عن الأسرة، ويتبيّن من الرسائل التي كتبها أنّه لم يعش طفولته بعدما تخلّى عنه والده صغيرًا، وماتت أمّه الفييتنامية لدى ولادته. وبالتالي، هو ضحية أسرة مفكّكة يمارس على ابنته ما مورس عليه، ما يؤدي إلى إحساس بالذنب يروح يكفّر عنه بكتابة رواية ومجموعة رسائل يوجّهها إلى ابنته.

حين تعثر هاجر على أبيها بمساعدة محرّك البحث «غوغل»، تكون لقاءات قليلة بينهما وسجالات، تتنكّر فيها لأبوّته انتقامًا منه، حتى إذا ما أرادت أن تعود إليه لتخبره أنّها ابنته، وأنّ تنكّرها له ليس صحيحًا تجده قد مات. وهكذا، تتصالح معه بعد فوات الأوان.

في العلاقة مع الأم، ثمّة التباس أيضًا. فهي فقدت أولاً أمها وإخوتها في زلزال، فأخذها والدها لتعيش في كنف خالتها، ولاحقًا تترك ابنتها هاجر وهي في السادسة عندها وتغادر إثر سجال ساخن مع الخالة. ومن ثمّ تعود بعد ثماني سنوات، وقد اشترت لها بيتًا، غير أن العلاقة بينهما لا تستقيم. «كان ما بينها وبين أمّها يشبه العلاقة بين نزيلتين في دار عجزة» (ص58).

إزاء هذا النوع من العلاقة الملتبسة، يقوم الأب بكتابة مجموعة رسائل لها يتحدّث فيها عن حياته، علاقته بها، مرضه، روايته الوحيدة، ورؤيته إلى الحياة والموت، في محاولة منه للتكفير عن ذنبه، أو للحصول على براءة ذمّة متأخّرة. أما والدتها فتشتري لها بيتاً وتسجله باسم هاجر.

وإذا كان كلٌّ من الوالدين يحاول الاقتراب من هاجر، على طريقته، فإنّها بدورها تتحرّك باتجاه كلٍّ منهما؛ فتأتي قراءتها رسائل الأب في الطائرة لتردم الفجوة بينهما وتصالحها معه ولو بعد رحيله، وتأتي خشيتها من موت أمّها سبباً لتصالحها معها. وهكذا، تؤول الأحداث إلى نهاية إيجابية بعد سلسلة من العقبات التي تكتنف العلاقات بين شخصيات الرواية. فالطفولة التي عاشتها كلٌّ منها تترك أثرها في مراحل حياتها الأخرى، والآباء الذين دفعوا ثمن تخلّي الأجداد عنهم لا يلبثون أن يجعلوا الأحفاد يدفعون ثمنًا مماثلاً، ما يعكس أهمية الأسرة في تحديد مسار الشخصية ومصيرها.

في الخطاب الروائي وعلاقته بالحكاية، تعتمد الكاتبة تقنية حديثة مفكّكة في تقديم الحكاية، فيتناسب الشكل والمضمون، وهي لا تقدّمها لقمة سائغة للقارىء، متسلسلة، مترابطة، بل تنثر جزئياتها على مختلف الوحدات السردية من دون مراعاة تسلسل أو خطّيّة زمنية، وكثيرًا ما ينتقل السرد من شخصية إلى أخرى من دون مناسبة، كما في الوحدة السردية الرابعة عشرة حيث ينتقل بو شعيب، والد هاجر، بين شخصيات عدّة، في المساحة النصية التي يرويها. وبذلك، يكون على القارئ أن يركّب فسيفساء الحكاية ممّا يسوقه له الراوي العليم أو من رسائل الأب إلى ابنته، على أن جزئيّات الفسيفساء لا تُقدّم تباعًا وفق نظام معيّن بل بطريقة عشوائيّة «مدروسة».

تُسند سكينة حبيب الله مهمة الروي في «بيت القشلة» إلى الراوي العليم الذي يستخدم صيغة الغائب ويُمسك بمعظم الخيوط السرديّة، وإلى الراوي المشارك، الأب، الذي يستخدم تقنيّة الرسائل في الكتابة إلى ابنته، وفي سرد سيرته. وتلعب الرسائل دورًا مكمّلاً للمادّة المسرودة من الراوي العليم، فيما يجتمع الراويان (العليم والمشارك) في أكثر من وحدة سرديّة. وإذا كانت الكاتبة عمدت إلى التمييز، في الشكل الطباعي، بين الإثنين، بحيث أوردت سرد الراوي المشارك بالأسود الفاحم، فإنّ خطأً إخراجيًّا أدّى إلى الخروج عن هذا الترتيب في عدد من الصفحات (177، 178، 179)...

أبطال «بيت القشلة» مفككون، وهم بذلك لا يبتعدون كثيراً عن أبطال عالمنا المفكّك نتيجة انقساماتنا وحروبنا وهجراتنا التي لا تنتهي، ولا شيء يومئ بأنّها قد تنتهي.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


الرواية على موقع نيل وفرات



جريدة الجريدة الكويتية


27 أغسطس (آب) 2016
جريدة الجريدة


بيت القشلة


تشعرُ أحياناً أنها مستهدفة من الكل، من الأبواب التي تُقفلُ على يديها، السكاكين التي تتركُ حبَّة البصل برمَّتها وتفضل فرم أصابعها، الكؤوس التي تسقطُ من الخزانة فور مرورها بجانبها، أسلاك الشّاحن التي تتقطع بعد أول أو ثاني استعمال... طاقة سلبية هائلة متمثلة في جسد امرأة، لا يصمد شيء إن اقتربَ منها، الإرث الذي حملته فوق ظهرها لأكثر من ثلاثين سنة. حرصتْ أمّها على تذكيرها به لسنةٍ كاملة، قبل أن ترتكِنَ كلتاهما إلى الصمت.

تجلسُ أمها غالباً خلفَ آلة الخياطة، ودون أن ترفع عينيها لتنهي جدالاً طال، تقول كلمتها بصوتها المرتفع المعهود، كأنَّها ترمي حفنة تراب فوق موقد: “ماذا أقول إن كان أبوك نفسه قد هرب في تلك الليلة التي أخرجتك فيها من بطني»، تقولها وهي تديرُ عجلة الآلة بيدها اليُمنى بمشقّة، كأنَّها عجلة كرسي متحرك تحاول دفعه قدماً إلى الأمام، بينما تضغط قدمها على الدّواسة بحركاتٍ متسارعة لتكمل الهرب.

لم ترغب بالعودة إلى ذلك كلّه، كما لم تكن تريد البقاء. صعدت سلالم الطائرة التي ستغادر باريس إلى الدار البيضاء، وقد بدت أظفارها التي يكشفها صندل الفليب فلاب، وكأنها تتمسك بالأرض وقد انثنت عند المنتصف. فوق الصندل انسدل بنطلون جينز بالغُ الزّرقة، تمّ ثنيه من دون اهتمام كثير، فيما ارتاحت على الجانب الأيمن يد مطوقة بساعة معدنيةٍ تنمّ عن ذوقٍ كلاسيكي لا يناسب الهندام. انعراجاتُ البنطلون الكثيرة تنتهي عندَ قميصٍ بُني فضفاضٍ، مفتوح بشكلٍ طفيفٍ عندَ العنق. تحركت طبقة الجلد الرقيقة عند الترقوة بفعل دقات القلب مثلَ أوداج ضفدع، وهي تهزّ معها قلادة فضيّة تتدلى من سلسلتها علاّقة تحمل اسماً بأحرف لاتينية، يبدأ بحرفٍ كجدارين تتوسطهما عصا تباعد ما بينهما، وتقف إلى جواره أحرف صغيرة تشكل في النِّهاية اسماً يبدو سهل التهجئة: Hajar.

منذ أسبوعٍ وهي نعسانة، تنام طيلة اليوم، ومع ذلك تصحو متعبة. ليست حزينةً، لكنها لم تكن راغبةً في الخروجِ إلى العالم يتيمةً - هذه المرة - بأوراق ثبوتية. كان الوقت ضيِّقاً على لعبةِ التأجيلِ والنَّوم وإطفاءِ الهواتف، بعدَ أن ذكَّرها منسِّق ورشة التدريب بموعد الطائرة ليلة أمس. جمَعت أغراضها القليلة من دون أن تضايقها كمية الملابس المتسخة التي ملأت جلّ الحقيبة. حملت حزمة الأوراق التي تركها لها والدها، ووضعتها داخل الثلاجة بعدما سحبَت الفيشة. مكانٌ غير متوقع، ولو تذكرت قبل أن تغادر فتح الثلاجة واستخراج الأوراق فإنَّ القدر يريد لها ذلك، وإن لم تفعل فليس عليها العودة بها.

لم يكن بمقدورها أخذ قرار كهذا بنفسها، لا تعرف إن كان هذا جبناً أو ضعفاً أو شيئاً آخر، لكنها أرادت أن ترمي بالثقل على أيّ شيءٍ آخر سواها. حين أنهت ترتيب الشّقة وجمع أغراضها ومطبوعات التدريب الكثيرة، سحبت نفسها بمشقة إلى الحمام، وضعت جسدها تحت الدُشّ وتركتِ المياه تغمرها. ظلت المياه الساخنة تنهمر للحظاتٍ، فيما كتلة الشَّعر غير الممشَّط منذ أسبوعٍ تحجبه عن لمسِ فروة رأسها. ببطءٍ، بدأ الماء يجدُ لنفسِه طريقاً، شعرت بحرارته وهي تلسع رأسها، كأنَّه الحياة نفسها، الحياة التي حصَلت على مدارِ أكثر من ثلاثين سنة من عُمر هاجر، وظلت تتساقط على كبّة السنين المتداخلة، ولم تصل إلى قلبها سوى في آخر شهرين قضتهما في باريس. شهران كانا كافيَيْن كي يصلَ الماءُ إلى المناطِق البعيدة من ذاكرتها.

شعرت بالراحة وهي تلمح في أعلى صندوق الأمتعة رقمَ جلوسها، كأنَّها توقعت ألا تجده. بدأ ذلك الشعور ينكمشُ شيئاً فشيئاً إلى أن اختفى، وهي ترى رجلاً ببذلة زرقاء يحتلّ مقعدها. مرَّت ثقيلة على قلبها تلك الدقائق الثلاث التي قضتها هي والمضيفة وهما تحاولان إقناعه بالانتقال إلى المقعدِ المجاور قبل أن يقتنع.

رمَت بجسدها على الكرسي وهي تتنهَّد، أخرجت هاتفها من جيب السترة كي تضعه على وضعية الصامت، قابلتها الشاشة السوداء فور أن رفعته وهي تعكسُ وجهاً خبرته جيداً؛ الوجه نفسه الذي تصادفُه كل صباح، وتقنع نفسها بأن الانكماشات الصغيرة التي بدأت تزحفُ بإصرارٍ على جانبـي العينين والفم مجرد آثار نومٍ سيئ ستختفي حالما تغسل وجهها. فكرت بشكلٍ خاطِف في أمها، غالباً ما تتذكرها بوضعيةٍ واحدة، حين كانت تستيقظُ لتجدها أحياناً وقد كدَّست كل أواني الفِضَّة في المنزل حولها على الأرض، وهي منهمكةٌ في حكِّها بخرقةٍ تقتطعها من ثوبٍ قديم وبمعجونِ أمونياك عليه صورة شمسٍ لطالما بدَت لهاجر قادمةً من الجحيم. تفعل ذلك باستمرارٍ، وحين تقول لها هاجر بتأفف: “لقد لمّعتها قبل أيامٍ فقط”، كانت تُجيب بالفرنسية وهي تحكم إمساكَ الآنية بركبتيها من دون أن يبدو كلامُها موجهاً لأحد: “عليَّ أن أرى وجهي فيها”. لسنواتٍ، ظلت تلمِّع، تلمِّع، منتظرةً أن يطلَّ وجهها في الفِضَّة، فتراه أخيراً وترتاح.

بدورها هاجر تعلَّقت بالواجهات الزجاجية في صغرها، لا بدافع البحث عن وجهها وانعكاسه عليها، بل تعطّشاً للحياة التي تخبِّئ خلفها. كانت واجهة مصنع الكوكاكولا المحاذي لمنزل قشلة عين البرجة بمثابة شاشة تلفازٍ ضخمة ومصدر بهجةٍ عظيمة بالنسبة إليها. تتعلَّق بسورِه الواطئ، وتراقبُ من خلفِ الواجهة الزّجاجية الشفافة القناني وهي مصطفّة على شكلِ طابورٍ طويل. زجاجية ولامعة، تتحرك مترجرجةً مثل سربِ بطّ، تلتقطُها الصّنابير من أفواهها، وفي قبلةٍ سريعة تعبّئها بالمياهِ السّوداء، وفور أن تصلَ إلى الإصبع الثالثة من يدها، تكون القناني قد امتلأت لتستكمل طريقها الدّائري وتختفي. كلَّما كانت تسمع الجاراتِ يتحدَّثن في ما بينهن عن “السِّحر الأسود”، فكَّرت مباشرةً أنهن يعنين مصنع الكوكاكولا.

أغلبُ الجاراتِ كُنّ زوجاتِ مُحاربينَ قدامى منحتهم الدّولة تلك المساكن التي كانت سابقاً فيلاّت لجنرالاتِ الجيش الفرنسي وموظّفيه، أثناء الحماية الفرنسية. وبعدَ أن انتهتِ الحماية، صارت كلها منازل يسكنها جنود مغاربة أحيلوا على التقاعد. كلها، باستثناءِ المنزل الذي عاشت فيه هاجر.

خالةُ أمِّها كانَت زوجة حارسِ مفرخة الدّجاج والبيض التي في الشارع المقابل. سكنُوا بالقشلة من دون أن يفهم سكّان المنطقة كيف صارَت هذه الأسرة القادمة من الجنوب، والدَّجاج، بينهم فجأة، فلم يشعروا يوماً أنها واحدة منهم. سابقاً، كانت الفيلاّ لموظّف بريدٍ فرنسي عاشَ هناك لثلاثة عقود قبل أن يعودَ إلى فرنسا، ويتركَ منزله فارغاً. بعدَ أشهرٍ قليلة، نزل لحسَنْ إلى المنزل، من دون أن يجلبَ أسرته معه. يمكث ليلة أو ليلتين، ويغادر. أفهَم الجميع أنَّ السّاكن القديم أوكل له مهمَّة حراسة البيت، ثم حين مرّت سنتان، ذهبَ إلى وكالةِ الكهرباء، واستخرجَ وصلاً جديداً للعدّاد باسمِه، دفع الفاتورة، ثم عادَ محملاً بمتاعه القليل وخدّوج وطفلين سرعان ما صارا تسعة.

بعدَ قليلٍ ستقلعُ الطّائرة...

كم قضت في فرنسا؟ ثلاثة أشهر... ثلاث سنوات... ثلاث حيوات... الليلة الماضية، آخر ليلة لها هناك، أمطرت. بدا ذلك فيلماً غارقاً في الرومانسية، حيثُ يجري البطلُ المخذول في الشوارع، وفي اللحظة التي يبدأ فيها بالبكاء، تمطر السَّماء متآزرةً معه. لكنَّها لم تكن تبكي، وضعت ذاكرتُها كل أيامها السّابقة السيئة كطُعم، إلا أنَّها لم تُفلح في اصطيادِ ولو دمعة واحدة. كانت واقفةً خلفَ النافذة الزجاجية التي تمتد من البلاط حتى السقف، وهي تُنصِت لنباح كلب. من بين كل الحيوانات التي تعيشُ مع الإنسان، ليس لدى الكلابِ ما تخفيه أو تضمره. الكلب الوحيد الذي اعترضَها ذات مرة وهي في طريقها إلى الفرن، كان بنياً. لا تذكر من أين خرج، لكنه بقي محدقاً فيها. توقفت لهنيهة، ثم مرت امرأة وهمَست محذّرة: “لا تظهري له خوفك، إنه يراه”. لم تقل إنه يشعر به. كانت تلك هي المرة الأولى التي تكتشف فيها هاجر أنَّ كائناً ما يمكنه أن ينفذ إلى ما تحت جلدها ليرى الخوف. لكنّها مرت بجواره، ولم ينبح في وجهها، بل وضَع رأسه على الأرض في إشفاق.

بدا لها صوت نباح كلب ليلة أمس، رحيماً أيضاً، مقارنةً بصوتِ الدّيك الذي دأبت على سماعِه في الدار البيضاء. كان صياحه أشبه بصراخ يخترق أذنيها مثل سيخٍ ساخن. تتكوم في فراشها إلى أن يأتي الصباح، متخيلة طوال الليل عراكاً سينتهي بدفع أحدهم باب غرفة الخزين التي كانت تؤويها وأمَّها. لم يكن الصَّباح صديقها، لكنها كانت تنتظره كما لو أنَّه السَّجان الذي سيرمي لها بقطعة الخبز التي ستبقيها على قيد الحياة. تذهب مباشرةً إلى أمِّها التي تكون قد ارتدت ملابسها، تلتصق بساقيها مثل علَقة، فتزيحها تلك جانباً وتصفق خلفها الباب، متوجهة إلى عملها من دون أن تنظر إلى ابنتها أو تمسح بعجل على رأس ابنتِها المرتجفة.

في فرنسا، سمعت هاجر نباحاً كفيلا بملء عشرينَ ذاكرة هاتفية، لكنها متأكدة أنه سيختفي من ذاكرتها فور أن تغادر. تبدو هنا الأشياء هشة، بلا ذاكرة، حتى المطر ينزلقُ بخفَّة بين قطع البلاط المستطيلة الصَّغيرة، ليسقط في جوفِ المجاري كأنَّه رشفة شاي، على عكس المطر الذي يبيت في المغرب الليل كله في البِركِ.

عن موقع جريدة الجريدة


تصدر في الكويت عن شركة الجريدة للصحافة والنشر والتوزيع منطقة الصالحية - صدر العدد الأول بتاريخ 2 يونيو (حزيران) 2007.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)