«بياع الخواتم» للأخوين رحباني - يوسف شاهين : صارت الكذبة «زَلَمي»

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الإثنين، ٢٧ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


تماماً مثل فيلم «الناصر صلاح الدين» الذي كان سبقه وآخر فيلم حققه شاهين في مصر قبل خروجه منها، اوائل سنوات الستين، في زحمة من غادر القاهرة من بين اهل السينما، غضباً من قوانين التأميم الاشتراكية التي طاولت في ما طاولت قطاع التوزيع الذي كان اغلبه في أيدٍ غير مصرية، وسعياً وراء آفاق رزق جديدة تبدت بيروت في ذلك الحين مكانها الأثير، لم يكن فيلم «بياع الخواتم» الذي حققه يوسف شاهين في بيروت عند بداية العام 1965، فيلماً له: فكما ان «الناصر صلاح الدين» كان من المفترض ان يحققه عز الدين ذو الفقار، لكن مرضه أقعده عن ذلك فحلّ شاهين مكانه، كذلك كان من المفروض ان يحقق «بياع الخواتم» مخرج فرنسي يدعى برنار فاريل، لكن ظروفاً معينة حالت دون ذلك، فكان أن جرى الاتفاق بين الفنانين اللبنانيين عاصي ومنصور الرحباني، وشاهين كي يحل محل فاريل. ونقول هذا هنا، اولاً على سبيل الحقيقة التاريخية، وثانياً للتوطئة من اجل تفسير الكيفية التي تمكن بها شاهين هنا، وقد صار في أوجّ نضوجه، من الاستحواذ على فيلم غير-شاهيني محولاً إياه الى فيلم شاهيني بامتياز. اي انه حقق هنا ما كان عجز عن تحقيقه في فيلميه مع فريد الأطرش. ومع هذا، من قبل دخول شاهين، او حتى برنار فاريل الى مشروع «بياع الخواتم»، كان المشروع مكتملاً. إذ نعرف ان هذا العمل كان في الأصل مسرحية استعراضية لفيروز والرحبانيين، قدمت على الخشبات مواسم طويلة قبل ان تولد فكرة تحويلها الى فيلم سينمائي تقوم فيروز نفسها ببطولته.

وشاهين كان يعرف المسرحية بالطبع، لذلك لم يتردد طويلاً قبل ان يقبل، وهو مدرك سلفاً ان فرصة ستتاح له هناك كي يعود، بعد غياب، الى تجاربه المحببة اليه في مجال تجديد لغته السينمائية. خصوصاً ان شاهين، منذ «الناصر صلاح الدين» كان اضاف عنصراً جديداً مشجعاً له هو عنصر اللون. وهو لئن كان في هذا الفيلم الأخير، قد اخفق في تطويع اللون تماماً، طالما ان الملابس والديكورات للفيلم كانت صُمّمت ونُفّذت قبل وصوله، فإنه هنا في «بياع الخواتم» وجد الفرصة ملائمة تماماً للاشتغال على اللون. وقد جعلت الصدفة شاهين يشاهد في ذلك الحين فيلماً فرنسيا هو «مظلات شربورغ» لجاك ديمي فاز في «كان» وجمع بين الإبداع اللوني وشاعرية الحوار والغناء في بوتقة واحدة كان شاهين يحلم بمثلها من زمن بعيد.

وهكذا، من طريق الكاميرا واللون فقط، تمكن شاهين من ان يجعل «بياع الخواتم» فيلماً شاهينياً، فمن ناحية الموضوع لم يكن ثمة، طبعاً، ما قد يغريه في حكاية راجح وريما والمختار والكذبة البيضاء ورقص الدبكة في الضيعة اللبنانية، خصوصاً انه لم يكن يمتلك ان يغيّر في هذا كله شيئاً. كان ما أغراه اذاً، في مكان آخر: رفض ان تُصوّر مشاهد الفيلم في قرية حقيقية - فهو كان يريد الاحتفاظ بالطابعين المسرحي والشاعري للعمل من دون اي ايهام ساذج بالحقيقة - وطلب ان تُبنى داخل البلاتوه الضخم للاستديو العصري - في ضاحية بيروت الجنوبية - قرية بكاملها من خشب وورق (وهي القرية التي اشرف على بنائها، تحت رقابة مهندس الديكور المصري الراحل حبيب خوري، كاتب هذه السطور الذي كان عامل ديكور في ذلك الحين). وبناء القرية على هذا النحو اتاح لشاهين ان يحصر حركة كاميرته في لعبة دائرية، مكّنه منها حجم البلاتوه الضخم وارتفاعه. ويومها بنينا بضعة عشر بيتاً غريبة الألوان - ارسلني شاهين لكي اشاهد «مظلات شربورغ» خمس مرات كي أتمكن لاحقاً من ان ألوّن له بيدي كل باب ونافذة، وأغير الألوان فيما الكاميرا تستعد للتصوير، تبعاً لتصوّر مسبق لعلاقة اللون بالمشهد - وأحطنا ذلك كله بقطعة قماش يزيد ارتفاعها على عشرين متراً وعرضها عن مئتين طليناها بلون السماء الصافية. وعلى هذا النحو راحت كاميرا شاهين تنتقل بخفة من بيت الى بيت ومن مشهد الى مشهد وسط ألوان ونوافذ وملابس ملونة معلقة، اضفت على العمل كله طابع حكايات الجن، مبعدة اياه عن الواقع الى اقصى الحدود. وعلى هذا النحو أيضاً اعاد شاهين خلق العمل المعروف، مسبقاً، شكلياً. وتمكن من ان يحرّك، وسط ديكور متحرك ومتنقل حتى الجنون، الفنانة فيروز التي كانت اعتادت ان تبدو جامدة على الخشبة مكتفية بإيصال صوتها الى جمهورها الذي كان يقبل منها اي شيء.

اذاً، بدينامية الكاميرا، وبالتجارب على اللون، وبذلك التوحيد الذي اقامه شاهين بين الأشخاص المتحركين، سواء اكانوا افراداً ام مجاميع، وبانسيابية الديكور، تمكن شاهين من ان يخلق على الشاشة حياة، لا تزال ممتعة حتى اليوم حين يشاهَد الفيلم. بمعنى انه اذا كان شاهين قد افتقد في «بياع الخواتم» حرية التصرف فكرياً وحتى من ناحية اختيار الممثلين في العمل، فإنه لجأ الى الشكل ليعوض به هذا الافتقاد. وقد نجح في هذا الى حد كبير، الى حد جعل الفيلم احدى افضل الكوميديات الموسيقية التي انتجتها السينما العربية في تاريخها، وهو امر لا ينبغي الاستهانة به، خصوصاً ان شاهين عرف اضافة الى ذلك كله كيف يبقى هوليوودياً - هل كان يمكنه ألا يكون كذلك؟ - في الوقت الذي حافظ فيه على محلية التراث واللغة، واضعاً الكاميرا في خدمة هذا كله. وبعد هذا، هل يمكن أحداً ان يهتم حقاً بالموضوع؟

مهما يكن من أمر، لا بأس من التذكير هنا بأن فيلم «بياع الخواتم» كما المسرحية الغنائية الرحبانية التي اقتبس منها بقسط كبير من الأمانة – التي أوصلت العمل الى أن يبدو في لحظات منه، أقرب الى الجمود المسرحي الذي كانت كاميرا شاهين الدينامية سرعان ما تنسفه لمصلحة لغة بصرية متحررة-، يتحدث عن «راجح» -الذي سرعان ما صار في لبنان السياسة والمجتمع نوعاً من الشيفرة السرية/العلنية المشيرة الى الكذبة التي لفرط ما تُستخدم، تصبح حقيقة-. وكان مختار الضيعة قد اخترع تلك الكذبة راوياً صراعاته معها ليظهر أمام رعيته في الضيعة بطولاته الوهمية مقنعاً جمهوره بأنه يمضي وقته مدافعاً عنهم ضد خطر راجح. ولكن ابنة اخت المختار التي تعرف أكاذيب خالها لكنها تسايره فيها «صونا للمصلحة العامة»، تلتقي فعلاً براجح حقيقي ذات يوم وقد جاء الى القرية حقاً... لكنه ليس راجح الخطير المجرم الذي «اعتاد» المختار «مقاومته» بل راجح من لحم ودم يسعى وراء رزقه... وهكذا تنكشف الحقيقة ولكن، لأن المختار مختار ومن دون سلطته الشرعية قد تتفتت القرية، يغفر الناس له أكاذيبه في الوقت الذي يكاد فيه راجح أن يصبح واحداً من أبناء الضيعة! ويعم الفرح والسرور والاحتفالات على الطريقة الرحبانية المعهودة...

ذلكم هو الموضوع المعروف الذي من حوله صاغ الرحابنة مسرحيتهم وعرف شاهين كيف يشتغل عليه في لغة سينمائية أسطورية/ فولكلورية اثبتت نجاعتها يومذاك لتخلق حالة استثنائية في السينما العربية.

أما المهم هنا بالنسبة الى شاهين فهو انه حقق، شكلياً، وفي مضمار الفيلم الغنائي العربي، ما كان عجز عن تحقيقه مرة حين استخدم فنه لخدمة ليلى مراد («سيدة القطار») ثم حين وضع هذا الفن في خدمة فريد الأطرش، في فيلمين لافتين إنما ضمن حدود على الأقل. اضافة الى ان تلك التجربة مع نجمة غناء كبيرة مثل فيروز، على رغم ضعف حضور هذه الأخيرة البيّن على شاشة كان من الواضح انها لم تُخلق من أجلها على عكس حالها مع خشبة المسرح الاستعراضي والغناء، علّمت شاهين أن في امكانه حقاً، أن يتعامل مع نجوم الغناء الكبار من دون ان يتنازل، اي وهو محافظ على لغته ومكانته وعلاقته بفنه السينمائي. وهذا ما سيعود إليه لاحقاً في فيلمين له على الأقل، حضرت فيهما نجمتا غناء عربيتين كبيرتين: «عودة الابن الضال» مع ماجدة الرومي و «سكوت حنصور» مع لطيفة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)