مسلسل بهلول اعقل المجانين

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثلاثون العدد 9201 الخميس 31 أيار (مايو) 2018 - 15 رمضان 1439 هـ
احمد الشيخاوي - كاتب مغربي


«بهلول»… أعقل المجانين وصوت المغلوبين على أمرهم


«خرج الرشيد إلى الحج فلما كان بظاهر الكوفة، إذ بَصُر بهلولاً المجنون وخلفه الصبيان وهو يعدو، فقال: من هذا؟ قالوا: بهلول المجنون، قال : كنت أشتهي أن أراه، فأدْعُوه من غير ترويع، فقالوا: له أجب أمير المؤمنين، فلم يستجب ! فقال الرشيد : السلام عليك يا بهلول، فقال: وعليك السلام يا أمير المؤمنين. قال: كنت إليك بالأشواق، قال: لكني لم أشتق إليك! قال: عظني يا بهلول، قال: وبمَ أعِظُك؟! هذه قصورهم وهذه قبورهم! قال : زدني فقد أحسنت، قال: يا أمير المؤمنين من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار. فظن الرشيد أنه يريد شيئاً، فقال : قد أمرنا لك أن تقضي دينك، فقال: لا يا أمير المؤمنين لا يُقضى الدين بدين؛ أردد الحقَّ على أهله، واقض دين نفسك من نفسك! قال: فإنا قد أمرنا أن يجري عليك، فقال: يا أمير المؤمنين أتُرى الله يعطيك وينساني؟ ثم ولى هارباً». (من عقلاء المجانين للنيسابوري).

حسبما هو مستفاد من دروس التاريخ وعبره، ثمّة وجوه لا تتكرّر، كأنّما سُجّلت ولاداتها خارج أفلاك الحياة الاعتيادية والعيش المنمّط، وضدا في النظم السائدة المتفق عليها، نكاية في المألوف من قواعد ومعايير. ومن بين الكثيرين ممن اصطنعوا الجنون وتقنّعوا به لحاجة في النفس دفينة، سوف ننبش قدر المستطاع، في سيرة رجل جايل صناديد العهد العباسي فناطحهم بالخدعة التي لا تُشفع تبعاتها لغير «البهاليل»، فضله على أترابه داخل سرب المجانين/النبهاء، كبير جدا وبونه دونهم جدُّ شاسع، إذ المعني بدرجة أولى ههنا، صاحب القصبة، أو الفارس الذي آثر نصرة آل البيت والفرار بدينه من جبروت ونفوذ الخليفة الرشيد، ممتطيا صهوة الجنون المتوهم المزعوم، تكلّفا وتضحية وقربانا. تكتب سيرته أزقّة بغداد، على أشهى ضرب قد تفوح به ذاكرة التراث العربي، وجملة معاني الإقامة في الوعي الإنساني عابرا جغرافيا الأيديولوجية وتعدّد الألسن، صوب المشترك والمطلق.

دوامة الألقاب

حسب المصادر التاريخية والأدبية، نجد هذه القامة المثيرة للجدل، وقد عانقت ألقاب عديدة دالة الحالة الإنسانية النشاز، والمجدّفة مع تيار الزهد والتقشف والانعزال. أعقل المجانين أو أبو وهب أو بهلول أو الصيرفي أو الكوفي، إلخ… كلّها نعوت فضفاضة وسطحية ثرثارة لم تبلغ مستوى استكناه فراديس الحكمة المنغرسة في إنسانية الرجل، والموغلة في روحه المرحة مثل فسائل أنضجها البعد الانتقامي من الهيمنة السياسية باسم الدين، قاصفة بالعبقرية المجنونة دعامات كاريزما الخلافة، وإن كانت لا تنفي، أو بالأحرى لم تستطع إلغاء الصفحات الأكثر إشراقا من تاريخ الحكم العباسي في أوجه، وإبان ولاية هارون الرشيد تحديدا. ويذكر النيسابوري في موضع آخر من كتابه (عقلاء المجانين)، يقول: «دخل بهلول على الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك، وفرّحك بما أعطاك، لقد حكمت فقسطت. فقال له الخليفة: من تكون؟ قال: رجل سلب حرسك ماله، فأمر الخليفة برد ماله ثم التفت إلى الحاضرين فقال لهم: ما قال هذا الرجل؟ وهو يعلم أنهم لم يفهموا كلامه، قالوا: ما نراه إلا قال خيرا، فقال: ما أراكم فهمتم شيئا، أما قوله أقرّ الله عينك: أي أسكنها عن الحركة وإذا سكنت عن الحركة عميت، وأما قوله وفرّحك الله بما أعطاك: فأخذه من قوله تعالى: «حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة»، وأما قوله لقد حكمت فقسطت: فأخذه من قوله تعالى: «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا».

ولكن .. كيف انطلت على الخليفة لعبة اصطناع الجنون تلك، بتدبير محكم من رجل نام على حلم قاض للقضاة فأصبح مجنونا يمتطي قصبة يجوب سوق «الكرخ»؟ عسى هارون الرشيد يكون انتبه إلى اللعبة من أول وهلة، لكنه أراد أن يجاري بهلولا، فربما تكون سرقة الأسرار من أهل البيت وأتباعهم، أيسر إذا تحول الفقيه العالم العارف بالله إلى آخر يفضحه جنونه، إلى بيدق يحركه الخليفة بدهاء. استنطاقات محرجة أولى أن تُقبر وأن تغدو رمادا بفعل أولى شرارات هذه اللعبة المحبوكة جدا حدّ الكمال، وإلاّ ما كان قرين بهلول لنقش بماء الذهب، سيرة العقل المجنون، ويرتقي بتفاصيل تشخيص الحالة المرضية المزعومة إلى أقصى نقاط خريطة ترجمة صراع السياسة والدين. المهم أن صاحبنا الزاهد الصالح ارتأى أن يركب موجة الجنون باعتباره خيارا بطعم الهزيمة هنا ونكهة الإجباري، بدون أن يبرح بيت الحكمة، وإن تشظيا وانشطارا بين منبر جلد الذات وعراء الانتصار للمستضعفين كلون من إشاعة ثقافة الخلاص. وتتواتر عنه طرائف لا تعد ولا تحصى، ينتصر فيها للمهضومة حقوقهم، ويرد من خلالها الصاع صاعين، لرموز الحكم وسدنة السياسة لإسرافهم في استعباد الرعايا وإثقالهم بالضرائب والجزية والخراج، تحت ذرائع رعاية بيت مال المسلمين، وفي لبوس خدمة الدين.

هوية إنسانية

رغم نزعته الاصطفافية، كوجه آخر لأبي وهب، عبره مارس في سرية تامة، أقصى طقوسيات الإخلاص والتبعية للأمام الكاظم ونسله لاحقا، لم يحد هذا الذي ما انفك تطارده أعين الاستغراب ويشار إليه بالبنان، ولم يزغ عن حياة المخلّص، أو القاضي الحليم الذي يفك جل المعادلات الاجتماعية الصعبة وينصف ذوي المظالم ويقف في صفّهم على الدوام.

رجل رث الثياب نوراني السجية، قارع على جناح التواضع، نخبة من الفلاسفة وسدنة السياسة وأهل الأدب، فتفوّق عليهم برجاحة عقله ونباهته وسرعة بديهيته وحسن اطلاعه على أمهات الكتب، فأضحك وأبكى وأغاث وأدهش. مرة أضجر الشاعر أبو نؤاس، انشغال الخليفة عن قصيدة راح يلقيها في بلاطه كالمعتاد وعلى نحو تكسبي استرزاقي، بسبب جارية وقلادة هي من غنائم الفتوحات التي أنجزها الرّشيد، فاستشاط النؤاسي غضبا فغادر مسرعا ليجد لوحا على باب القصر كتب عليه بدون تردد بيتا شعريا يفيد ضياع شعره في بلاط الملك مثلما ضاع العقد في جيد صالحة، أي الجارية الحسناء الجديدة في لحظة تودد الخليفة إليها ومساومة لها. تغابى النؤاسي، نسي أو تناسى أن صنيعا كهذا قد يكلّفه رأسه التي يحملها فوق كتفيه، فطن إلى ذلك توا، فقصد المخلّص بهلول الذي منحه حلاّ سريعا، حوّل البيت الشعري اليتيم من ثيمة الضياع إلى ثيمة الإضاءة والتوهج: لقد ضاء شعري على بابكم/ كما ضاء عقد على صالحة.

وكذلك قصته مع الذي أنكر حقيقة تعذيب إبليس بالنار، كونه مخلوق منها، ولن يشعر بآلامها، ففنّد بهلول بن عمرو ادعاءه ودحض زعمه الكاذب بالحجة الدامغة والبرهان القاطع، بأن جرّب عليه الرشق بكويرات طينية، كون النوع البشري من طين لازب في الأصل، فآلم المُحاجج فعل خصمه الحكيم، فبُهت ولو أن غروره وتعاميه عن الحقّ حال دونه والإقرار بنبوغ أعقل المجانين وحسن تقديره. وفي رواية له بمعية السائل الذي استنصحه بشأن صفقة مربحة ومشروع تجاري يدر على صاحبه المال الوفير، أفتاه الكوفي مقترحا عليه الاتجار بالحديد والرصاص، فما أن اغتنى الرجل بعد خصاصة حتّى جحد فضل بهلول، وعاد ليقذفه بنعوت الدونية والتحقير والاستخفاف بمشورته المتزنة العاقلة، لكنه عاد مرّة أخرى عود مزدر ناكر للجميل، من باب اختزال النظرة إلى المخلّص في لوثة الجنونية والواقع المرضي، فاستشعر أبو وهب مكر وغضاضة واستهزاء هذا الذي اغتدى ثريا ولم يشبع بعد، ليتم استدراجه إلى طعم سام هذه المرة، ودائما بوصية من بهلول، حين أوهمه بأن إنشاء مخزون للثوم والبصل يستثمر فيه كامل ماله، سوف يضاعف ثروته في زمن قياسي، لكن صاحبنا أفلس بعدها تماما، فعاد موبخا مستفسرا ليحظى برد حكيم صادم، قال له أعقل المجانين: في الأولى استنصحت عاقلا، وفي الثانية مجنونا، وللمرء ما نوى. والذي استفتاه في هالك ترك أما وبنتا وزوجة، فأجابه بأريحية وتنكيت، أنّ للأم الثكل، وللبنت اليتم، وللزوجة النواح.

جدلية الرموز والمقاربة الإعلامية

مما لا شكّ فيه أن الذاكرة العربية مترعة بالرموز، وتعطيلها إنّما هو رهين بالمعالجات المشوهة لخيار عودتنا إلى سيرهم، إن أدبا أو تشخيصا تتناقله الوسائل التواصلية المرئية والمسموعة، على ندرة المحاولات الجادة والملتزمة لأجل نفض غبار النسيان والإهمال والتقصير الذي يطال رياض كهذا مخزون، نحن مطالبون أكثر من غيرنا بمنحه صياغات وإنتاج جديد مغاير ومؤثر في حاضرنا بل ومستقبلنا، بحيث لا حيّز للأسئلة الجديدة والمستفزّة في صناعتنا الأدبية المعتنية بالتراث والراعية له، سواء المكتوبة أو المسموعة أو البصرية، وإذا استثنينا المسلسل السوري لمخرجه نذير عواد ومؤلفه عبد الغني حمزة، المسلسل الذي تناول سيرة أعقل المجانين، باعتباره عملا ناجحا إلى حدّ ما، استطاع أن يقلقل مشهد التعاطي مع الموروث، وإن عبر لعبة الاتكاء على الثنائيات الواشية بتضاد وتناحر العقدي/الشيعي والسياسي. بيد أنّه روّج للروح الذائبة في الوعي الجمعي، وسوّق على نحو مقبول لثقافة وأدبيات تطبيب أوبئة اجتماعية جمّة، ما أسهم في بعث خطاب الثقة بين الشرائح العريضة المستضعفة ووظيفة الديني الذي غيّبته الأيديولوجية ردحا من الزمن، فكان الالتفاف حول هذا «المخلص» أشبه بنار تندلع في الهشيم. لذلك وجد الطريق معبّدا إلى قلوب الملايين من المشاهدين العرب، من غير أن تضجرهم اللعبة المذكورة، أو تفسد عليهم تذوّق حلقات العمل التلفزيوني كاملة، مذ ولج أبو وهب أبواب بغداد ولما يشتد عوده بعد، وهو طفل رفقة أبيه الحطاب، يشتهي شواء سوق «الكرخ» فيسيل لعابه، بدون أن يجد إلى وجبة مثالية كتلك، سبيلا، لغاية آخر فصول الحكاية ، إيذانا بخريف عمر أعقل المجانين ودنو أجله، مبطّنا نهاية النهايات بسرّ محيّر آخر، به راوغ دولة العباسيين المثقلة بعمالقتها في شتى المجالات. وتظل الأسئلة عالقة، والافتقار إلى فضّ حقيقة هذا الرجل، هاجسا مدغدغا ومقيما في المخيلة رسميا وشعبيا.

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


عن صحيفة القدس العربي

القدس العربي”، صحيفة عربية يومية مستقلة، تأسست في لندن في نيسان/أبريل 1989. تطبع في الوقت نفسه في لندن ونيويورك وفرانكفورت، وتوزع في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يتابع موقع الصحيفة يوميا على الانترنت مئات الآلاف من أنحاء العالم كافة.
اكتسبت الصحيفة سمعة عربية ودولية طيبة، بسبب نشرها للاخبار الدقيقة ولتغطيتها الموضوعية للأحداث، والتحليل العميق للقضايا العربية والعالمية، معتمدة في ذلك على مجموعة من المراسلين والكتاب المميزين.

تواصل الصحيفة تطورها خلال الاشهر القليلة الماضية، حيث انضم الى طاقمها مجموعة جديدة من المحررين والمراسلين الاكفاء والكتاب المرموقين. وتحرص الصحيفة على التواصل مع قرائها، ونشر تعليقاتهم وآرائهم على صفحات نسختها الورقية وعلى موقعها الألكتروني و”فيسبوك” و”تويتر”.


مسلسل بهلول اعقل المجانين الجزء الاول كاملاً

مسلسل بهلول اعقل المجانين الجزء الثاني كاملاً

مسلسل بهلول اعقل المجانين الجزء الثالث كاملاً

مسلسل بهلول اعقل المجانين

بهلول على ويكيبيديا

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)