قراءات - Comptes rendus de lecture

بلاد بلا سماء، وجدي الأهدل (اليمن)، رواية Bilâd Bilâ Salâ’, Wajdî al-Ahdal (Yémen), Roman

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة ٨ يونيو/حزيران ٢٠١٢
جريدة الحياة
سلمان زين الدين


 أسرار يمنية تكشفها عين وجدي الأهدل

«بلاد بلا سماء» هي الرواية الرابعة للكاتب اليمني وجدي الأهدل، بعد «قوارب جبلية»، و«حمار بين الأغاني»، و«فيلسوف الكرنتينة». وهي تُطبع للمرة الثانية (دار التنوير) بعد أربع سنوات على صدورها في صنعاء. وإذا كانت كلمة «سماء» في اللغة تعني: القبّة الزرقاء، والفضاء الواسع، وكلّ ما علا، ورواق البيت، وسقف كلّ شيء، وظهر الفرس، والمطر، والسحاب، والعشب، ومسكن أرواح الأبرار، فإن عنوان الرواية «بلاد بلا سماء» يحيل إلى بلاد بلا أفق وفضاء وسقف وماء وحياة وروح، مما تشي به معاني الكلمة المعجمية.

في المتن الروائي، كلمة «سماء» هي اسم لفتاة جميلة، ذكية، غزيرة العلم، موسوعية المعرفة، متفوّقة في دراستها الجامعية، مهتمّة بعلم الآثار. وخلوُّ بلادٍ منها يرمز إلى خلوّها من هذه الصفات. وباجتماع المعنى المعجمي للكلمة مع المعنى الروائي الذي استخدمت فيه، تغدو البلاد الـ «بلا سماء» بلاداً مغلقة على نفسها، تفتقر إلى المستقبل، والتقدم، والآفاق المفتوحة. فهل يشكّل النص الروائي ترجمة لهذا العنوان؟

في روايته الرابعة، يتناول وجدي الأهدل مجموعة من القضايا يعانيها العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية وتمتح منه حكايتها، وهو المجتمع اليمني. ومن هذه القضايا: التحرّش الجنسي وعبء الأنوثة، المجتمع الذكوري - القَبَلي، الفساد الجامعي وتمظهراته المختلفة، ضريبة الحب والتعلّق في مجتمع محافظ، عجز السلطة عن إحقاق الحق، وسيطرة الغيبيات على مفاصل الحياة...

حكايات شخصية

هذه القضايا تثيرها الرواية مداورةً من خلال: حكاية «سماء»، الشخصيّة الرئيسيّة، وحضورها المباشر في النص حين تروي بنفسها شطراً من معاناتها في مجتمع ذكوري مكبوت يمارس كلّ أنواع التحرّش الجنسي، وحضورها غير المباشر في ما يقوله الرواة الخمسة الآخرون عنها.

تمثّل «سماء» الأنثى الجميلة في عالم مرجعي مكبوت، يبحث الذكر فيه عن أي متنفّس للتنفيس عن كبته، ما يجعل الأنوثة الجميلة عبئاً على صاحبتها. هذه الفتاة تروي أنواع التحرّش، وأماكنه، والقائمين به. فالتحرّش يحصل بالنظر، والحركة، والإشارة، والكلام، واللمس. ويحدث في الشارع، والباص، والدكان، وكلّ مكان. ويقوم به البقّال، وابن الجيران، والسائق، والمتديّن، والعجوز، والعامل. وتأتي مضايقات الأهل وحصار المجتمع لتزيد الطين بلّة.

وإذ تختفي «سماء» في ظروف غامضة، يستنفر الأهل، وابن الجيران، والقبيلة، والسلطة/الشرطة للبحث عنها، ويعود الجميع من الغنيمة بالإياب. تجرى عملية البحث والتحقيق في إطار بوليسي، يكتنف فيه الغموض الاختفاء والبحث والنتائج. ومحتوى هذا الإطار جوٌّ من الواقعية السحرية، تختلط فيه الوقائع بالتصوّرات، وعالم الشهادة بعالم الغيب، والواقع بالسحر والشعوذة، والإنس بالجن. هذا الإطار البوليسي ومحتواه الواقعي السحري يحيلان إلى عالم مرجعي متخلّف، يتجاور فيه الواقعي والسحري، السلطوي والقَبَلي. ويمارس العقل الغيبي تأثيره الكبير في حياة الناس وخياراتهم.

تترتّب على عملية الاختفاء الغامض والبحث نتائج غامضة بدورها، على مستوى الفرد (ابن الجيران)، والسلطة (الجامعة والشرطة)، والمجتمع (الأسرة والقبيلة).

 على مستوى الفرد، يقوم علي نشوان، جار «سماء» ورفيق الصبا الذي يصغرها ببضع سنوات بالبحث عنها، انطلاقاً من العلاقة بينهما. وهي، من جانبه على الأقل، علاقة مركّبة يختلط فيها الإعجاب بالحب والشهوة. وهي علاقة عرفت تحوّلات، من القرب حتى القطيعة، بفعل الوشاية والخوف من الهيئة الاجتماعية في مجتمع قَبَلي، مكبوت، ومحافظ. فعلي الصبي الذي كان يأنس لجارته الجميلة، ويختلق المبرّرات للاقتراب منها، ويحلم بالزواج منها حين يكبران، تأتي العقلية الذكورية مجسّدةً بالأب، إثرَ وشاية من بقّال عجوز متصابٍ، لتفرض على «سماء» التحجّب والانتقال من عالم الطفولة إلى عالم الحريم، ولتفرض على علي الانقطاع عن زيارتها، فيروح يعوّض عن هذه القطيعة المفاجئة بطريقتين متناقضتين: طريقة المحب الذي يطيل الجلوس عصراً على مصطبة البقال الواشي لعلّه يحظى برؤية وجهها عبر نافذة شقّتها المطلة على المصطبة، وطريقة المكبوت جنسيّاً الذي يقتفي أثرها صبيحة كل يوم ويغرز نظره في مؤخرتها، حتى إذا ما اختفت فجأةً، يتحوّل إلى عاشق مولّه، ويروح يبحث عنها، ليل نهار، في حديقة كلية العلوم، فيعثر في شجرة الرمّان على شنطتها ودفترها، ومن ثم يعثر على ثيابها، بإيحاء من كهل/شبح، يزعم علي لدى التحقيق معه أنه جنّيٌّ، الأمر الذي يجعله في موقع المشتبه به، فلا يقنع السلطة، ولا يقنع القبيلة، فتقوم الأخيرة بإنرال حكمها به تعذيباً حتى الموت.

 على مستوى السلطة، يتمظهر الأداء السلطوي في فساد المؤسسة الجامعية، وعجز المؤسسة الأمنية؛ فالدكتور عقلان يرمز إلى الفساد والانحلال، يمارس شذوذه بالتقرب من طلابه وطالباته، يبتزّهم في علاماتهم لتحقيق مآربه متسبّباً في انتحار أحدهم، يبتزّ «سماء» نفسها ويعطى صورة سلبية عنها للمحقق. ولا يتعاون مع التحقيق مدعوماً بعلاقاته السلطوية، ما يحول دون الوصول إلى نتائج مرضية.وهنا، يتكامل الفساد في المؤسسة الجامعية معه في المؤسسة الأمنية لقطع الطريق على التحقيق.

أمّا العجز في المؤسسة الأمنية، فيتجلّى في سلوك ضابط الشرطة ومساعده، فهما لا يستطيعان التمادي مع الدكتور عقلان رغم الاشتباه به ووجود سوابق تدينه، وهما لا يجرؤان على التحقيق مع أسرة «سماء» وقبيلتها بتهمة قتل علي، ما يدفع إلى الاستنتاج أن القبيلة أقوى من السلطة.

 على مستوى المجتمع، تفشل الأسرة والقبيلة في العثور على «سماء» أو حل لغز اختفائها. ويتمظهر الفشل في الإقدام على تعذيب علي حتى الموت وهو براء مما نُسب إليه، وفي اللجوء إلى المشعوذ الذي يأخذ المال، ويشير عليهم بمخاطبة العفريت في الشجرة ثلاثة أيام وأمره بإعادة «سماء»، وبحرق الشجرة في حال عدم استجابته، ما يدل على تحكّم العقل الغيبي بسلوك الفرد والجماعة. فإذا كان إجماع علي والدكتور عقلان وناصر العتمي على مشاهدة الكهل المربوع، بثيابه البيضاء وكتابه الأبيض، عند شجرة الرمّان، لحظة اختفاء «سماء»، يشير إلى تأثير الغيبيات في الأفراد، فإن إقدام القبيلة على استشارة المشعوذ، والعمل بإشارته، والاقتناع بروايته، يرمز إلى تأثير الغيبيات في الجماعة أيضاً. ويأتي تشابه التوقعات التي دوّنتها «سماء» في دفتر يومياتها، قبل عام من اختفائها، مع المصير الذي آلت إليه ليؤكد غرابة بعض الأحداث في الرواية، وسيطرة الرؤيوي، الغيبي، القَبَلي، الذكوري على العالم المرجعي للرواية، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. لعلّ وجدي الأهدل أراد القول إن البلاد التي لا سماء فيها، بالمعنيين المعجمي والروائي، هي بلاد بلا مستقبل.

هذه الحكاية يصطنع لها الكاتب خطاباً روائيّاً يقوم على تعدّد الرواة؛ فالرواية تتألف من ستة عناوين فرعية، يتعاقب على روايتها ستة رواة. هم: سماء، ضابط الشرطة، صاحب البوفيه، علي، مساعد ضابط الشرطة، وأم سماء. وكلٌّ من هؤلاء يروي، بصيغة المتكلم / الغائب، الحكاية من منظوره. والحكايات تتقاطع، وتتعارض، لكنها تتكامل، في نهاية الأمر، في سياق الحكاية الواحدة. وبذلك، يكون قد استخدم خطاباً حديثاً، ديموقراطيّاً، يتقدم على الحكاية القائمة على القمع، والكبت، والاختفاء، والقتل، والسحر، والشعوذة. ويتقدم على العالم المرجعي الذي تحيل إليه. ولعل هذا الخطاب، على عدم تناسبه مع الحكاية، هو ما يجعل الرواية تجمع بين فائدة الحكاية ومتعة الخطاب، ويمنحها جدارة القراءة.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين


اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين
بقلم : علي ربيع


 (بلاد بلا سماء) تشكلات السرد ومتاحات التأويل

يمكن الجزم بأن العقدين الأخيرين في اليمن كانا محطة تحول حقيقي للكتابة القصصية والروائية، حيث بدأت وتيرة السرد تعلو شيئاً فشيئاً مع كتاب قصة ورواية من الجنسين ، فطالعتنا أسماء مثل وجدي الأهدل والغربي عمران وهدى العطاس والمقالح عبدالكريم ، وصالح باعامر ومحمد عبدالوكيل جازم ، ومحمد أحمد عثمان ، ومنير طلال وصالح البيضاني وريا أحمد وسمير عبدالفتاح ومها ناجي صلاح وهشام سعيد شمسان وزيد الفقيه ونبيلة الزبير ونادية الكوكباني وعلي المقري وبسام شمس الدين، وأسماء أخرى كثيرة، تكتب القصة والرواية أو تكتب القصة القصيرة وحسب، ويتباين الناتج الكتابي من الناحية الفنية لدى الجميع، لكنه في أكثريته يتلكأ ملياً عند سؤال الكيف الإبداعي، إذ يندرج معظم السائد في إطار الاعتيادي المألوف، والقليل هو القابع خارج ثوب الاعتيادية، ولعل القراءة في هذه النتاجات الشابة ستفضي في محصلتها إلى تكوين انطباع عام يرى تشابهاً في المستويات الفنية، وارتباكاً في آليات البناء السردي، وأحياناً الافتقار الكلي لهذه الآليات ، كما سيجد القارئ حضوراً لتقنيات السرد وغياباً للفاعلية في توظيفها، أو بمعنى آخر سيجد متناً حكائياً يفتقر إلى المبنى الحكائي ، باعتبار هذا الأخير هو الاختبار الحقيقي للتميز أو الإخفاق السردي.

وعليه فإن كثيرا من هذه الأعمال السردية غير قادر على إقناع التلقي الجمالي بفرادته أو كينونته الجمالية ،مما أدى إلى تشبث الذائقة القرائية بـ (رهينة) زيد مطيع دماج وبعض قصصه ، وبأعمال محمد عبد الولي ، خاصة (يموتون غرباء) ، و(صنعاء مدينة مفتوحة) ومجموعتيه ( الأرض يا سلمى) و (شيء اسمه الحنين). ومع ذلك لا تخلو كتابات الجيل الجديد من لعب سردية ومحاولات للتجريب، بل سيمثل القارئ المدقق في بعض النماذج أمام جرأة على اللغة السردية وانتهاك لنمطية البناء السردي، وهي محاولات ربما تسفر عن وجهة مغايرة في الكتابة السردية مستقبلاً, لن تملك القراءة النقدية بدّاً من الاعتراف بمشروعيتها الفنية.

وقد يكون التوقف عند نموذج وجدي الأهدل وحده اعترافاً بالتجربة السردية الواثقة الحضور في المشهد اليمني، فهو مبدع عرفته الساحة الثقافية سارداً مشكلاً منذ التسعينيات مع مجموعته القصصية الأولى (زهرة العابر) وحتى اليوم مع روايته الأخيرة (بلاد بلا سماء). هذه الإشكالية تكرست أكثر بعد صدور روايته الأولى (قوارب جبلية)، وكانت آنذاك إشكالية بعيدة عن جمالية السرد وتقنياته ، بل يمكن القول إنها إشكالية متعلقة بسقف الحرية الممنوح من سلطة الثقافة الاجتماعية الحارسة لما تظنه الفضيلة المجتمعية ، فقد حاول وجدي الأهدل التسلل عبر هذا السقف في غفلة عن نظم الحراسة, لكن هذه النظم رغم تقليديتها ما لبثت أن تنبهت لمروقه وضبطته متلبساً بالجرم المشهود لروايته “قوارب جبلية”, حيث دفع ضريبة تأديبية مؤلمة لا داعي لنا هنا للغوص في تفاصيلها ، لكنها كانت كافية للفت الانتباه لما يكتبه محلياً وعربياً ، وبين أبناء جيله بشكل أكثر تخصيصاً.

ومع أن مجموعات وجدي الأهدل القصصية حافلة بالمغامرة وانتهاك ترسيمة السرد المألوفة ، وواضحة الانشداد إلى ملمحها الأسلوبي المغاير إلا أننا نتغيّا في هذه القراءة روايته الأخيرة (بلاد بلا سماء)، وهي الرواية الرابعة له بعد: (قوارب جبلية- حمار بين الأغاني - فيلسوف الكرنتينة)، ظناً منا بأنها واسطة العقد فيما كتبه وجدي حتى الآن, إذ يجد القارئ نفسه بعد أن يكمل آخر سطر فيها أمام متاحات واسعة من القول القرائي تحليلاً وتأويلا, سواء من حيث تشكيل عوالم السرد وبنائه ، أو من حيث لغته وأبعاده التأويلية التي تفضي إلى سياقات الثقافة الاجتماعية وبنى الوعي المهيمنة عليها. وللوهلة الأولى سيلتفت القارئ إلى تقنية الراوي التي استعملها الكاتب في روايته ، حيث جعلها على ألسنة ستة رواة ، هؤلاء الرواة هم من شخصيات الرواية, وعلى هذا جاءت الرواية في ستة أجزاء ، كل جزء يرويه راوٍ مختلف، مضيفاً إلى ما قاله سابقه وسادّاً في الوقت ذاته الفجوات المتروكة من قبل الراوي/ الرواة السابقون، وصولاً إلى نهاية الرواية مع الراوي السادس الذي يكشف عن آخر فجوة في الحكاية، فنحن إذن أمام ستة رواة داخليين، لكل رؤيته وعلاقته المحورية بالبناء السردي.

الجزء الأول من الرواية ترويه لنا بطلة الرواية (سماء) حيث يصبح نواة للعمل السردي أو أساساً ينهض عليه بقية السرد، أو قل إن الراوي في هذا الجزء كشف عن مهاد ضروري في لعبته السردية ، لكنه لم يكشف لنا عن الحدث الحكائي الرئيس، لأن الراوي/ سماء، هي محور الحدث الحكائي، وهي بؤرة السرد لدى الرواة الخمسة الآخرين، فما إن تقوم بدورها السردي حتى تختفي فجأة ويصبح اختفاؤها هو الحدث السردي الذي تقوم عليه الحبكة الروائية، وهي حيلة فنية وبنائية تنم عن براعة الكاتب في نسج عمله الروائي، الذي يتطلع إلى الاختلاف وكسر أفق التوقع لدى المتلقي.

وإذا جاز لنا التأويل فإن الفعل الحضاري للإنسان اليمني الذي أنتجته الثقافة الحرة كان ملازما لشخصية سماء، وفي السرد الروائي ما يرمز لهذا الفعل الحضاري من خلال الإيماء أو التصريح بشخصية الملكة بلقيس، ويكفي أن الجزء الذي يأتي مروياً على لسان سماء معنون بـ"الملكة". إذن هذه ليست شخصية من لحم ودم، جمالها المذهل، وعقلها وحكمتها وموسوعيتها التي لا تحد، إنها الثقافة الحرة المطلوبة من الجميع، لكنهم يطلبونها في بعدها الأسهل المادي الجسدي الآني. أما (علي نشوان) فرمز للحاضر بطفو ليته ولاوعيه، بشهوانيته وغريزيته، بحسيته وخوفه، بتناقضاته وعدم إرادته، ولذلك لم يكن هذا الحاضر أهلاً لسماء المفقودة، ولأنه ضيعها، فقد قتل، بل إن تسمية (علي)، وعنونة الجزء الذي يرويه من الرواية فيهما من الدلالة الشيء الكثير، فالجزء معنون بـ (القربان)، و(علي) في الحكاية قتل على يد أهل سماء وقبيلتها، إنهم المجتمع الذي يمنع الحاضر من ملاقاة سمائه الثقافية والمعرفية والفكرية، لقد قدم المجتمع حاضره قرباناً لثقافته الموبوءة، فضاع الحاضر وضاعت الثقافة الحرة معه.

لقد شنت الرواية بتشكلاتها السردية حرباً لا هوادة فيها على الثقافة الاجتماعية في بناها المتنوعة التي أعاقت الحاضر وقتلته في زهرة شبابه، وقد تجلت هذه البنى في أكثر من صورة، أولاها الوحدة الصغرى للمجتمع وهي الأسرة، فوالد سماء وأمها وإخوتها أدوات القمع والقهر والحجب والمنع والرقابة، وبهذا تكون الرواية قد حكمت بعدم صلاحية وجاهزية الأسرة بثقافتها الحالية لاحتواء (سماء) الثقافة الحرة. أما البنية التالية التي عرتها الرواية فهي المؤسسة التربوية والتعليمية، متجسدة في الدكتور عقلان، وعلى الرغم من تسميته بـ (عقلان)، من العقل، إلا أن هذه العلاقة غير متحققة في شخصيته فهناك مفارقة بين اسمه وسلوكه، هذه المفارقة يشرحها الضابط حين قال:"يشاع أن اسمه الحقيقي عجلان، ولكن حصوله على شهادة الدكتوراه جعله يغير اسمه".

ويطالعنا السرد بعدم مساءلة( الدكتور عقلان) عن أفعاله، بدليل تحاشي التحقيق لذكر ما يشاع عنه من أفعال، ويبرر السرد على لسان مساعد المحقق ذلك بأن الدكتور عقلان مسنود من جهات متنفذة وعليا، وهذا كله يكشف لنا مدى خواء البنية المجتمعية الرسمية، ومشاركتها في فعل الإلغاء والقمع وقتل الحاضر، فهي عاجزة عن إيجاد (سماء)، وعاجزة عن الاقتصاص من قتلة (علي)، وعاجزة عن ردع الدكتور (عقلان)، أو(شيخ القبيلة)، بل إنها عاجزة حتى عن فهم ما يحدث. ويمثل هذه البنية المجتمعية الرسمية الضابط المحقق (عبد ربه عبيد العديني) ومساعده( مطيع ردمان)، وفي تسميتهما الدالة على العبودية والتبعية ما يشي بهذا العجز وهذا التواطؤ. أما حين نلتفت إلى (سلطان عتيق) صاحب البقالة، فنحن أمام بنية المؤسسة الاقتصادية للمجتمع، التي تكيد للحاضر (علي) وتتربص بالثقافة الحرة (سماء) وتتحرش بها، فلا يعنيها منها إلا الحسي الآني، ولو على حساب الحاضر،فرغم كبره ونضجه فهو يعاني من الكبت، ويتسم بالاستغلال كما هو حاله مع( الأرملة عافية) أم الأولاد اليتامى.

إن خطاب الرواية الكلي يتحدر بقوة لينقض بنيان الثقافة الاجتماعية طوبة طوبة، فلا ثقافة الأسرة محرضة على الثقافة الحرة، ولا ثقافة المؤسسة التعليمية والمعرفية تفعل ذلك، ولا المؤسسة الاقتصادية تحاول التخلص من ثقافة تسليع الإنسان، ولا المؤسسة الاجتماعية الرسمية قادرة على فعل شيء، ولا المؤسسة الاجتماعية التقليدية ممثلة بالقبيلة والشيخ لديها من الإدراك ما يجعلها أهلاً لقيادة فعل التغيير، أما المؤسسة الدينية فمرتبكة ومتناقضة، تعيش بوجهين اثنين، وجه في المسجد وآخر خارجه. وعليه كان من المنطقي جداً أن تكون( البلاد بلا سماء)، أو بلا ثقافة فاعلة في حاضرها تنتج الوعي بالمعرفة التي ستحررنا من الجهل والشر والخوف، وهو الأمر الذي أرادت الرواية أن تؤكد عليه منذ العتبة النصية التي احتلت الصفحة التي يحتلها الإهداء عادة، وهي مقتبسة من أحد كتب الحضارات الشرقية(الباجافادجيتا): “إليك يا من لم تخطئ: سأشرح لك هذا أيضاً، إنها المعرفة الأكثر سرية وخبرة، كي تتمكن من التحرر من الشر”

لقد اختفت سماء فجأة مع الرجل الكهل ذي الشعر الأبيض والبدلة ذات اللون الخشبي الفاتح والقميص الأبيض، وقد عرّف هذا الرجل الأسطوري نفسه لسماء بأنه “هدف المعرفة المقيم في قلوب الجميع”, ورغم الشهود الذين أدلوا بأوصافه للشرطة ظل الاهتداء إليه لغزاً محيراً؛ مما يعني إخفاق بنى الثقافة السائدة وعدم جاهزيتها في التعرف عليه حتى الآن، فهو كائن مستقبلي يحمل معه(سماء)، وشعره الأبيض دليل على مستقبليته، وأناقة بدلته دليل على جماله، وكتابه الأبيض ذو الصفحات البيضاء الذي اختفت بين طياته سماء، هو أيضاً كتاب مستقبلي، ستملأ صفحاته الثقافة الحرة المستقبلية، أو( سماء) المستقبل، ولذلك حين استغربت (سماء) في الحكاية من هذا الكتاب الخالي من الكتابة قال لها: “كل الكتب السابقة لزمانها بلا كتابة..”

و في الرواية ما يفتح آفاقاً أخرى للتأويل نستشفها من خلال( وهيبة) أم (سماء)، فهي التي اختتمت السرد، وهي التي أطلعتنا على تفاصيل جديدة في الحكاية، من ضمنها تفاصيل اختفاء( سماء) بغرائبيتها تلك، وهي لم تعرف ذلك إلا من خلال دفتر يوميات ابنتها، الذي قرأته بعد عام من اختفائها، والسؤال هو: لماذا لم نعرف تفاصيل اختفائها على لسان والدها أو أخوها أو الشرطي المحقق؟ هل لأن المعرفة أنثى؟ أم أن الكاتب أراد أن يثبت أن الحقيقة ليست حكراً على الرجل؟ أم أنه أراد أن ينتصر للأنثى المقموعة والمضطهدة والعاجزة بهذا الشكل الفني؟ ربما كان ذلك هو مقصد الكاتب، خاصة إذا أضفنا لما سبق ما نقرأه من جعله رواة الرواية أربعة ذكور، وأنثيين هما( سماء) وأمها، فـ (سماء) تبدأ السرد، وأمها هي التي ينتهي معها السرد نقلا عن دفتر يوميات( سماء)، إذن لا عبرة بأكثرية الرواة الذكور، فالمرأة أولاً والمرأة أخيراً. زد على ذلك أنه جعل مقابل كل امرأة رجلين، وبقصدية مبيتة جعل المرأة بطلة للرواية،كما جعلها هي التي تكشف حقيقة اختفاء البطلة، وفوق ذلك نجد أن (علي) يُقتل وهو ذكر، و(وضاح) يرضخ ويستكين وينتحر وهو ذكر، على نقيض(سماء)الأنثى التي جعلتها لعبة السرد أقوى وأنقى وأسمى.

وإذا كان الشكل والمضمون وجهين لعملة واحدة فإن هذا يتحقق في هذه الرواية من خلال توظيف الكاتب لأدواته الفنية لتتسق مع مضامين الحكي، ويظهر ذلك على أكثر من صعيد، فعلى مستوى الفضاء الجغرافي الواقعي الذي يظهر في الرواية سيجد القارئ تخفياً وكبتاً يحول دون المجاهرة باسم بالمكان، وهذا التكتم على المكان كفضاء جغرافي، ينم عن تحاشي هذه الثقافة القمعية التي تحاكمها الرواية، بل توغل في إدانتها بمساحات وأسطر فارغة، من السرد على مستوى الفضاء البصري الكتابي للرواية، فهناك تكميم وتابوهات ثقافية كحقول الألغام ، والرواية لا تلقي وزر هذه الثقافة الخاطئة على أحد ما أو جهة بعينها بل تجعله مسئولية كل التكوينات المجتمعية، ولأنها كذلك فقد عمد الكاتب إلى استعمال تقنية (الرواة المتعددون) ذكوراً وإناثا، ليصبح الجميع معنياً بإيجاد( سماء) لهذه البلاد.

وكما اعتمدت الرواية في لعبتها البنائية على أسلوب الفجوة وردم الفجوة، اعتمدت على الذكر والتمطيط، أو الإيجاز والإطناب ، فأحد الرواة يشير إلى حادثة معينة أو تصرف معين, وراوٍ أو أكثر يقوم بتوسيع السرد أو تمطيطه في هذه الحادثة، إما لتعليلها وتفسيرها، وإما لإكمال نقص أو إبداء رأي فيها، ومن ذلك مثالاً أن (سماء) سجلت في دفتر يومياتها أن صاحب البقالة يغازلها ويتحرش بها ، فجاءت( أم سماء) حين وقفت على هذه المعلومة لتوسعها باتجاه معلومة أخرى لم نكن نعرفها من قبل وهي علاقة (عافية الأرملة) أم الأيتام بصاحب البقالة حيث كانت تقضي دينها بمنحه جسدها.

ولعل في لجوء الرواية للفانتازيا أو الغرائبية في إنهاء حكايتها تحريضاً على تفجير أفق القراءة والتأويل ولفتاً للانتباه إلى رمزية السرد وشخصياته ودلالاته الأعمق، وذلك كله مؤداه رفض للنسق الثقافي السائد، وتجريم للواقع وتحريض على كسر هيمنته.

وختاماً يمكن القول إن رواية وجدي الأهدل (بلاد بلا سماء) واحدة من الأعمال الروائية الإشكالية على مستوى الكتابة اليمنية، ويتجلى فيها واضحاً وعي الكاتب بأدق خفاياها، كما يحسب له التمكن من أدواته الفنية، بل قدرته على مفاجأة القارئ واستدراجه ليعيش عوالمه السردية، واقفاً على تقنياته ومراميه الدلالية التي يمكن لها أن تتعدد بتعدد القراء وتختلف باختلاف ممكنات القراءة والتأويل.

عن موقع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين



موقع الروائي


موقع الروائي
بقلم : علي ربيع


 الملكة/الفصل الأول من رواية بلاد بلا سماء

عندما أدخل الحمام في الصباح الباكر يراودني شك وتحير ، فأروح أنظر في المرآة، وأجس بأصابعي قدميّ وبطني وصدري ورأسي ، وأنا أرتعش رغماً عني ، وبعد تأكدي من أنني لم أفقد شيئاً من جسدي ، أحمدُ الله ، وأرسل آهة ارتياح ، ويعود إليّ عقلي، فأدرك أنه مجرد حلم جميل ممتع لا ضرر منه ..

واحدٌ من تلك الأحلام اللذيذة التي ترى فيها البنت نفسها عروساً ليلة الدخلة.

أجفف وجهي بمنشفتي الوردية، وأتجه إلى الستارة فأرفعها، وأمتع نفسي بالتحديق من النافذة، متأملة ألوان السماء المبهجة قبيل شروق الشمس.

اسمي ( سماء ناشر النعم ) طالبة في السنة الأولى بكلية العلوم، وهواياتي المطالعة وكتابة يومياتي.

غرفتي في الطبقة الثانية ، وتطل على شارع خلفي هادئ .

في مواجهتي ، في الأسفل ، تقبع بقالة الحاج سلطان . وهذا الحاج عندما يراني أطلُ من النافذة، يقف مبتسماً ببلاهة، ويقوم بحركة بذيئة.. يقوم بإدخال مفتاح قفل بقالته الضخم في أذنه ، ويحركه دخولاً خروجاً وعيناه تبرقان بوحشية .. وحينها لا أتمالك نفسي، فأجري إلى الحمام ، وأرجع بفردة شبشب ، وألوح بظاهرها في وجهه .

هو في سن والدي ، عمره خمسون عاماً ، قصير بدين ، لحيته مبرقشة بشعيرات بيضاء ، وفي جبينه زبيبة الصلاة .

وبدلاً من أن يغضب ويهيج، أراه يغمز لي بعينه، ويهز رأسه بحبور، وكأنه واثق من أنه سينالني يوماً ما !

أرتدي البالطو الأسود فوق ملابسي ، وأضع النقاب على وجهي ثم أخرج .

يترصدني ( علي ) ابن الجيران المراهق من العين السحرية ، شقته تقع أمام بيتنا ، وما إن يراني أهبط السلالم حتى يلحق بي كظلي، متأبطاً كتبه الملفوفة في سجادة الصلاة .

ثانويته تقع على نفس الخط إلى كليتي ، ولكنها أبعد ، تحتاج منه إلى عشرين دقيقة من المشي السريع ليصل إليها قبل رنين الجرس، وإغلاق البوابة .

علي في السادسة عشرة ، يصغرني بأربع سنوات ، وسيم ، طويل القامة ، بشرته ناعمة ملساء ولونها فاتح ، وبدنه رجراج باللحم والشحم ، وردفاه بارزان متكوران ، يضفيان عليه ملمحاً أنثوياً يضايقني ، وهذا ما يجعله هو الآخر هدفاً لمغازلات وقحة.

طوال العشر دقائق التي يقطرني فيها، لا ينطق بحرف واحد، ولا حتى دندنة أغنية، فأكتفي بسماع وقع خطواته الحثيثة خلفي.
لكنني أحس بنظراته النارية مسلطة على عجيزتي ، أشعر وكأن هناك أشعة حارة تضربها من الخلف ، وتكاد تذيبها .

هذا الولد الصموت يزعجني بنظراته .

أحياناً يركز عليّ بشدة، حتى أحس بسخونة وارتعاش، فأرتبك وأعرق، وتصبح خطواتي متعرجة، فأخبط ساقي بالأخرى لشدة ما أكابده من غم.

يعاني المشاهير من نظرات الناس الفضولية ، ولذلك يتجنبون الظهور في الأماكن العامة .

وأما في اليمن ، فإن جميع النساء الشابات يعتبرن من المشاهير !

عندما تخرج فتاة من بيتها إلى الشارع، فسوف تلاحظ أن الجميع يحدق فيها. ربما هناك فتيات يشعرن بالرضا عن أنفسهن عندما يحدق فيهن الرجال بشهوانية ، ولكن بالنسبة لي أنا ، فإن هذا التحديق المتواصل من عشرات المارة يخرجني عن طوري، يضغط على أعصابي ، يوترني إلى درجة لا تطاق .

إنني أعتبر هذا التحديق المكثف القادم من كافة الاتجاهات ، نوعاً من العنف الذكوري المؤذي .

صحيح أنه غير محسوس ، لا يلمس باليد ، لكن له ثقلاً نفسياً ، وزن إضافي يجثم على الصدر ، ويكتم الأنفاس .

هذا التحديق من ذكور مكبوتين يقتحم جلدي، ويشوش دمي، ويرهق ذهني.

مرة جربت أن أحدق في عيني قط، فإذا به يفر مذعوراً وذيله ملتف بمؤخرته !

كلما أردت التنفيس عن غيظي من تحديق الرجال فيّ، أروح أحدق في عيون القطط التي سرعان ما تفقد صوابها، وتهرب مني.
كل القطط ترتاب من الإنسان الذي يحدق في عينيها، وتظنه يريد بها شراً.

ذكر لي جدي أنه في صدر شبابه ، خرج من قريته الجبلية ليلاً ، ومر بقرب دغل كثيف الأشجار ، وصادف نمراً يسد عليه الممر الصخري الضيق ، فسلط ضوء كشافه ، وثبّت بصره على عيني النمر المتوقدتين كالجمر ، ووقف متخشباً يرنو إليه، فهل تعرفون ماذا حصل ؟ يقول جدي إن النمر انزعج وارتبك وأحس بالخطر ، فدار على براثنه نصنف دورة ، ثم اختفى عائداً إلى مسكنه بين الأدغال .

كان جدي رحمه الله يحكي لي هذه الحادثة مراراً، لكي أعرف كيف أتصرف حين أواجه النمر.

ولكن حكايته ما عادت تفيدني في شيء، فالنمور انقرضت من اليمن، بالإضافة إلى أنني أعيش في مدينة لا يعقل أن تظهر في شوارعها النمور.

ما استفدته من حكاية جدي ، أنه حتى النمر ، ذلك الحيوان المفترس المقدام ، يفقد شجاعته ويولي الأدبار ، حين يحدق في عينيه شخص بثبات .

النمر يفقد صوابه من تحديق شخص واحد ، فكيف بحالي أنا عندما يحدق فيّ عشرات الرجال في ذات الوقت وفي كل وقت ؟!
معظم الرجال في الشارع يصوبون نظراتهم الشبقة إليّ وكلهم يرغب في مضاجعتي، ولولا أن كل واحد منهم يراقب الآخر ، لكنت اغتصبت على الرصيف عشرين مرة على الأقل في اليوم الواحد .

هل لأنني عزباء وليست لي أية مغامرات جنسية أبدو مغالية في التمسك بالفضيلة ؟

أحياناً أفكر بأنني لو جربت الخلوة مع واحد من الجنس الخشن ، لكنت اتخذت موقفاً مختلفاً من مسألة تحديق الرجال فيّ .

أنا لست نفوراً من الجنس، بل إني أترقب بفارغ الصبر قدوم عريسي.. ولكن هذا التحرش البصري الذكوري المفرط الشدة يغيظني ، ويكاد يصيبني في بعض الأحيان بالجنون ، فأبذل جهداً هائلاً للامتناع عن الصراخ والسباب .

من يعلم .. قد أتبدل بعد الزواج، وأصبح مثل زميلتي في الكلية ( نسمة ) التي تبتهج من تحديق الرجال فيها !

الذكور في بلادي علمانيون على طريقتهم الخاصة، فهم يَفصِلون المسجد عن واقع حياتهم !

فرجالنا في المساجد يُصلون بخشوع وتقوى، ويتمثلون الأخلاق الحميدة كأنهم ملائكة الرحمن. ولكنهم ما إن يخرجوا إلى الشارع حتى تنقلب أحوالهم إلى الضد ، فينسون الله ، ويتكشفون عن شياطين شريرة ، تمارس الختل والكذب والغش ، والجري وراء المتع المحرمة .

رأيت شيبة في السبعين لم يكد يخرج من الجامع وحذاؤه ما زال بيده ، وهو يبصبص عليّ متلمظاً بشفتيه ، وكأنه يتمنى لو يعضني بأسنانه النخرة .

لا أنصح أية بنت من بنات بلادي بحمل حقيبة بيضاء .. لأن لونها يلفت انتباه الرجال بصورة غريبة.. وبعضهم يصاب بهستيريا من نوع خاص ( هستيريا الحقيبة البيضاء ) فيفقد شعوره والقدرة على التحكم بنفسه.

وقد عاينت حالة من هذا النوع بنفسي، في المرة الوحيدة التي حملت فيها حقيبة بيضاء، وكان ذاك أتعس يوم في حياتي.

والذي حدث ، أني مررت ببناية في طور التشييد ، والعمال يحملون أكياس الأسمنت على ظهورهم إلى داخلها ، ورنا إليّ عامل منهم مفتول العضلات ، فألقى بكيس الأسمنت بعيداً ، وراح يصيح في وجهي :

ارحمني يا صاحب الشنطة البيضاء .. ارحمني”.

فتجمدت من الرعب ، وكدت أتبول على نفسي من هول نظرته الجائعة !

ووقف زملاؤه العمال وحتى السابلة في أماكنهم كالأصنام ، يرقبون الموقف .

رأيته يهرش ما بين فخذيه مواصلاً صراخه الحيواني الفاحش ، والزبد يسيل من جانبي فمه : “يا صاحب الشنطة البيضاء .. البيضاء”.

ابتعدت إلى الرصيف الآخر ، ورحت أحث الخطى ، وأنا أحس أن كرامتي قد أهينت، وأن أنوثتي قد خدشت ، وأن عفافي قد تنجس .
في مدينتي لا يعتبر التبول في الشارع العام أمراً شائناً ، بل يمكن اعتباره أمراً شائعاً!

ولذلك أصادف رجالاً كثيرين يتبولون واقفين، وألاحظ أن الخبثاء منهم، يتعمدون عندما تمر بقربهم بنت حلوة، إظهار خراطيمهم تحت أنظارها بحجة التبول.

أحياناً أسترق النظر ، يدفعني الفضول لمشاهدة نافوراتهم ، ولكن رائحته الحامضة تبعث قشعريرة اشمئزاز ترج بدني كله .
أتعرض للتحرش عدة مرات في النهار الواحد ، فسائق الباص عندما أناوله الأجرة ، يتعمد أن يمد أظلافه إلى مغابن أصابعي ، ثم يسحبها متلذذاً بملامستي .

لست بنتاً متدينة ، ولذلك كنت أتغاضى عن هذه الملامسات الخاطفة ، وأنظر إليها بوصفها ضريبة ، لابد لكل فتاة خرجت إلى شوارعنا المكبوتة أن تدفعها .

ولكن سائق باص شاب ، قبيح الوجه ، أحمر الجلد ، جعلني أغيّر رأيي ، وأرفض التسامح في دفع هذه الضريبة الجنسية الرخيصة ، فصرت أرمي القطعة المعدنية على الرف الأمامي ، غير مبالية بما قد يقال عني بأني متكبرة ، أو أدفع الحساب بطريقة مُهينة .

ذاك الشاب المنفر التقاطيع ، الذي ينسدل شعره على كتفيه ، وتطفح الصحة والعافية من عروقه ، لن أنساه ما حييت .. لأنني عندما نزلت من الباص ، وكنت الراكبة الأخيرة ، مددت له يدي لأناوله الحساب ، فإذا به ينشب مخالبه في لحمي حتى الرسغ، محتوياً يدي في كفه الضخمة ، وشعرت به يرتعش ، وكأن تياراً كهربائياً صعقه ، ثم تأوه وتأود ملتذاً ومطلقاً حشرجة ألم رهيبة .. انتزعت يدي بذعر ، ومشيت على غير هدى ، ناسية الطريق إلى البيت ، ودوار يعصف برأسي ، وقدماي ترتعشان .. وإلى اليوم لا أعرف سبباً لخوفي من ذلك السائق .. إنه خوف غير مفهوم، أشعر به ولا أستطيع تفسيره.

رغم كوني حذرة جداً، وأحرص على مجالي الشخصي، وأتفادى الاقتراب من الرجال، فإنهم لا يكفون عن لمس جسدي.. ولولا كراهيتي لما مررت به من تجارب لذكرتها بالتفصيل .

من المواقف التي علقت بذاكرتي ، وما تزال تثير استغرابي الشديد ، موقف جارتنا (أم علي ) حين خرجنا معاً إلى السوق ، وانحنت تقلب في قمصان نوم معروضة للبيع على الرصيف لبائع افترش الأرض ، فمر من ورائها رجل يغطي شاربه نصف وجهه وإبهامه مرفوعة .. راقبت ما حدث بذهول .. هو مضى متابعاً طريقه ، لم يطرف له جفن ، وملامحه باردة ، وهي استقام ظهرها بغنج مهرة فتية والتفتت إليه ضاحكة !

هل إذا صرت في مثل عمرها ستنتابني نفس مشاعرها ؟ وأضحك لمن يغازلني بتلك الطريقة الفجة ؟

عندما كنت في السابعة من عمري ، فكرت في الانتحار بطعن بطني بسكين المطبخ ، لأموت وأنا طفلة بريئة ، ليس عليّ حساب ، فأدخل إلى الجنة مباشرة .

كان عالم الكبار يؤرقني ، وبالأخص الجو الجنسي المحموم الذي يعيشون فيه .

وفي سنواتي المبكرة تلك ، كنت أشعر بقرف هائل من تهافت الكبار على الجنس .

عرفت من الكتب والأقارب ، أن الإنسان عندما يكبر لابد أن يمارس الجنس ، كما يمارس الصغار الأكل والشرب ، فقررت أن أنجو من هذا القدر الجنسي المحتوم وأنتحر .. وكنت أدخل إلى المطبخ، وألصق السكين ببطني وأبكي بحرقة ومرارة.

وبمضي السنين، انحسر هاجس الانتحار هذا..

في سنوات الطفولة تلك، كنت أنظر إلى الجنس بوصفه قذارة، وأنه ينبغي تحريمه حتى على الأزواج.

لذلك كنت أكره أبي وأمي لمعرفتي بأن العلاقة بينهما ليست طاهرة .. إنهما يفعلان في الخفاء أموراً غير محتشمة .

كنت أتبنى أراءً أخلاقية متزمتة جداً، لا تسامح فيها مع الغرائز، لأن العالم المثالي من وجهة نظري، هو الذي يخلو من أي ميل جنسي بصورة مطلقة.

الآن وقد كبرت وفهمت الحياة، أصبحت أتسامح مع الجنس بين زوجين، بل وأرى أنه ضرورة، لأجل استمرار النسل.

في طفولتي قطعت عهداً على نفسي ألا أنغمس في عالم اللذات ، ولكن الأشواق التي أحس بها الآن ، تجعلني أسخر من سذاجة الطفلة التي كنتها ، ومن طريقة تفكيرها في تلك المسائل .

ما أغرب التحولات التي تمر بها المبادئ الأخلاقية في دواخلنا !

في البيت أعاني من تلصص شقيقي الأكبر على دفتر يومياتي ، لديه شك بأن الحب قد عرف طريقه إلى قلبي .

ومنذ التحاقي بالجامعة ( حيث التعليم مختلط ) وهو يبحث بين أوراقي عن عشيقي الافتراضي.

ليس في يومياتي ما أخجل منه، فأنا دون ادعاء، من أنصار الفضيلة.

أحسه يقول في نفسه وهو يقحم نظره في عيني متفحصاً “الأنثى الناضجة تطلب الفحل” !

منذ شببت وتكور نهداي وهو يتحامل عليّ ، يتوجس مني ، يخشى أن ألطخ شرفه ، أن أجلب له العار ، وألوث سمعته .

إنه لا يكف عن التحديق في نافذتي كلما دخل أو خرج من البناية ، يتشكك في سلوكي، يظن أني أقف خلف الزجاج لأغازل الشبان .

لقد شرحت له مرات كثيرة ، أنه في النهار لا يمكن لأي عابر أن يرى ما وراء الزجاج بوضوح ، ولكنه لا يصدقني أبداً ، فهو يؤمن في قرارة نفسه بأن كيد النساء عظيم !

والدي صار خصماً لي ، يناصبني العداء ، لأنني لم أتزوج بعد ، وما زلت أعيش في بيته ، وكأنني لغم سينفجر تحت قدميه في أية لحظة يغفل فيها عن مراقبتي !

حتى أمي ، أحب مخلوق في الوجود إلى قلبي ، كلما عدت من الجامعة تحدق في وجهي بتركيز ، بحثاً عن أثرٍ للحب .

أدرك أنها تعانقني عند عودتي لتتشمم ملابسي، وتتيقن أني لا أحمل رائحة تيس غريب .

كل يوم تفتح معي نفس الموضوع “ماذا فعلتِ اليوم” ؟ وتحقق معي عن علاقاتي مع الدكاترة وزملائي في الكلية .

يضايقني قلقها الزائد هذا ، ولكنني رغم كل شيء ، أغفر لها وأحبها .

حياتي معاناة لا نهاية لها ، بسبب الأنظار المسلطة عليّ طوال الوقت ، سواءً داخل البيت أو خارجه .

أنا تحت المراقبة ليلاً ونهاراً ، لا أحد يفكر بي ، بمشاعري ، بأحلامي وطموحاتي ، بأن لي الحق في أن أحيا على راحتي ، دون أن يقلقني أحد بنظراته الفضولية ورغباته المكبوتة ، وأن لي الحق في حياة سعيدة ، لا يُسممها أب بشكوكه وأوهامه ، ولا تنغصها أم بحشر أنفها في خصوصياتي .

أشعر أني محاصرة ، المجتمع يحاصرني من كافة الجهات ، وكأنني ارتكبت بحقهم جريمة خفية قبل آلاف السنين .. جريمة لم ينتبه أحد لتدوينها ، وظل صداها يتردد في لاوعيهم حتى اليوم .

عندما تكون البنت في سنوات الشباب ، فإنها تعد دون شك العدو رقم واحد للمجتمع !

أنا لست مُحملة بالكراهية ضد أحد، ولا ضد مجتمعي، ولكن كل من حولي يشعرني بأنني لست بشراً لي عقل وروح، وإنما أنا مجرد أداة للمتعة، اختزلوا وجودي الإنساني في مثلث صغير نجس وأهملوا الباقي.. صراع مهول على قطعة لحم عفنة !

أفٍ لكم .. خذوا قطعة اللحم هذه ودعوني أعيش حياتي في سلام.

وجدي الأهدل
روائي يمني

عن موقع الروائي


يعنى موقع الروائي بشؤون الرواية وشجونها حصراً. الموقع إنجاز فردي بتمويل ذاتي من محرره ولا علاقة له بأية جهة سياسية أو حكومية أو إتحاد ثقافي أو مؤسسة مهنية أو تنظيم إجتماعي.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)