بكارة، الحبيب السالمي (تونس/فرنسا)، رواية دار الآداب للنشر والتوزيع - 2016

, بقلم محمد بكري


الحبيب السالمي في حوار خاص بمجلة الجديد الأدبية الشهرية - العدد 50 - مارس/آذار 2019 عن روايته بكارة




جريدة الحياة


الإثنين، ٣٠ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
لندن - مودي بيطار


الحبيب السالمي يقارب الثورة التونسية بعين داخلية


مساران، خاص وعام، يتوازيان ويتقاطعان في رواية الحبيب السالمي الأخيرة التي تقتصر على حادث واحد يعود ليولّد التوتر والطاقة السرديين وسط تجاذب الماضي والحاضر، الثابت والمتحول، الرجولة والصداقة. تبدأ «بكارة» (دار الآداب، بيروت) بفضاء شخصي ملتبس وحائر إثر بزوغ الثورة التونسية وانكشاف «الحقائق»، وتنتهي بتعبيرات سياسية جديدة تبلغ القرى البعيدة منها كلمة «ديمقراطية» التي يكتشف المتابعون شبه الأميين أنها تعني إصغاء الحاكم الى المواطنين. يبقى اللغز لغزاً لا تفسير له إلا إحالته الى طبيعة النظام الاستخباراتي السابق وتسلل عيونه وآذانه حتى الى غرف النوم. ولئن كانت المأساة أقوى فنياً ربما لانتصار الشر والنقص فيها، ينحاز السالمي، بنثره السلس، الطري، واستكشافه الشفيف، الحساس للحياة الداخلية، الى الهاجس المضبوط الذي ينتصر للحياة والسلم انسجاماً مع إيمانه بالثورة وتفاؤله بالتغيير الإيجابي الذي يواكبها.

يجلس البشير ومصطفى في حقل كعادتهما منذ الطفولة، ولا يتحدثان عن الثورة، بل يفكران في إشاعة صدرت عن الحانوت وزعمت أن مصطفى، الذي اختاره البشير مساعداً له ليلة عرسه هو الذي نام مع مبروكة بعد محاولات فاشلة عدة للعريس. كان البشير يفضّل قتل نفسه، قال مطلق الإشاعة، لكنه اضطر الى القبول درءاً للفضيحة التي ستلحق بالعروس وأهلها إن لم يرَ المنتظرون أمام البيت ثوبها ملطخاً ببقعة دم تؤكد عذريتها. يظن القارئ أن الحدث جديد، لكن البشير تزوج صغيراً، وأنجب سبعة أولاد، وتخطى الخمسين. لماذا الآن إذاً؟ الكاتب غير معني بالسبب، ويرجّح القارئ حمى ترويج الإشاعات بعد الثورة سبباً. يخالط التشويق شكٌّ وتأجيل وشعور بالخيانة واسترجاع مكرور للحادثة المشؤومة ليلة الزفاف التي اضطرّ مصطفى خلالها الى دخول غرفة العروسين لنصح البشير بعد فشله في فضّ بكارة مبروكة. كان كلاهما نسي الحادثة، وها هي ترجيعاتها تعكّر حياته الهانئة وتتّهم صديقه المفضل مصطفى. هل يحسده هذا على ثروته، أو يريد الآن وسط فوضى الثورة التباهي بفحولته؟ يخاف على صداقتهما إن ثبت أن الاتهام باطل، ويقابل حاجته الى المواجهة بعكسها. يذكّر مصطفى بلقاءات الطفولة التي استكشفا جسديهما فيها، والمرة الوحيدة التي تحدثا عن ممارسة الجنس المثلي «لاكتشاف هذه اللذة التي يتحدث عنها الجميع».

الاعراف

ما يزعج البشير مجدداً أن مصطفى رأى «أنوثة» مبروكة المستلقية على الأرض حين تعثّر ووقع قريباً منها، لكن السؤال هو كم رأى في الغرفة الخافتة الضوء؟ يرفض احتمال بوح زوجته لوالدتها لأنها تحبه كما تحب كل النساء أزواجهن، لكنه يعرف أنها سمعت الإشاعة حين تلتقي عيونهما وهو ينام معها. يفكر مسبقاً في طريقة سؤال مصطفى، لكنه لا يفعل إلا في اللقاءين الرابع والخامس بعد رواج الشائعة. عندها فقط يتساءل كيف سيسلك إذا اعترف صديقه، فهو سيبدو ضعيفاً إن لم يردّ، وسيؤكد الشائعة إن فعل. لا يصدّقه حين ينفي، لكنه يشعر بالراحة لتخلّصه من شكّه الثقيل، ولجهل مصطفى أنه التقى صدفة زوجته محبوبة وحدّق في صدرها واشتهاها. كان يودّها ويحترمها ويراها جميلة بطريقة مختلفة، وأشفق عليها لأن أكثرية السكان اعتبرتها سوداء وعبدة. لا يشعر أنه يخون مصطفى حين يرغب بها، كأن في رغبته الآن شيئاً من العدل والإنصاف الإلهي (الصفحة 106). يتخيل أنه وقع، ويعرف أن مصطفى تضرّر أيضاً مما حدث، لكنه استطاع بحكمته أن يتجاوز الصدمة سريعاً (ص 149).

مصطفى أيضاً يتساءل عن هوية مطلق الشائعة وسبب ترويجها اليوم. يشفق على صديقه، ويؤلمه الشعور لأنه لا يليق بمقام البشير خصوصاً إذا صدر عن شخص فقير مثله. يعجب لتذكره تفاصيل صغيرة ونسيانه أخرى مهمة مثل عدد المرات التي فشل البشير فيها. لم يرَ شيئاً محدداً من مبروكة لأنه أغمض عينيه ونهض فوراً. فكر ليلتها في الكذب وجرح إصبعه لتلويث ثوب مبروكة وإنقاذ سمعة صديقه. لكن هل اتّبع البشير نصائحه حقاً ونجح أخيراً بفضلها أو أنه اعتمد طريقة أخرى؟ يشعره الاحتمال بالخيانة، لكن نقاوته تدفعه الى التفكير في الاعتراف لصديقه أنه اشتهى عروسه حين وقع وانتهت محاولات البشير الكثيرة بالفشل. حين لمحها أخيراً في الحقل صعقه جمالها وشبابها الواضح رغم تقدمها في العمر، وتذكّر أنه فكر في خطبتها. يحسد البشير ويشعر بالخزي من نفسه الحقيرة الفاسدة (الصفحة 90) لكن تصرفه اللائق ليلة الدخلة يزعجه الآن، كأنه يلوم نفسه لأنه لم يتمهّل وينظر. حين يسأله البشير صراحة إذا كان هو من أطلق الشائعة يكتفي في المرة الأولى بنفي مختصر، ولا يخطر له لطهارته أن صديقه يشكّ فيه ويريد دفاعاً مقنعاً.

ثقافة ذكورية

يبقى التزام السالمي الاجتماعي مرناً، غير مباشر وسط ثقافة قروية، ذكورية، عنصرية وطبقية حتى في السياق الذي يفترض المساواة. الجنس اغتصاب أقله ليلة الدخلة التي لا يعبأ البشير فيها بما سيسبّبه لمبروكة من وجع لأن العملية لن تدوم إلا دقيقة أو أقل (الصفحة 7). يضغط عليها بكل ثقل جسده، ويحس لحمها الطري ينفطر وعظامها تطقطق (الصفحة 53). يعتبر نفسه المتضرّر الوحيد مما حصل، ولا تخطر له مبروكة حين يفكر في الأمر (الصفحة 8). يريد الرجال (...) زوجاتهم في وقت قصير ويتصرفون بأقصى ما لديهم من عنف (الصفحة 18). يضرب مصطفى محبوبة بعنف يكسر أحد أسنانها، ولا يتوقف إلا خوفاً من أشقائها. مبروكة التي نلتقيها مستلقية على الأرض في بداية الرواية في وضع يجعلها «مِلكاً» بالفعل لعريسها وبالقوة لمساعده تبقى غائبة عن ذاتها وأضعف النساء الثلاث. تشعر أنها بالغت في الاستفادة من لطف زوجها بعد أكثر من ثلاثة عقود من الزواج إذا بادلته حديثاً يدوم بضع ثوانٍ. تلبي كلما رغب فيها، ويأمرها فتطيع مع أنه يشعر أنه يحبها أكثر من أي وقت مضى. تخرج عن طبيعتها مرة واحدة حين ترفض استرجاع ما حدث ليلة الدخلة، وعاد ليمتحن صداقة الرجلين الجميلة وحساسية أنثى لم يفطن كلاهما الى مشاركتهما اللامبالية، القاسية في تشييئها.

على رغم ضربه زوجته، لا يستطيع مصطفى النوم مع محبوبة إلا حين تسمح له بذلك، ويدفعها وعيها الطبقي الى تحريضه على الإتجار بالغنم كالبشير لأن الناس لا يحترمون إلا الثري. منوبية، والدة مبروكة، أقوى نساء الرواية، وهي باتت أكثر عدوانية إزاء زوجها بعد الثورة من دون دليل ما على متابعتها تطوراتها. أكّدت كذب الشائعة منذ سمعتها، وآلمها تكاثر حُسّاد البشير بعد الثورة. بدا مصطفى المذنب الوحيد، وخطّطت لقتله باستخدام الجنس وسيلة لإقناع زوجها على رغم تجاوزها السبعين ربما. تبقى الثورة خلفية غير مباشرة، لكن الكاتب يحمّلها أكثر من قدرتها الظاهرة على التأثير روائياً. هاجسه الأول امتحان صداقة رجلين ينتهيان بالرغبة في أن يكونا معاً في الحقل وحدهما بعد أن تجاوزا محنة محتملة بلا عنف أو معاناة. يجلس البشير كالعادة في الموقع الأقل عشباً ورطوبة وعرضة للريح، وفي إشارة ديمقراطية لا يزعجه تجاوز مصطفى حدوده واقترابه منه حتى كاد كتفاهما يتلامسان.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)