بقايا الأندلس في موسيقى أوروبية معاصرة

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت 05 مايو 2018
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«أناشيد إسبانيا» لآلبينيز: بقايا الأندلس في موسيقى أوروبية معاصرة


إذا كان المرء من هواة الموسيقى الشرقية «الخالصة» وقد مر تأليفها بين أنامل فنان شديد المعاصرة الى درجة أن في إمكانه أن يعصرن تلك «الشرقيات» العاطفية والميلودية بشكل استثنائي، قد يكون عليه، قبل أن يدلف الى بعض روائع موسيقيين عرب اشتغلوا أواسط القرن العشرين على ذلك التوليف (عبد الوهاب، السنباطي أو فريد الأطرش بين آخرين)، قد يكون عليه أن يعرج على واحد من الأوروبيين الكبار من الذين اشتغلوا على تلك الخلفية. بيد أن الاسم الذي سيخطر في بالهم أقل من غيره هنا، للأسف، سيكون بالتحديد صاحب الموسيقى الأكثر ملاءمة لهذا الغرض: إسحاق آلبينيز وهو بالتحديد إسباني تشرب هوى الأندلس الى درجة قد تشي معها موسيقاه بأنه الوريث الحقيقي لتلك الموسيقى الأندلسية التي تمازجت بشكل خلاق في العصور الذهبية لتلك المنطقة من العالم. وحسبنا للتيقن من هذا، هنا، أن نستعيد ألحان واحد من أعماله المبكرة والتي كانت لا تزال تنضح بذلك الحس القديم متضافراً مع اشتغال جديد على التوزيع الأوركسترالي. ونعني بهذا مجموعته «أناشيد إسبانيا».

فهذه المجموعة تضم عدة ألحان لآلبينيز يمكن اعتبار «متتالية إسبانية» واحدة منها. وتضم المجموعة الأعمال التالية: «تمهيد» (وهي نفسها التي تعرف عادة بمتتابعة إسبانية على رغم أنها بالأحرى تشكل جزءاً منها تحت عنوان «آستورياس») ثم «شرقية» و»تحت النخيل» وهي عبارة عن حركة كتبت لرقصة طويلة مثيرة، ثم «كوردوبا» و»سيغيدياس» (وتعرف باسمها الآخر «كاستيّا» حيث تشكل بدورها جزءاً آخر من المتتالية الإسبانية). ولنقل هنا مع دارسي أعمال آلبينيز أن مقطوعة «كوردوبا» تعتبر درة أعماله بل لعلها العمل الموسيقي الأول الذي يخطر في البال حين يؤتى على ذكر الرجل. والحقيقة أن هذه المقطوعة تستحق المكانة التي وضعت فيها حيث يجمع النقاد والمؤرخون على أنها العمل الذي يشعر المستمع معه وكأن روائح إسبانيا العميقة ولا سيما روائح الياسمين التي دائماً ما ذكرت بالماضي العربي لتلك المنطقة من العالم، تبدو جلية من خلال موسيقى بديعة يخيّل الى المرء انها تعزف تحت سعف النخيل في ليل صيفي عابق بالرغبات العاطفية والإحساس بالسلام الداخلي. ومن الواضح أن بعض لحظات هذه المقطوعة والتي يصحبها غناء يكاد يكون مبهماً لكورس هادئ النبرة، تحيل الى واحدة أو أخرى من «ليليات» شوبان ولا سيما تلك المعروفة بالرقم 15 في عمل الموسيقي البولندي الأكثر رومانسية في تاريخ الموسيقى الأوروبية.

والحال أن هذا البعد الشرقي السمات الرومانسيّ المزاج يقارب بين «كوردوبا» وبين عملين آخرين شهيرين لآلبينيز أحدهما «تحت النخيل» الذي يتحدث عنه النقد بكونه لا يعبر فقط عن البيئة الإسبانية لكنه يعبر كذلك بالأحاسيس التي يعبق بها، عن المرأة الإسبانية؛ أما الثاني فهو بالتأكيد عمل هذا الفنان، الأكثر شهرة» «غرانادا» الذي تمكن من أن يخلد تلك المدينة ويمكن القول انه بات الأكثر شهرة، ليس في الألحان التي وضعها آلبينيز فقط، بل في المعزوفات العربية أيضاً! كيف؟ من خلال الموسيقي العربي الكبير فريد الأطرش. ولعل السبب هو أن غرانادا، أي غرناطة بالنسبة الى العرب، هي المدينة التي كانت ولا تزال تجسّد، الى حد كبير، استمرارية الحضور الثقافي والروحي للعرب في إسبانيا. هي مدينة الأندلس من دون منازع، وهي أيضاً المدينة التي أوحت للكثير من الفنانين، خصوصاً الموسيقيين الإسبان في القرنين الأخيرين على الأقل، تلك المؤلفات التي عرفت كيف تعيد الى الأذهان روح الحضارة الأندلسية. ما جعل من هذه المدينة موضوعاً لتلك القطعة موسيقية الرائعة التي تحمل توقيع البينيز التي وضعها لتعزف أحياناً كشكل من أشكال الكونشرتو - على غرار تعامله مع بقية المقطوعات التي تؤلف «أناشيد إسبانيا». أما من يحب الاستماع الى هذه القطعة، على العود (مع انها مكتوبة أصلاً للبيانو) فليس عليه إلا أن يصغي الى واحد من تسجيلات أغنية «حكاية غرامي» لفناننا الكبير الراحل فريد الأطرش، حيث سيجدها هناك يعزفها عود صاحب «الربيع» و «أول همسة» من دون أية إشارة بالطبع الى كون البينيز هو مؤلفها، وانها تشكل جزءاً من أعماله الكبيرة التي خلدت مدن إسبانيا وشخصية الأندلس، وأعطت الموسيقى الوطنية الإسبانية بعض أعظم أعمالها التي كشفت عن امتزاج الروح الشرقية بالروح الغربية. ويقيناً ان هذا الامتزاج هو الذي أغرى فريد الأطرش باستعارة بعض فقرات المقطوعة وعزفها عزفاً رائعاً على أي حال.

مهما يكن، وعلى الرغم من تلك الروح الأندلسية الشرقية التي طبعت السلسلة التي وضعها البينيز عن إسبانيا وأندلسها، فإنه عرف دائماً بكونه من أكثر الموسيقيين الإسبان المعاصرين له اوروبيةً. بمعنى ان تكوينه الفني ومزاجه الشخصي، ناهيك بالتفاته الدائم ناحية أوروبا، كلها أمور كان من شأنها ان تجعل البينيز واحداً من اكثر الفنانين الإسبان ابتعاداً من الروح الشرقية ورومانسيتها الحالمة وإيقاعاتها المدهشة. لكن الرجل، بعد جولة أوروبية طويلة، وبعد ارتحال لافت في عقلانية وسط أوروبا وشمالها، عاد ذات يوم ليكتشف ان ما يبحث عنه حقاً، في الفن وتحديداً في الموسيقى، كان دائماً موجوداً هناك، في الأرض الأندلسية. ومنذ تلك اللحظة صارت ألحانه، المكتوبة في معظها كقطع للبيانو، مطبوعة بالشرق أكثر من أية موسيقى أوروبية أخرى، بل جاءت في ذلك متقدمة كثيراً على المقطوعات ذات الروح الشرقية (أو بالأصح الاستشراقية) التي كان يؤلفها في أزمان متقاربة، موسيقيون مثل إدفارد غريغ، وسميتانا والروسي الكبير ريمسكي كورساكوف. فلئن كانت موسيقى هؤلاء، انطبعت بروح «شرقية» متصوّرة فضلاً عن الرومانسية الأوروبية التي صاغت، في نهاية الأمر، شرقاً خاصاً بها، فإن موسيقى البينيز، خصوصاً تلك التي كتبها بعد سن النضج، وبعد عودته إلى إسبانيا من ترحاله الأوروبي، جاءت وارثة للموسيقى الإسبانية التي كانت بدورها وريثة الإيقاعات - والألحان الأندلسية العربية القديمة.

ولد البينيز في العام 1860 في مدينة كامبرودون الإسبانية، وكان في الرابعة من عمره حين كشف باكراً عن حس موسيقي رهيف وبدأ يعزف على البيانو. لكن والده لم يسمح له، أول الأمر، بأن يحترف الموسيقى، فاضطر للهرب من البيت وكان في الثالثة عشرة، حيث عاش متنقلاً يعمل عازفاً للبيانو حتى يؤمن عيشه. واذ تكرر هربه مرتين لم يجد أبوه مفراً من الرضوخ لمشيئته، فوافقه على اختياره المصيري، بل ساعده على الالتحاق بكونسرفاتوار لايبتزغ في ألمانيا حيث شرع يدرس الموسيقى. بعد ذلك حين نفدت نقوده، التحق بمعهد بروكسل (بلجيكا) الموسيقي بفضل منحة حكومية ملكية قدمت له. وفي العام 1883، كان في الثالثة والعشرين حين أنهى دروسه وعاد ليقيم في إسبانيا حيث بدأ يدرّس الموسيقى، أولاً في معاهد برشلونة، ثم في مدريد.

في تلك الآونة كان البينيز بدأ يكتب مقطوعات موسيقية بسيطة للبيانو. لكنه اعتباراً من العام 1890 عاش تحولاً أساسياً في حياته جعله يأخذ التأليف الموسيقي مأخذ الجدية، خصوصاً أنه كان في تلك الآونة بدأ يخضع لنفوذ المؤلف الكبير فيليبي بدريل الذي كان يعتبر الأب الشرعي للموسيقى الوطنية الإسبانية. وفي العام 1893 توجه البينيز الى باريس حيث اختلط بعدد من كبار الموسيقيين الذين كانوا قد بدأوا الاهتمام بالموسيقى الشعبية ومنهم فنسان دندي وبول دوكا، وبفضل ذلك الاختلاط تعمق اهتمام البينيز بالحس الشعبي، وذلك بالتوازي مع إصابته بمرض «برايت» الذي سيصيبه بعد ذلك بالشلل ثم يقضي عليه، إذ ارتحل عن عالمنا يوم 19 أيار (مايو) 1909، وكان لا يزال في التاسعة والأربعين من عمره.

«مهما يكن، فإن أهمية البينيز، الذي جرب أنواع الكتابة الموسيقية كلها بما فيها الأغاني الأوبرالية، تكمن في مقطوعات البيانو الشهيرة التي كتبها، والتي استخدمت في غالبيتها ألحاناً وتقاسيم وإيقاعات مستقاة من الحس الأندلسي. اما عمله الأشهر فهو مجموعة «ايبيريا» التي ألّف مقطوعاتها المختلفة بين العام 1906 والعام 1909، اي ظل يكتبها حتى أيامه الأخيرة، وتتألف من 12 قطعة يرى الكثير من المؤرخين والنقاد انها من اكثر الأعمال الموسيقية تعبيراً عن الروح الأندلسية. ومن بين أعماله الشهيرة ايضاً متتابعة «إسبانيولا» التي تتضمن الى ما ذكرنا أعلاه، قطعة «اشبيلية» الشهيرة؛ وذلك ضمن إطار «أناشيد إسبانيا» («كانتوس إسبانيا») التي تتضمن «قرطبة»؛ ثم «نافارو» و»التانغو من مقام D كبير».

إبراهيم العريس

عن موقع جريدة الحياة

جريدة الحياة

“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)