بعلبك تتذكر أم كلثوم خاتمة المطربات في لياليها

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
السبت 07-07-2018
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي


خاتمة المطربات في ليالي بعلبك


<article4811|cycle|docs=5742,5743,5744,5745,5746,5747,5748,5749>


تنطلق في 8 تموز/يوليو المقبل الدورة الثانية والستون لـمهرجانات بعلبك الدولية، وتتضمّن أمسية غنائية تُقام تحت عنوان “بعلبك تتذكر أم كلثوم” على أدراج معبد باخوس، وذلك تكريماً لذكرى كوكب الشرق التي شاركت ثلاث مرات في هذه المهرجانات، وأحيت فيها ست حفلات تاريخية في العقد الأخير من عمرها.

في العام 1931، قامت أمّ كلثوم بأولى جولاتها الفنية خارج مصر، وأحيت سلسلة من الحفلات في سوريا ولبنان وفلسطين. بعد غياب طويل، عادت “كوكب الشرق” إلى بيروت في 1954، وغنّت في مسرح الكابيتول، وشكّلت هذه الإطلالة بداية جديدة لها في لبنان. على مدى عشر سنوات، قدمت أم كلثوم إحدى عشرة حفلة توزعت على ثلاث قاعات في بيروت وعاليه، بعدها انتقلت إلى بعلبك في 1966، وتكرّر هذا اللقاء في العام 1968 ثم في العام 1970.

في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1954، طارت أم كلثوم من القاهرة إلى بيروت بعدما أحيت “المهرجان الوطني الأكبر” في ميدان التحرير، وذلك لتحيي “حفلة زفاف صاحب السموّ الأمير طلال والآنسة منى كريمة المرحوم رياض الصلح”، كما نقلت الصحافة. من المطار، انتقلت أم كلثوم إلى فندق “النورماندي”، وتحدثت عن زيارتها السابقة للبنان، ونقل سليم اللوزي عنها قولها: “أذكر أننا وصلنا من طريق البحر، وأنني استُقبلت بأروع استقبال رأيته في حياتي. وبيروت كانت جميلة وهي لا تزال جميلة ولكنها اتسعت كثيرا، وهذا دليل على سرعة التقدم فيها”.

لم تقدم “كوكب الشرق” حفل الزفاف كما كان مقرّرا، وذلك بعدما أرسل الملك سعود إلى أخيه العريس برقية قال له فيها “الغناء مخالف لتقاليدنا”، “وكان لهذا الخبر وقع الصاعقة على الجميع، من عائلة العروس إلى الإذاعة اللبنانية، إلى الآلاف التي تهيأت بالسموكن وثياب السهرة منتظرة أم كلثوم”، كما كتب يومذاك سليم اللوزي. استغلت نقابة الموسيقيين اللبنانيين هذه المناسبة، وكرّمت أم كلثوم في فندق “الكابيتول” في حفلة كبيرة حضرها حشد من رجال السياسة والثقافة. في هذه الحفلة، علّق نقيب الموسيقيين، صابر الصفح، وسام النقابة على صدر الضيفة الكبيرة، وأعلن وزير المالية والأنباء، محيي الدين نصولي، باسم الحكومة، منح “كوكب الشرق” أرفع وسام لبناني تقديراً لمقامها الفني.

لبّى المدعوون دعوة نقابة الموسيقيين، ولم يكن أحد منهم يتصوّر ان أمّ كلثوم ستغني، لكن الضيفة الكبيرة فاجأت الحضور، وغنّت في ختام الحفل، “يا ظالمني”، واستمرت في الغناء ساعة وربع الساعة، وعادت إلى القاهرة، وقالت وهي تودّع الناس الذين احتشدوا لرؤيتها: “لن أنسى هذه الزيارة إلى لبنان”. بعد هذه الرحلة “الخاطفة”، توالت رحلات أمّ كلثوم الفنية إلى لبنان، وتولى تنظيمها حسن الجاك، ابن أحمد الجاك، متعهد جولتها الأولى سنة 1931. في أيار/مايو 1955، أحيت أمّ كلثوم حفلتين في قصر الأونيسكو “مقابل أجر ضخم، لا يقل عن ستين ألف ليرة”، كما نقلت الصحافة، وحضر الحفلة الأولى رئيس الجمهورية كميل شمعون، ورئيس الوزراء سامي الصلح، وحبيب أبو شهلا. وجاء في الخبر: “في خلال الأيام الثلاثة التي قضتها أمّ كلثوم في لبنان، تلقت محطة الإذاعة اللبنانية مئات الأسئلة عما إذا كانت حفلات المطربة الكبيرة ستُذاع في الراديو أم لا، فلم تجب الإذاعة لأنها هي نفسها كانت حائرة خصوصاً أن ثومة طلبت مبلغاً خيالياً مقابل أن تسمح بإذاعة حفلاتها، وتراجعت الإذاعة لسبب واحد هو أن المبلغ الذي طلبته أمّ كلثوم يعادل ميزانيتها في عام كامل”. أقيمت الحفلة الأولى في 12 أيار/مايو، وقدّمت فيها أمّ كلثوم ثلاث وصلات، وفقاً للتقليد المتّبع، وغنّت “جددت حبك ليه”، “رباعيات الخيام”، و"يا ظالمني". وأقيمت الحفلة الثانية في 14 أيار/مايو، وغنّت فيها “ذكريات”، “يا ظالمني”، و"نهج البردة".

في صيف العام التالي، عادت “كوكب الشرق” إلى لبنان، وأحيت حفلتين في “بيسين عاليه”. أقيمت الحفلة الأولى في 19 تموز/يوليو، وتضمّنت “رباعيات الخيام”، “ذكريات”، و"يا ظالمني". وأقيمت الثانية في 21 تموز/يوليو، وتضمّنت “شمس الأصيل”، “يللي كان يشجيك أنيني”، و"دليلي احتار". من جديد، أحيت أمّ كلثوم في قصر الأونيسكو حفلتين أقيمتا في 19 و21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1959 “برعاية رئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي ولمناسبة عيد استقلال لبنان”، وعادت إلى “بيسين عاليه” في صيف 1962، وأحيت حفلتين أقيمتا في 2 و4 آب/أغسطس. في خريف 1964، انتقلت “كوكب الشرق” إلى خشبة سينما “ريفولي” في وسط بيروت، وأحيت حفلتين في 12 و14 تشرين الثاني/نوفمبر. وفي العام التالي، عادت إلى “بيسين عاليه” في 5 آب/أغسطس، وبهذا الحفل، ختمت مشوارها مع متعهد حفلاتها اللبنانية حسن الجاك.

تعاقدت لجنة مهرجانات بعلبك مع أمّ كلثوم لتقديم حفلتين في 15 و17 تموز/يوليو 1966، وقالت صحيفة “النهار” يومذاك “ان مطربة مصر الأولى تقاضت في ليلتين فقط ثمانين ألف ليرة لبنانية، أي أكثر بعشرين ألف ليرة لبنانية من قيمة التفاح الذي اشترته مصر من لبنان”. قبل الافتتاح المنتظر، أرسل نجيب حنكش إلى سيدة الغناء العربي برقية تقول: “هياكل بعلبك، أعجوبة الماضي البعيد، ترحّب بقمة الطرب المعاصر وصاحبة الصوت المعجزة أمّ كلثوم. أجمل ما نقشه الانسان على الحجر، وأروع ما خلقه الله من أصوات البشر، سيلتقيان على مدرج هياكل جوبيتر. أهلاً بسيدة الطرب، وأكاد أقول خاتمة المطربات، وسهلاً بمَن تستعمر قلوب الملايين، ولكن بالكلمة الحلوة والصوت الفريد. المشتاق والملتاع والمتعبّد لصوت أمّ كلثوم”.

استُقبلت ثومة بحفاوة بالغة، وحضر حفلتيها عدد من كبار مشاهير السياسة والفن، في مقدمتهم فيروز وعاصي رحباني وصباح. غنّت أمّ كلثوم في الحفلة الأولى “أمل حياتي”، “بعيد عنك”، و"للصبر حدود". وغنّت في الثانية “الأطلال”، “سيرة الحب”، و"انت عمري". حصدت الحفلتان نجاحاً فاق كل تصوّر، ودفع هذا النجاح بلجنة مهرجانات بعلبك إلى التعاقد مع أمّ كلثوم مجدداً لإحياء حفلتين في 1968. افتتحت أمّ كلثوم هذه المهرجانات في 15 تموز/يوليو، ورافقت الصحافة اللبنانية الحدث بحماسة بالغة. زيّنت مجلة “الديار” غلافها بصورة قديمة لـ"كوكب الشرق"، وعلّقت في الصفحة الأولى بكلمة تقول: “أمّ كلثوم التي أصبحت في السبعين من العمر أحيت أمس أول حفلة غنائية في بعلبك فكانت ولا تزال سيدة الغناء والطرب الأصيل”، ونقلت عن المطربة العربية الأولى قولها: “أنا سعيدة بحضوري إلى لبنان، وأحبّ لبنان والشعب اللبناني، وسأغنّي قريباً أغنية لشاعر لبناني من ألحان محمد عبد الوهاب”. لم تذكر أمّ كلثوم حينها اسم الشاعر اللبناني، واتضح بعد فترة وجيزة أنه جورج جرداق، وأن الأغنية التي يلحّنها عبد الوهاب من كلماته هي قصيدة “هذه ليلتي”.

أحيت أمّ كلثوم حفلتين في مسرح قلعة بعليك في 15 و17 تموز/يوليو 1968، فغنّت في الأولى “الأطلال” و"فكروني"، وفي الثانية “أمل حياتي” و"بعيد عنك". إثر هزيمة 1967، أعلنت سيدة الغناء العربي أنها ستبدأ رحلة فنية لصالح المجهود الحربي المصري تمتد حتى تصل حصيلتها إلى مليون جنيه، وجاءت حفلتا بعلبك في العام 1968 ضمن هذه الحملة. وفقاً لما نقلته مجلة “الكواكب” المصرية، “حصلت أم كلثوم على مئة وخمس وثلاثين ألف ليرة لبنانية عن غنائها في حفلتي افتتاح مهرجان بعلبك الدولي، وهو أكبر رقم تحصل عليه فنانة في لبنان”، وخصِّص هذا المبلغ للمجهود الحربي كما كان مقرّراً. كرّمت الحكومة اللبنانية أمّ كلثوم في هذه المناسبة، وقلّدها رئيس الوزراء عبد الله اليافي وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط أكبر في حفل أقيم في شتورة، وكانت قد حصلت من قبل على وسامين، “هما وسام الأرز الوطني من رتبة كومندوز، ووسام الاستحقاق اللبناني المذهب”.

خرجت ثومة عن التقليد الذي اتبعته على مدى عقود من الزمن، وقدمت في كلّ حفلة وصلتين، بدلاً من ثلاث. أجرت مجلة “الأسبوع العربي” تحقيقاً خاصاً لهذه المناسبة، ونقلت شهادات من حسن الجاك وحليم الرومي وعاصي رحباني، كما حرصت على الاستماع إلى رأي الطبيبين صلاح سلمان ورمزي ناصيف. أشاد الكلّ بـ"ربيع الحنجرة المتجدد دائماً وأبداً"، وامتدحوا هذه الهبة من السماء التي يعجز المنطق وحتى العلم عن تفسيرها. قال عاصي رحباني في شهادته: “منذ نشأتها وحتى الآن تميّز صوتها بالقوة، متخذاً طابعاً خاصاً، وواضعاً أسس مدرسة خاصة هي مدرسة أمّ كلثوم. وهي تتمتع عدا صوتها بشخصية قوية، وشخصية الفنان جزء لا يتجزأ من كيانه، تبدو جلية من خلال صوته. وبتعبير آخر، ان صوت أمّ كلثوم هو من الأصوات النادرة جداً، طابعه القوة والتأدية السليمة، ويؤدي الطرب الشرقي الأصيل. قفلاتها شجاعة جداً، ومن ثمّ فإن سرّ نجاح أمّ كلثوم هو أيضاً في كونها مخلصة للتراث الذي تغنّيه”. وأضاف: “في البدء، كان صوت أمّ كلثوم أكثر فتوّة، لكنه اليوم ممزوج بالنضوج والتجربة، وما زالت أمّ كلثوم تغنّي وتطرب. فالصوت يخسر مع العمر من المقامات العالية، ولكن ما يخسره من هذه المقامات، يربحه في المقامات المتوسطة والمنخفضة، ويزداد فيها طلاوة”.

عادت أمّ كلثوم إلى بعلبك للمرة الثالثة في صيف 1970 حيث أحيت حفلتين في 8 و11 تموز/يوليو. غنّت “كوكب الشرق” في الحفلة الأولى “هذه ليلتي”، وتبعتها بـ"أقبل الليل". وغنّت في الأمسية الثانية “اسأل روحك” و"دارت الأيام"، وكانت هذه الأمسية آخر حفلاتها اللبنانية. حضر عصام محفوظ الحفلة الأولى، وكتب في “النهار”: “خمسة آلاف آه بعضها لبناني وبعضها الآخر من كلّ بلد عربي كانت تتردّد بعد كلّ طلعة أو نزلة من صوت أمّ كلثوم التي تصدّرت عشرين عازفاً كانوا يطلعون وينزلون أيضاً معها في القلعة التي شهدت انتصار الرومان. كنت أتفرّج على المتفرجين، لكن الحنجرة التي تجاوز عمرها الستين سنة بمعجزة تغلغلت إلى أعماقي. من يستطيع أن يقاوم حضور وحش العاطفية الجماهيرية؟ الهيبيون في الغرب يحاولون اليوم الدخول إلى طرب الغيبوبة عبر الحركة المفتعلة. جمهور أمّ كلثوم لا يحتاج إلى ذلك فهو مستعد سلفاً، نفسياً وذهنياً وعاطفياً. منذ خمسين سنة وهذا الصوت يجمع العرب على شيء. كان هذا الشيء موجوداً بقوة الليلة في ساحة القلعة المحتشدة بالكراسي الملأى، هذا الشيء هو نيرفانا العالم العربي. ليلة الأحد المقبل ستتردّد أيضاً خمسة آلاف آه أخرى في الحفلة الثانية والأخيرة للصوت الذي يجمع كلّ رواسب الشرق الأصيل”.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)