بطاقة إقامة في برج بابل يوميات باريس، شاكر نوري (العراق)، يوميات المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2013

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 18-05-2016، العدد : 10279، ص(14)
الصفحة : ثقافة
العرب - باسم فرات


يوميات من باريس في كتاب شاكر نوري ’بطاقة إقامة في برج بابل’


تعد الكتب التي تتحدث عن الأمكنة بكل تفاصيلها الجمالية من معمار ومميزات طبيعية وثقافية وحضارية خرائط معرفية مهمة نكتشف من خلالها أسرار تلك المدن وتفاصيلها التي لا تكشفها الصور أو غيرها من الوسائل التعريفية الأخرى.

اقتناء كتاب شاكر نوري “بطاقة إقامة في برج بابل يوميات باريس” وقراءته قبل التوجه إلى باريس يعد ضروريا، فهو يكشف لنا باريس على الورق، مما يمنحنا فرصة ثمينة للتعرف على معالمها بشكل جيد إن لم يكن ممتازا، ناهيك عن أسلوبه الصحافي– السردي الشيق.

يقودنا الكتاب الذي يتكون من مئتين وصفحتين، بدءا من مقدمته إلى التأكيد على أن باريس تثير شهوة الكتابة لأنها مدينة أسطورية كما أثينا وروما أو بغداد أو إسطنبول التي توحدت بمصابيحها المضيئة في التاريخ ذات مرة، لها مدفن عظمائها وأقواس نصرها وأعمدتها الرخامية وخرائبها المندثرة مثل مدينة القياصرة، ولها أبطالها وجزرها الصغيرة مثل إسبرطة، ولها تناقضاتها الطبقية مثل الهند، ولها روادها مثل ألمانيا، ولها حريمها مثل القسطنطينية، ولها كرنفالها مثل البندقية، ولها هنودها الحمر مثل أميركا، ولها دراويشها مثل بغداد، برج بابل تلتقي فيه كل الأجناس والأديان والعلوم والفلسفات والصناعات والفنون دون أن يحاول الإنسان أو الإله توحيدها.

جولة في المدينة

بعد المقدمة تبدأ قصة باريس من جزيرة لاستيه، التي تأسست على يد الصيادين والبحارة قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام، ولكنها بدأت في التكون عام 250 قبل الميلاد على يد الباريزي وهم قبيلة سلتية. ومن أسماء باريس أرض المستنقعات، والتي ظهر اسمها “باريس” بعد أن اكتسحت جيوش الهانيين والفرامكيين أراضي لوتيتيا، مما أجبر سكانها على التراجع إلى داخل جزيرة لاستيه المحصنة، وصارت المدينة تعرف باسم باريس.

فصل “شعراء خطوا تاريخها بدمائهم وقصائدهم” يقودني في رحلة مدهشة مع شعراء وأدباء وفلاسفة عاشوا أو مروا بالمدينة، حيث قامت الحكومة برد الجميل لهم بتسجيل أسمائهم على لوحات رخامية ووضعها أعلى البنايات، ثم يورد شاكر نوري حادثتين طريفتين؛ الأولى أن لندن ونيويورك رفضتا نشر رواية “يوليسيس” فلجأ عبقري الرواية العالمية جيمس جويس إلى صديقه جورج وايتمان صاحب مكتبة جورج آند كومباني، لترى النور في عاصمة النور بينما لندن ونيويورك اللتان تتحدثان لغة الرواية رفضتاها. وأمّا الحادثة الثانية فهي عندما احتل الألمان باريس، وقام الجنود الألمان باقتحام إحدى محطات القطار، أمرهم قائدهم بشراء تذاكر الدخول.

كما تطرق الكاتب في فصل “نهر السين ملهم الرسامين” إلى النهر الشهير ذي السبعة والثلاثين جسرا التي تربط بين ضفتيه، والذي ينبع من منطقة بورغوندي ويصبّ في القناة الإنكليزية المانش. هذا النهر الذي أغرى رسامين- كما أغرى غيرهم- يمتاز بالضيق مقارنة بالتايمز والدانوب العريضين، ومما رسمه أوغست رينوار وكلود مونيه وغوستاف كاييبوت، والنهر الذي يشق المدينة إلى نصفين يُعد نقطة جذب كبيرة.

وفي “مصابيح الكيروسين تضيء ظلمات باريس” يصحبنا الكاتب في جولة في ليل باريس وأعمدتها الكهربائية وأنابيب مجاريها التي أنشئت في القرن التاسع عشر وطولها يزيد على ألفي كيلو متر، أي ما يعادل المسافة بين باريس وإسطنبول، ونطل على تاريخها وأدبها وأدبائها ومبانيها القديمة، ثم يأخذنا في جولة في البانتيون “مقبرة عظماء الأمة الفرنسية” حيث تتصدرها جملة مشعة وخالدة “الوطن يعترف بفضل العظماء” وتاريخ هذا المبنى يختزل صراعات فرنسا.

ثقافة ومهاجرون

ثم ينقلنا الكاتب إلى جامعة السربون التي هي أهم مفاخر فرنسا، لنتعرف عليها، وعلى الحضور العربي فيها، ويقودنا في “عربات زرقاء في أنفاق ليلكية” برحلة معرفة لمواصلات باريس قديمها وحديثها، تمنحنا القدرة على تخيل المشهد، ثم نتعرف على معلم مهم من معالم باريس عبر فصل “محطة أورسيّ القديمة تعيد أمجاد الفن” لينتقل إلى “المقاهي الأدبية، سُرة باريس ومفترق مصائر الأدباء” فنتعرف على هذه المقاهي وهي أحد أهم معالم باريس، ومن خلالها عن التاريخ الثقافي لباريس وربما فرنسا، وعن نجوم في الأدب والفكر طالما راودوا مخيلتنا حين تعرفنا على أسمائهم ونتاجاتهم.

“الكوميدي فرانسيز.. إمبراطورية تقاوم الزمن” في هذا الفصل سياحة معرفية ممتعة مع موليير والمسرح والممثلين الذين يقضون حياتهم بأكملها في حماسة الشباب وحتى إنجاز أوراق التقاعد، لنقرأ بعده عن فندق “ريترز” حيث بروست وفيتجرالد وهمنغواي وكوكتو وشانيل وموران وتشرشل وكوليت ومادونا وديانا وغيرهم؛ الذين تركوا أثرهم في هذا الفندق الشهير. وفي “عدسة وودي ألن وأصداء أغنيات أديث بياف” ثمة متعة ونحن نتعرف على باريس من خلال نبيذها، وودي ألين وفيلمه “منتصف الليل في باريس”، وكذلك أيقونة الغناء الفرنسي أديب بياف منذ طفولتها وحتى استسلامها للمخدرات وموتها في السابعة والأربعين من العمر.
ثم ينقلنا إلى معلم آخر من معالم باريس، ألا وهو مسرح “لاهوشيت” الذي أخذ اسمه من الشارع الضيق الذي يقع فيه المسرح الذي يعد أصغر مسارح باريس ولكنه الأشهر عالميا ولا يحتوي إلا على مئة مقعد ولا يعرض سوى مسرحيتين ليوجين يونيسكو، “المغنية الصلعاء” و”الدرس” منذ نهاية الخمسينات وبنجاح منقطع النظير، وفي “علي بابا يعانق مارلين مونرو” يقودنا لنتعرف على “السينماتيك” أو دار السينما الذي يُسمى قصر “شابو”.

كما تحدث المؤلف في “قطرة الذهب.. حيّ باريسي مفاتيحه بيد العرب”، عن نهاية الحرب العالمية الأولى عندما بدأت الهجرة لهذا الحي تزداد من المستعمرات الفرنسية، حيث جاءت بهم الحكومة الفرنسية ووعدتهم بالجنة لإعادة بناء فرنسا التي هدّمتها الحرب، ولم تتوقف الهجرة رغم أن قوانينها تضيق يوما بعد آخر.

بعد هذه الجولة لابد من القول إن الكتاب في أغلبه أشعرني بأنه تحقيقات صحافية أكثر منه يوميات، رغم أن بعض فصوله يبرز كاتب اليوميات، لكنه يبقى كتابا لا غنى عنه لمن يريد أن يزور باريس ويتعرف عليها إن كان على الورق فقط أو يجسد ما يقرؤه عمليا.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)