«برج إيفل» : صرح عمراني مدهش غيّـر وجه باريس الأبديّ Tour Eiffel - Paris - France

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٨ مارس/ آذار ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


حين توفي المهندس الفرنسي غوستاف ايفل يوم 29 كانون الأول (ديسمبر) 1923 كان في الحادية والتسعين من عمره، بمعنى ان أمجاده وتاريخه كانت قد اضحت وراءه، جزءاً من الذاكرة. ولكن على عكس ما يحدث عادة لكبار المهندسين المعماريين الذين ما إن يرحلوا او يكفّوا عن العمل حتى يخلدوا الى النسيان الهادئ، كان ذكر غوستاف ايفل متواصلاً ودائماً ولم يكن النسيان من نصيبه بأي حال من الأحوال، وذلك بالتحديد لأن واحداً من أشهر «المباني» التي انجزها غوستاف ايفل في مساره العملي ظلّ، ولا يزال الى اليوم، يحمل اسمه. ونتحدث هنا بالطبع عن «برج ايفل» الذي لا يعتبر، وحسب، أشهر مبنى في باريس، ولا أعجب مبنى معدني في تاريخ الهندسة المعمارية، بل صار، ومنذ إنشائه، رمزاً لمدينة لم تكن تنقصها الرموز على أي حال.

لقد كان من نصيب برج ايفل ان أنزل كل الرموز الباريسية الأخرى عن عرشها ليحتل هو تلك المكانة الهائلة التي أضحت له، ولتصبح صورته صورة باريس ومعلمها الرئيس. فالمعروف تاريخياً ان مدينة باريس المقامة منذ مئات السنين على مسطح من الأرض، تتخذ دائماً سمة ذلك المسطح على رغم وجود بعض التضاريس والمرتفعات الضئيلة في بعض دوّاراتها. ولكن منذ اقام ايفل برجه في منطقة باتت اليوم تعرف عالمياً باسمه، صارت لباريس سمة عمودية... لم تلبث أن تعززت لاحقاً منذ اواسط القرن العشرين وإن أتت فقط الأبنية العمودية مقتصرة على الأطراف ولا سيما في حي الديفانس. ومن هنا صارت لإيفل شهرة إضافية باعتباره العمراني الذي غيّر «تضاريس» تلك المدينة الخالدة.

ولعل ما يمكن أن يذكر في هذا الصدد هنا ايضاً ان برج ايفل لم يطغ فقط على بقية المعالم والرموز الباريسية الشهيرة والخالدة، بل انه طغى كذلك على بقية إبداعات مهندسه الشهير، بحيث يكاد يخيل للكثيرين اليوم ان غوستاف ايفل لم ينجز في حياته سوى ذلك البرج. وكثيراً ما نقرأ حكايات عن ذلك الإنجاز تكاد تصوره لنا نتاج صدفة من الصدف وتجعله أشبه بنزوة فنان كان يمكنها ان تكون عابرة، لكن الحقيقة غير هذا. الحقيقة هي ان برج ايفل لم يكن صدفة بل انه ينخرط بشكل عضوي وأساسي في المسار الابداعي والفكري لبانيه المهندس غوستاف ايفل (المولود في نهاية 1832 في مدينة ديجون الفرنسية). فالحال ان ايفل، في استشرافه لدور المعادن في البناء في العصور المقبلة، بنى منذ البداية مساره العملي على أساس الاستخدام الأمثل والأقصى للمعدن في حركة العمران، وعلى هذا لم يكن برج ايفل انجازه الأول في هذا المجال، بل سبقه في مساره بناءان معدنيان أثارا الدهشة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر: اولهما مشروع جناح الآلات في المعرض الدولي للعام 1867، وثانيهما انشاء الجسر المعدني على نهر دورو بالقرب من مدينة بورتو البرتغالية. وفي هذا المجال نفسه كان انشاؤه للقنوات المائية في غارابيت في 1884 معجرة عمرانية معدنية حقيقية.

اذاً، مزوداً بكل ذلك التاريخ وبذلك الإنجاز، كان في امكان ايفل ان يقترح منذ العام 1885 اقامة البرج المعدني الهائل في منطقة شان دو - مارس على ضفة نهر السين. وهو حين قدم مشروعه الى السلطات البلدية المعنية، ذكر انه يتحمل المسؤولية الكاملة عن العملية، وعلى ذلك النحو أُذن له بتنفيذ المشروع بعد ان منح «عوناً» (لا تمويلاً) مقداره مليون ونصف المليون من الفرنكات. ومن هنا لم يكن غريباً ان يرتبط المشروع باسمه منذ البداية، وأن يحمل اسمه ذلك الصرح الذي اعتبر يومها، عن حق، أعلى مبنى في العالم، اذ زاد ارتفاعه عن الثلاثمئة متر التي كانت مقررة في البداية.

تحديداً، يبلغ ارتفاع البرج 324 متراً - اي ما يعادل اكثر من ثمانين طابقاً في بناية عادية -. وهو كان حتى اقامته يعتبر اضخم بناء في العالم بنته ايدي البشر، وهي مكانة ظلت له طوال اكثر من اربعين عاماً حتى انتزعها منه مبنى كرايزلر في مدينة نيويورك. غير ان لا هذا المبنى الأخير ولا اي مبنى آخر في العالم تمكن حقاً من ان يضاهي برج ايفل في شهرته ومكانته السياحية حتى السنوات الأخيرة حين راحت أبراج مدهشة تملأ العالم - وآخرها وأعظمها حتى الآن برج خليفة في مدينة دبيّ - تظهر قالبة كل المعايير العمرانية. ولكن لا بد من القول هنا ان برج ايفل تبقى له فرادته ومكانته التي من المستحيل ان يشاركه فيهما اي صرح آخر وبالتحديد لأن البشرية لن تجد نفسها في اية حال من الأحوال قادرة على تكرار تلك التجربة التي تبقى فريدة. وهذا كله بات بديهياً ومعروفاً، لكن المعروف اقلّ هو ان ايفل لم يكن هو اصلاً صاحب التصاميم الأولى للبرج. بل كان المصممان المهندسين الفرنسيين موريس كوشلين وإميل نوغييه العاملين في شركة المقاولات المملوكة اغوستاف ايفل. اما المشروع في حد ذاته فنتج من مداولات كانت تجرى في مكاتب الشركة للتوصل الى تصميم مبنى مركزي في سلسلة اجنحة تبنى من اجل معرض العام 1889 الدولي في باريس. وقد وضع التصميم الأول في العام 1884، لكن ايفل نفسه لم يبد تجاهه حماسة كبيرة... وهكذا أُدخل على الخط مهندس كبير آخر من العاملين في الشركة هو ستيفان سوفستر الذي ادخل تعديلات منها اقواس القاعدة وإضافة جناح زجاجي في الطابق الأول... وكانت هذه النسخة هي التي اعتمدها ايفل فأطلق المشروع بدءاً من اوائل العام 1886 ليبدأ البناء الفعلي في 28 كانون الثاني (يناير) 1887 حيث استغرق صب الأعمدة الحديد والصفائح الملحقة بها قرابة ستة اشهر ليبدأ التركيب استناداً الى 1700 رسمة وخريطة 3629 رسمة تفصيلية من اجل توليف وتركيب 18038 قطعة يتألف منها البرج الذي قسّم الى ثلاثة أجزاء مع سطيحة عليا ترتفع 276 متراً عن سطح الأرض. ويحتاج ارتقاؤها الى صعود 300 درجة.

والحقيقة ان البرج منذ افتتاحه، مع المعرض العالمي، صار صنواً لباريس كما بات مرتبطاً باسم ايفل بعد ان نسيت تقريباً اسماء العاملين الآخرين فيه. غير انه لم يحمل السعد الى المهندس الشهير، بل كان فألاً سيئاً على مساره المهني كمهندس، اذ انه كان آخر ما حققه في اطار مهنته الهندسية العملية، فما كان منه إلا ان انصرف بعده الى البحث العملي. وهكذا بين العام 1900 والعام 1913 أخذ يبحث في كل امكانيات المعادن ويضع دراسات ناتجة من اختبارات عملية، في مجال استخدام المعادن في العمران. وتعتبر كتبه التي وضعها حول هذا الموضوع مراجع لا يستغنى عنها حتى يومنا هذا.

ومهما يكن من أمر، فإن ايفل ظلّ مواكباً لعصره لدرجة انه ما ان ظهرت حركة الطيران، حتى انهمك وقد بات في خريف عمره، في دراسة المشكلات العمرانية والبيئوية التي يثيرها الطيران في حركة نموه المتصاعدة. وهو لتلك الغاية انشأ مختبرين كانا من أنشط المختبرات الدراسية في العالم في ذلك المجال، اولهما بالقرب من برج ايفل نفسه، والثاني في منطقة اوتاي الباريسية. وكذلك نراه ينشر، في مجال بحوث تأثير الطيران في العمران كتابين لا يزالان شهيرين حتى اليوم: «بحوث تجريبية حول مقاومة الهواء أُجريت في برج ايفل» (1907) و «مقاومة الهواء والطيران» (1910). ووسط هذا كله ظل غوستاف ايفل، وحتى رحيله، يرعى بالعناية والاهتمام برجه الشهير، ويراقب مبتسماً المعارك الفكرية التي كان وجود البرج يثيرها بين مؤيدين له ومعارضين. وهو حين رحل عن عالمنا في الأيام الأخيرة من العام 1923 رحل هادئاً مطمئن البال، وقد أدرك انه ربح معركته وأن القرن العشرين يتبدى قرن المعمار المعدني، المعمار الذي كرّس غوستاف ايفل حياته ونشاطه له.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


لقراءة حقوق نشر الصورة المرفقة بالمقال

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)