اورويل في الضاحية الجنوبية، فوزي ذبيان (لبنان)، رواية دار الآداب - 2017

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة الثامنة والعشرون العدد 8734 الاثنين 13 شباط (فبراير) 2017 - 16 جمادى الأولى 1438 هـ
المهدي مستقيم - كاتب مغربي


أورويل في الضاحية الجنوبية أو المقاومة بالرواية


تتأسس رواية فوزي ذبيان «أورويل في الضاحية الجنوبية» (دار الآداب 2017) على بناء لغوي مختلط، يعتمد على مشاهد تجمع بين سرد السارد وحوار شخصيات يتحدثون لغة مطابقة لمكانتهم وحقلهم الاجتماعيين (الضاحية الجنوبية). وقد نتج عن ذلك استحواذ اللغة الدارجة اللبنانية السائدة في بيروت- الضاحية الجنوبية على اللغة الشعرية الفنية، ما أكسب الرواية بعدا واقعيا أكثر مما هو فني جمالي تخييلي، وهذه ليست علة أو عيبا أو عجزا على مستوى الكتابة الروائية، خصوصا أن ظهور الرواية في العصور الوسطى، كما جاء على لسان برنار فاليت ارتبط بداية بالإشارة إلى قصص شعرية ثم نثرية، مكتوبة بلغة عامية لا باللغة المخصصة للنصوص المقدسة، اللاتينية. ويكفي أن مفكرا من حجم عبد الله العروي، الذي يعد من أكبر المدافعين عن اللغة العربية الفصحى، خصص حيزا مهما من منجزه الروائي للغة الدارجة المغربية ونخص بالذكر روايات: «اليتيم»، «الغربة»، «الفريق».

إن استعمال السارد لغة تخلط بين العربية الفصحى والعامية اللبنانية واللغة الإنكليزية في بعض الأحيان، ينم عن وعيه بأن اللغة العامية هي اللغة المشتركة التي تناسب نوعا من البشر يعتبر في أعين البعض متدنيا، وذلك راجع لتواجدهم في منطقة مهمشة من بيروت تدعى الضاحية الجنوبية، حيث الفئات المهمشة المقهورة التي يغتني على ظهرها أصحاب المشاريع الكبرى، مثل القائمين على بيع الماء الصالح للشرب و»الأراكيل» وغيرها، «لا توجد في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت رياحين ولا أسوار عليها زهور ترفرف فوقها الطيور والفراشات.. ومع هذا، كانت المدينة تتكلم عن هذه الأشياء. إنها الثانية بعد منتصف الليل وكآبة موحشة تلفّ الأرجاء». تعكس حياة حمودي بطل الرواية هذا الواقع الماحق، وهو شاب في مقتبل العمر يعيل أمه العجوز المقعدة لوحده، بعد أن توفي أبوه الذي لا يتذكر عنه الكثير، محروقا وحمودي في الرابعة من عمره، وتوفيت أخته الوحيدة التي كان يكن لها محبة خاصة بعد معاناة مريرة مع مرض السرطان، لكنه سرعان ما سيفقد عمله كمستخدَم يبيع الماء الصالح للشرب، مصدر رزقه الوحيد، تحت ضغط جماعة محلية، ليجد نفسه مجبرا على الالتحاق بعمل جديد يقدم فيه خدمة جديدة تتمثل في بيع «الأراكيل» ضمن مقهى يملكه شخص اسمه الحاج رضا، الذي كان يقوم بأعمال أخرى مشبوهة. عمل جديد سيمكن حمودي من الانفتاح على عالم جديد ونسج علاقات جديدة ومراكمة تجارب جديدة.

يمكننا أن نصف رواية ذبيان بالمرآة التي تعكس صورة واقع الضاحية الجنوبية في بيروت، متخذا من السرد سلاحا لمقاومة التخلف والتعصب والتسلط والتطرف، الممارس باسم الدين والسياسة والقدامة، ومن ثمة يمكننا إدراج «أورويل في الضاحية الجنوبية» ضمن دائرة الرواية العربية المقاومة لكل أشكال الاستبداد سواء الذي يمارس باسم:

* الدين : «الله يرحمها يا حجة ويجعل مثواها الجنة» قال أحد أعضاء الوفد، ليكمل الآخر: «يكفي إنّو ماتت يوم القدس»…»ما هي بدها تموت، بدها تموت قال آخر، بس الهيئة سبحانه وتعالى راض عليها لتموت اليوم مثل أي شهيد مظلوم… الله يرحمها».

* السياسة : «تصور يا حمود شو عمل مصاري من هالشغلة. بس بالآخر زحّط الحمار»، قال شادي الذي أكمل أن الشحرور وفي إحدى الليالي، تردد في ركوب X5 ، لأن من كان يقوده كان شابا في مقتبل العمر لكن، وبسبب 500 دولار التي لوح بها صاحب X5 للشحرور صعد هذا الآخير إلى الجيب الذي طار إلى مارينا الضيقة، حيث وقع ما لم يكن في الحسبان. فقد جاء في التحقيق الذي عمله الدرك أن ابن أحد الوزراء تعرض للخطف من تحت جسر الدورة وبلا.. بلا.. بلا إلى آخره من التفنيصات، قال شادي الذي أنهى حديثه عن الشحرور، مستنتجا أن الفوفو الذي والده وزير زحط من القصة مثل الشعرة من العجين وركب الفيلم على الشحرور…».

* المجتمع : «كان ما زال بين اليقظة والنوم عاملا على جمع شتات ذهنه لما انخلع الباب فجأة، وثمة أربعة أو خمسة أشخاص اقتحموا البيت، لم يبادر أي من هؤلاء، إلى سؤاله أي سؤال، كانوا كأن بهم مونة الدخول على بيته والعبث فيه كما يشاؤون. توجه أحدهم إلى المطبخ، بينما هؤلاء الآخرون جعلوا يجوبون بنظراتهم النارية أرجاء الغرفة مبعدين هذه الوسادة من هنا، مشقلبين تلك الطاولة إلى هناك..».

تدعم رواية ذبيان الطرح الذي يدافع عنه الناقد جابر عصفور، الذي أكد في مناسبات عدة آخرها مصنفه الموسوم بـ«المقاومة بالكتابة»، أننا أصبحنا نعيش زمن رواية القمع، «قمع نجده حولنا أينما توجهنا بأبصارنا في أي ركن من أركان العالم العربي الذي يموج بالقسوة والعنف والإرهاب على كل مستويات القمع… فإذا كانت الكتابة الإبداعية عن القمع والمقاومة له بالقص هي فعل من أفعال المقاومة التي تنتزع بحيل القص الحرية من براثن الضرورة، فإن الكتابة النقدية في مجال القمع السياسي أو غيره، هي فعل مقاومة بالقدر نفسه، وفي الاتجاه نفسه، سعيا وراء تغيير علاقات الواقع الذي نعيشه لتحيل إلى واقع أفضل وأنبل وأكمل، فتلك هي وظيفة المبدع والناقد على السواء، يستوي في ذلك أن يكون القمع دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا».

ويبدو جليا أن ذبيان اعتمد بناء روائيا مفتوحا بتعبير إمبيرتو إيكو، فاقتصاده في الوصف وفي رسم ملامح الشخصيات، بل حتى في رسم نهاية لعمله الروائي، إنما يدل من جهة على أن الرواية لم تكتمل بعد، أي أن هناك عملا مكملا مقبلا في المستقبل القريب، كما يدل من جهة أخرى على رفض الروائي تشييد بناء روايته على أشكال محددة، لتركيبة قاسرة تفسح مجالات ضيقة لحرية التفسير، بل جعل نصه على العكس من ذلك، عملا متعدد الدلالات، يتأسس على قول قابل لنقل دلالات مختلفة، بيد أن العمل الروائي كما يقول برنار فاليت: «هو رسالة منجزة بشكل صوري إلا أنها جزئية، ليس للرواية أي بنية محددة مسبقا، وهي قد تخلصت من أي منظورية، إلا أنها، كي تكون مفهومة، عليها أن تحترم عددا من الزخرفات أو أن تخلق عادات تؤسس معايير جديدة للمقروئية تدين بحداثتها المستقرة بين ترقب المتلقي وأصالة المرسل». في حين أن «العمل المغلق هو أحادي الدلالة ويرفض وجود تفسير أدبي. يرتكز كل عمل فقه اللغة على إنشاء فهم أحادي المعنى للنص، أما العمل المفتوح فهو متعدد القيم، ويفلت من كاتبه ويتخطى العصر وإطار المجتمع الذي تم تأليفه فيه وقد يأخذ على عاتقه دلالات جديدة غير قابلة للبت، وفي بعض الأحيان معارضة بشكل كلي للتصميم البدائي لمبدعه».

عن موقع جريدة القدس العربي

عدد المقال بالـ pdf في جريدة القدس العربي


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)