امرأة على قوس قُزح، غادة السمّان (سورية)، رحلة

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السابعة والعشرون ـ العدد 8318 الأربعاء 16 كانون الأول (ديسمبر) 2015ـ 5 ربيع الأول 1437هـ
زهرة مرعي


«امرأة على قوس قُزح» أدب الرحلات بنكهة السمّان: قراءة الزمان والمكان بدعابة وتحليل ومتعة


لا يترك الأدباء النشيطون لحظة من حياتهم تهرب من دون تدوين شرارتها الأدبية مدموغة بباعهم اللغوي، ونظرتهم التحليلية، وبخلاصة التجربة الإنسانية عبر الاحتكاك بالآخر حضارة وثقافة.

«أدب الرحلات» جزء من الإدمان الأدبي لدى غادة السمّان، وفيه تبدو الإنسانة التي تقرأ ما يطالعها في رحلاتها بحس اجتماعي، سياسي وطبعاً أدبي. أدب الرحلات له جذوره الموغلة انتشاراً في الأرض، ليس لعشق السفر بحد ذاته، بل هو مدعوم بقوة بحب المغامرة، وهي جزء من الشخصية الإنسانية التي عرفت بها غادة السمّان. حديثها «امرأة على قوس قُزح»، وهو عنوان إصدارها السادس في أدب الرحلات. في مطالعته عبر نصوص مختارة وبدءاً من صفحاته الخلفية سمرتني أمام عنوان لافت: «المال يجر المال.. والأميال تجر الأميال». عنوان يحمّس لتتبع التفاصيل، وفيه أن «ابنة بطوطة» الملتزمة وفاء بشركة طيران محددة في حلّها وترحالها، استحقت تهنئة وجائزة الشركة: لقد قمت بالطيران مئة ألف ميل على متن طائراتنا، ولك مقابل ذلك جائزة كبيرة مجانية.. نص يخدم الكتاب والكاتبة معاً.

أما الجائزة: المزيد من السفر، إنما مجاناً هذه المرة، حس الدعابة والفكاهة الذي تمتلكه الكاتبة حلّق حول هذا العرض لتدون في نصّها: شعرت بأنني امرأة من الأسكيمو مقيمة في «الإيغلو» ربحت برّاداً كجائزة لبيتها الثلجي، أو امرأة متزوجة منذ أربعين عاماً ربحت رحلة شهر العسل أخيراً..

ليس لشركة الطيران وحدها أن تمد غادة السمّان ببراءة الترحال المزدهر، بل هي نصوصها الغنية بمادتها، وملكة التعبير التي تتيح لمتصفح فصول كتابها وبحدود عيش بعض اللحظة التي كانت للكاتبة، وإثراء معلوماته عن هذا المكان أو ذاك. ومن تجارب الأديبة السمّان نتوقف عند «حكاية صيفية» وفيها رسالة غير مباشرة للنساء بشكل عام، وللمسرفين في حمل الملابس وغيرها حتى في حال السفر لأيام. أضاعت حقيبتها «من القماش الرخيص المربع النقشة اشتريتها من رصيف الروشة في بيروت بمبلغ زهيد». عبأت ورقة الشكوى.. ورحلت إلى البلد العربي الجميل بما يغطيها من ملابس. اشترت قطعة واحدة وتابعت حياتها. وفي تلك الرحلة اكتشفت متعة السفر «بلا حقائب ولا مضايقات التفتيش في المطارات بعدما تأكدت من ازدحام حياتنا بلزوم ما لا يلزم». ولا تتوقف حكاية ربح الأميال المجانية لدى الكاتبة عند حدود، فمن ضمنها تتفرع أفكار وأفكار عن تجاربها خاصة في الديار الأوروبية، كأن تتحدث عن اختبارها لتجربة «كيف تنفق قليلاً وتسافر مرفهاً»؟ تتعرف إلى رحلات سياحية خاصة بـ»ويك أند» إلى أشهر المدن وأكبر الفنادق وبأسعار تشجيعية للغاية.

وهنا لا تكفّ السمّان عن قراءة نقدية للمنشورات المنتشرة في الفندق السويسري الفخم الذي يؤمه العرب بكثرة في الصيف. فندق الخمسة نجوم يفيض بـ»لافتات القمع الموزعة في كل ركن من أركان الغرفة، كأن العربي قاصر في «حضانة الحضارة»! باختصار كيفما تحركت في هذا الفندق تجد لافتة استفزازية قمعية تتهمك بالجهل أو السرقة أو الحماقة.. فهل ذلك القمع مُكرس للعرب كي لا يشعروا بالغربة عن بعض أوطانهم حين يقضون إجازة الصيف؟»

في عودة إلى بدايات «امرأة على قوس قُزح» تثبت غادة السمان قدرتها المطلقة في اللعب على تناقضات الكلام. تذهب من أقصاه إلى أقصاه، كما في عنوانها «التعاسة الرغدة». إذ تكتب «رغد التعاسة يلاحق البعض حتى في جنة أرضية اسمها سويسرا (…) وكم يأكلني الحسد في رحلاتي السويسرية وأنا ألتقي بأشخاص لا يعرفون قيمة أن يعيشوا ويموتوا من دون سماع رصاصة، أو انفجارات». طبعاً هي بضع جمل من نص كبير جرى تحريره في 6/6/2005، ولم يكن التهديد الأمني الإرهابي قد وصل إلى بعض دول أوروبا بعد.

نعم الرحلات البطوطية التي لا تعرف نهاية نعمة لمن يمتلكون المال، فلا سفر من دون مال. ولا ضرورة هنا في تحديده وفيراً أو أقل بدرجة أو درجتين. تعترف الكاتبة رغم يسرها الواضح في العديد من نصوصها بحاجة الناس للراحة والإجازات. ومع قدرتها على ارتياد الأماكن الفخمة والمميزة في الدول الأوروبية، إلا أنها فضلت ما يشبه «سيران شامي في زوريخ». تناولت الطعام في منتزه جميل مجاني، بدل مطعم في قبو مبنى تراثي. تتوقف عند ظاهرة «باري بلاج» خلال شهر أب/ اغسطس على ضفة نهر السين، وما توفره البلدية للناس الذين لا يملكون قدرة السفر صيفاً خارج العاصمة الفرنسية. ليس للكاتبة التي تعيش في باريس أن تبقى فيها قلباً وقالباً، مباشرة تطير إلى شواطئ لبنان «يكاد البحر يصير طبقياً، وكل صاحب نفوذ أو ثري يسور حصته من البحر..» قبل 11 سنة من الآن سطرت السمان أديبة المقارنات الصائبة والمرّة في آن نصها. وكأنها جزء من حملة مكافحة الفساد القائمة حالياً في لبنان. حين تكتب غادة السمّان في أدب الرحلات تُمتع القارئ وتحمله معها لبعض الوقت، إلى حيث حلّت ورحلت. تعطيه المعرفة وهي مطلوبة بإلحاح من كل قارئ يتقن التمتع بكتاب قيم.

«امرأة على قوس قُزح» من 252 صفحة، صادر عن منشورات غادة السمّان.

عن موقع جريدة القدس العربي الجديد

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)