اليونسكو يُدرِج النخلة في اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 17-12-2019
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي


مقام النخلة


<article5451|cycle|docs=6518,6519,6520,6521,6522,6523,6524,6525,6526>


قرّرت اللجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي غير المادي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إدراج النخلة في اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، وذلك لكونها “أكثر شجرة رمزية لدول المنطقة، حيث تشكل أحد العوامل الرئيسية للوحدة الثقافية في العالم العربي”. في الواقع، تتعدّى رمزية النخلة العالم العربي وترتبط بإرث عالمي يعود إلى أقدم العصور، كما تؤكّد عشرات الشواهد الأدبية والأثرية.

يتردّد ذكر النخلة في عدد من أسفار الكتاب المقدّس. بحسب الرواية التوراتية، عبر موسى مع شعبه البحر الأحمر، وسار إلى موقع يُعرف باسم “برية شور”، ولم يجد فيه ماء، فسار إلى موقع آخر يُعرف باسم “مارة”، وكانت الماء في “مارة” مُرّة، “لذلك دُعي اسمها مارة”، فتذمّر لشعب. صرخ موسى إلى الرب، فأراه شجرة، “فطرحها في الماء فصار الماء عذباً”، وشرب منه الشعب. تابع موسى المسيرة، ووصل إلى موقع “إيليم”، وفيه “اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة”، فنزل مع شعبه هناك عند الماء (خروج 15: 22-27). ويُرجَّح أن مكان إيليم الحالي هو واحة وادي غرندل التي تُبعد مسافة ثلاثة وستين ميلًا جنوب شرقي السويس، وتتميّز بينابيعها ونخيلها.

ويذكر الكتاب “مدينة النخل” (القضاة 1: 16)، وهي أريحا (2 أخبار28: 15). كما يذكر النخل في حديثه عن قاضية تُدعى دبورة كانت تقود أمتها في وقت الأزمات، وكانت تقيم تحت شجرة نخيل سميت باسمها، “نخلة دبورة”، وموقعها “بين الرامة وبيت إيل في جبل أفرايم” (قضاة 4: 5). من جهة أخرى، تبرز النخلة في الأسفار الشعرية، وفيها يقول صاحب المزامير: “الصدّيق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو. مغروسين في بيت الرب، في ديار إلهنا يزهرون. أيضا يثمرون في الشيبة. يكونون دساما وخضرا. ليخبروا بأن الرب مستقيم، صخرتي هو ولا ظلم فيه” (92: 12-15). ويقول صاحب “نشيد الأناشيد” مخاطباً حبيبته: “ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات. قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد” (7: 6-7).

في الأناجيل، تخرج الجموع للقاء المسيح عند دخوله القدس حاملة “سعوف النخيل” (يوحنا 12: 13)، في اليوم الذي جعلت منه الكنيسة عيداً يُعرف بالشعانين، أي عيد السعوف، وهو العيد الذي عُرف في الجزيرة العربية قبل الإسلام بـ"يوم السباب". أشار جواد علي إلى هذا العيد في “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، وقال في تعريفه به أن كان “عيداً لقوم من العرب في الجاهلية”، “وهو في الواقع عيد من أعياد النصارى يسمونه يوم الشعانين، عرفه أهل مكة، ولعلّهم أخذوه عن النصارى العرب”. واصل المسيحيون احتفالهم بهذا العيد في العصور الإسلامية، وهو بحسب المقريزي في “المواعظ والاعتبار” عيد التسبيح، “ويكون في سابع أحد من صومهم، وسنّتهم في عيد الشعانين أن يخرجوا سعف النخل من الكنيسة، ويرون أنه يوم ركوب المسيح العنود، وهو الحمار في القدس، ودخوله إلى صهيون، وهو راكب والناس بين يديه يسبحون، وهو يأمر بالمعروف، ويحث على عمل الخير، وينهى عن المنكر، ويباعد عنه”.

تظهر النخلة في لوح من الفسيفساء من محفوظات متحف بروكلين يعود إلى القرن السادس، مصدرها كنيس يهودي في مدينة حمام الأنف، جنوب شرقي العاصمة التونسية. كما تظهر في عدد كبير من ألواح الفسيفساء البيزنطية المسيحية التي تعود إلى هذه الحقبة، وفيها تتجّلى كشجرة من أشجار ملكوت السماوات. نراها في الصور التي يحضر فيها المسيح سيّداً على الخليقة، كما نراها في الصور التي تمثّل القديسين المغروسين في بيت الرب، كما يقول المزمور. يتواصل هذا الحضور في القرون الوسطى حيث يبرز شجر النخيل في الكنائس في الصور التي تستعيد مشهد دخول المسيح على القدس، كما يبرز في زينة القصر الذي شيّده ملك النورمان في صقلية، جامعاً بين الحلل البيزنطية والحلل العباسية في صور فردوسية بديعة.

قبل ذلك بزمن طويل، برزت النخلة بقوة في محيطها الطبيعي، أي في بلاد ما بين النهرين. ونجد في الميراث الأدبي لهذه البلدان خير تعبير عن هذا الحضور في قصة قصيرة تنقل سجالاً بين شجرة النخلة وشجرة الأثل، وفيه تتباهى النخلة وتجاهر بتفوّقها على غريمتها، وتقارن نفسها بتربة الأرض، فهي تتغذّي النبات والحبوب، وتسعد البشر على اختلاف طبقاتهم، من المزارع إلى الملك، وهي البطلة التي ليس لها منافس، ومن ثمارها يقتات اليتيم والأرملة من دون أي قيد. تحضر النخلة بقوة في فنون بلاد ما بن النهرين بأشكالها المتعددة، فتبرز في العديد من النقوش، كما تبرز في جدارية كبيرة من محفوظات متحف اللوفر مصدرها مدينة ماري الواقعة على “تل حريري”، غرب مدينة مدينة “بو كمال” الصغيرة، على الضفة اليمنى من الفرات، بالقرب من الحدود السورية مع العراق. تزيّن هذه الجدارية في الأصل القصر الملكي الكبير الخاص بالملك زمري ليم وهو من أهم القصور في الشرق القديم، ويعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد.

كما في بلاد الرافدين، تحضر النخلة في مصر القديمة حيث يرتبط حضورها بالمياه والخصوبة والتجدّد والإثمار في هذه الدنيا، كما في دار الآخرة. وأشهر صورها في وادي النيل هي تلك التي تحضر في جداريات المقبرة المعروفة باسم سن-جيم، المهندس الذي كان يعمل كرئيس للعمال المختصين بحفر وتزيين الملوك الفراعنة في وادي الملوك، في مدينة طيبة، وقد شيّد مقبرة لكل من سيتي الأول ورمسيس الثاني، كما شيّد مقبرة له ولعائلته في الموقع الذي يُعرف بـ"دير المدينة"، وهو الموقع الذي كان مقرا لعائلات العمال الحرفيين خلال عهد المملكة المصرية الحديثة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.

خارج محيطها الطبيعي، تحضر النخلة في العالم اليوناني كما في العالم الروماني الذي شكّل استمرارية له، وترمز هنا للقوة والغلبة والخلود كما تشير الشواهد الأدبية العديدة، ومنها قول أوديسيوس للأميرة نوريكا في النشيد السادس من ملحمة الإلياذة: “ما أسعد الزوج الذي سيحظى بكل هذا الجمال، لا يضارعه في العالم جمال. ألا ما أروع ما تبدين كالنخلة اليانعة في ديلوس عند مذبح أبولو، أيتها الأميرة. ألا كم أتمنّى أن ألثم قدميك، لولا ما ينتابني من روع”.

يذكر هوميروس هنا “النخلة اليانعة في ديلوس عند مذبح أبوللو”، وبحسب الأساطير القديمة، هام كبير الآلهة زيوس بابنة أحد الجبابرة الطيطان، وتُدعى ليتو، فأغواها وحملت منه، ثم تزوج من الإلهة هيرا التي علمت بحمل ليتو، فغضبت، ولعنتها كي لا تتمكن من الولادة على أي يابسة على وجه الأرض. طرد الناس ليتو من أراضيهم خوفاً من غضب هيرا، فلجأت إلى جزيرة ديلوس، وجلست مكروبة عند نخلة على ضفاف نهر إينوبوس، وهناك وضعت طفلها أبولو، إله الشمس والغناء والشعر. في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، استعاد كالليماخوس هذه الأسطورة في “ترنيمة إلى ديلوس”، ووصف كيف وضعت ليتو ولدها وحدها عند النخلة على مشارف نهر إينوبوس، حين كان يطوف “بمياه تنبع من الأرض في فصل فيضان النيل، منصبّة من الهضبة الأثيوبية”.

تظهر النخلة على عدد من الأواني الإغريقية في رسوم تجسّد هذه الأسطورة، منها آنية من القرن الرابع قبل الميلاد محفوظة في متحف أثينا الوطني، وآنية من الحقبة نفسها محفوظة في متحف أشموليان في أوكسفورد. ونقع على رسوم من الطراز نفسه، تحضر فيها النخلة بشكل مجرّد، ومنها آنية من محفوظات متحف أتينا، وأخرى من محفوظات متحف إيراكليو في جزيرة كريت.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)