اليوم العالمي للمسرح 27 مارس / آذار من كل عام

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 28-03-2018
المدن - ثقافة
منى مرعي


اليوم العالمي للمسرح : عن تلك الرسائل الصارخة منذ 1962


1962: تلا جان كوكتو الرسالة الأولى.. 2018: خمسة فنانين وخمس رسائل


احتفت الهيئة الدولية للمسرح (ITI) في باريس، كما كل عام، باليوم العالمي للمسرح والذي أصبح يوماً مكرّساً منذ العام 1962 حيث تلا جان كوكتو الرسالة الأولى مرسخاً تقليداً إحتفائياً سنوياً تُتلى فيه في كل عام رسالة لإسم بارز في عالم المسرح والثقافة والفنون ويتم تناقلها في أنحاء العالم.

هذا العام، على خلاف عادتها، قدمّت ITI خمس رسائل لخمسة فنانين مسرحيين يمثلون أفريقيا، الأميركتين، آسيا ومنطقة المحيط الهادي، المملكة المتحدة والعالم العربي. هو خيار جديد للهيئة يمنح هذا اليوم ألق التعدّد لسرديات هؤلاء الباحثين عن بناء معنى ما لوجود بديل على الخشبة. هي خمس رسائل لهذا العام كتبها كل من سابينا بيرمان من المكسيك، سايمون ماكبرني من المملكة المتحدة، ويري ويري ليكينغ من ساحل العاج، رام بوكال باجاج من الهند ومايا زبيب (فرقة زقاق) من لبنان. إذاً نحن، في السياق العربي، أمام إحتفائيتين. نحتفي بتلك الرسائل، ونحتفي بالنجاحات التي حققتها “فرقة زقاق” خلال الأشهر الأخيرة: قبل أسبوعين نالت الفرقة “جائزة إلين ستيوارت الدولية”، وفي العام المنصرم كانت لها جائزة “الثقافة من أجل السلام” من مؤسسة شيراك الفرنسية وجائزة “المكافأة الأمبراطورية” المقدّمة من “جمعية يابان للفن”. واليوم تعتلي مايا زبيب منصة قاعة اليونيسكو في باريس لتشارك مئات الآلاف من المهتمين حول العالم تجربتها ورؤيتها لمسرح يأتي كنقيض لمنظومتي “الإستيلاء والإستهلاك”.

هو مسرح، كما ذكرت في رسالتها، تستردّ فيه “الكلمات قوتها ومعناها، ليسترد الخطاب من السياسيين ويعيده الى مكانه الصحيح[...] إلى ميدان الأفكار والنقاش، إلى فضاء الرؤية الجماعية”. هنا تستعيد مايا بعضاً من ميزات “الأغورا” اليونانية (الساحة العامة الحاضنة لشتى أنواع التلاقي والتفكّر والتناقش) وتضفي التزاماً سياسياً لم يكن يوماً غائباً عن الممارسة المسرحية منذ أيام الإغريق.

يذكر روجيه عساف أن المسرح هو ابن الديموقراطية، وهو يشتبك في أعمال مختلفة مع مفهوم الديموقراطية الحديثة وليست حكاية أنتيغونا سوى نموذج عن هذه الإشتباك. يرى البعض الآخر[1] أن الديموقراطية أنتجت، في السياق نفسه، ظهور منظومة العدالة كفضاء لحل النزاعات وظهور المسرح كمكان لتمثيل المقولات المتناقضة". في حين تسعى العدالة الى تحويل العنف إلى صراع تصادمي عقلاني للآراء، ينظر المسرح اليوناني “إلى العنف المتأصل في الحالة الإنسانية ...” مستدعياً ديونيسوس في صلب هذه النقاشات عبر حكايا أوديب وميديا وأوريست [...] وغيرها...". المسرح يقدّم كائنات غير قابلة للاختزال بطاقات العقل والمنطق. بهذا المعنى يلتقي هذا الرأي مع ما قاله كريستوف ورليكوفسكي، مدير المسرح الجديد في وارسو، في رسالةِ العام 2015 أن المسرح يجب أن يوصف كما وصف كافكا تحوّل بروميثيوس: “تسعى الأسطورة إلى شرح ما لا يمكن شرحه، ولما كانت الأسطورة قائمة على الحقيقة، فلا بد أن تنتهي إلى ما يستعصي على التفسير”. هذا النوع من المسرح الذي يستعصي على الشرح والتفسير هو ما يصبو اليه كريستوف ورليكوفسكي. قبل 52 عاماً، وقف آرثر ميللر في هذا اليوم نفسه، ليذكر في مقارنة له بين السينما والتلفزيون والمسرح، أن الأولين يقدمان رؤية للإنسان “تضخّم حقيقته المادية ومكانته بل هي توسع مسام جلده[...] هي تضخم كل شيء كما تفعل الآلات أو كما يفعل العلم [...] وبينما تقوم بذلك تبعدنا عن جوهر الإنسان الذي لا يُرى” ولا يُدرك بالعين المجردة. هنا يظهر هذا “التجلي البطيء لكل ما لا نرى وما لن نعرفه يوماً في النسق الخفي للشكل المسرحي. ليس جمال مسرحيةٍ ما في ما تريه لنا وانما في ما تكشف لنا من أسرار”. بين كشف ما لا يدرَك من خلال المسرح وبين مسرح يستعصي على التفسير طرحان مختلفان قد يزداد كل منهما إشكاليةً حين يدخل عنصر تمكن المسرح من إحداث تغيير ما في الواقع الذي نعيشه. هنا من المفيد تذكر بيسكاتور المعروف بكونه أب المسرح السياسي الذي يعتبر المسرح وسيلة لتعرية العالم كي نصبح قادرين أكثر على تغييره" فيصبح حينها من الضروري توخي الوضوح وتتحول ملكتي الوعي والإدراك إلى ركنان أساسيان لصياغة العمل المسرحي.



كان بيسكاتور أستاذ وملهم برتولد بريخت الذي وضع أسس المسرح الملحمي الذي بنيت قوامه على مسافة نقيضة من المسرح الكلاسيكي الذي يدعو الى التماهي مع الشخصية. دعا بريخت الى الإنتقال من مساحة الجدل بين الشخصيات أنفسهم إلى مساحة من الجدل بين الخشبة وصالة العرض، بين الممثلين والمشاهدين حيث كلاهما مدعوان للنقاش حول الواقع المعروض وحول إمكانية تغييره. بعد سنوات، سيقدّم أوغستو بوال طرحاً أكثر براغماتيةً داعياً الى جعل الخشبة مكاناً للتمرين على الثورة وإحداث التغيير طارحاً آليات وميكانيزمات عروض تندرح تحت ما سماه “مسرح المقهورين/المضطهَدين” لأن العالم بالنسبة إليه مبني على قاهر/مضطهِد وعلى مقهور/مضطهَد. ما يقترحه طرح مسرح المضطهدين هو تحويل المُشاهد الى فاعل spect-acteur. هو لا يتماهى مع الشخصية ولا يتخذ موقفاً نتيجة وعيه بما توحي إليه شخصية العرض كما في عروض المسرح البريختي بل هو قادرٌ، من خلال تدّخله في العرض، على تغيير الفعل الدرامي وعلى البحث عن حلول عملية لتغيير الواقع. ولكن هل ساهم المسرح في إحداث التغيير السياسي أو الإجتماعي الذي توخاه أكثر من تيار أو مجموعة مسرحية؟

هناك بعض التجارب التي كان لها دورها في مواجهة الوضع القائم، بعضها لعب دوراً احتجاجياً أو تحريضياً، وبعضها أحدث تغييراً عملياً بسيطاً. ليست الأمثلة كثيرة في هذا الصدد. تجربة أوغستو بوال، في حد ذاتها، أفضل مثال على حجم التغيير الذي يمكن أن يحدثه المسرح. تمكن بوال من خلال مسرح المقهورين، وتجربة المسرح التشريعي تحديداً حين كان منتخباً في مجلس البلدي لريو دي جانيرو (1992) لمدة أربع سنوات، أن يدفع المجلس إلى تبني 13 مشروع قانون. كان طموح بوال أن يُنظر الى المسرح كما لو أنه ديموقراطية انتقالية، وهو لا يسمي مسرحه بالمسرح السياسي أو المسرح المسيّس، انما يفضل أن يُطلق عليه تسمية المسرح كممارسة سياسية “theatre en tant que politique”. ختم بوال رسالته العالمية للمسرح العام 2009، مؤكداً على ضرورة إختراع عالم آخر، “لأننا نعرف أن العالم الآخر ممكن. لكنها مسؤوليتنا أن نبني هذا العالم بأيدينا ونحن ندخل الى المسرح، على الخشبة وفي حياتنا اليومية”. المشكلة في ربط المسرح بعملية التغيير السياسي أو الاجتماعي هي أن التغيير الذي قد يحدثه المسرح في نفوس الأفراد من الصعب قياسه من ناحية كما أن الديماغوجية السياسية تمشي في إيقاعٍ سريع جداً يصعب على الفن مقارعته من ناحية أخرى.



هناك أكثر من 50 رسالة كُتبت إحتفاءً بالمسرح منذ العام 1962 حتى اليوم. كثيرون تحدثوا عن دور المسرح في بناء السلام، عن الدفاع عن كرامة الفرد، عن بناء الجسور بين الحضارات والأفراد، في توحيد ماهية الكون والإنسان، وفي إرساء أسس الحوار ولا ننسى في هذا الصدد عبارة “الجوع الى الحوار” التي كان سيختارها سعدالله ونوس عنواناً لرسالته التي كتبها العام 1996 لو طُلب منه وذلك. لم يتحدثوا جميعاً بتلك المباشرة عن المسرح وربطه بالسياسة أو بعملية التغيير الاجتماعي لكن اذا ما فكّرنا قليلاً أليس الدفاع عن كرامة الفرد أو بناء السلام يرتبطان أكثر فأكثر، تحديداً في أيامنا هذه بعملية تغييرٍ سياسي أو إجتماعي؟

في العام 1971، كتب بابلو نيرودا في رسالته ما يشبه القصيدة قائلاً في إحدى جمله “خرجت من المسرح ونظرت بعطف الى الشوارع الخريفية، الى الشجرات التي بلغها الجمود، الى انشغالات الناس. تركت خلفي عنف المسرح هذا: قريباً سأنسى هذه الذروة المتعمدة”. رغم ذلك يكمل ليسّر أن العالم يدور حول تقلبات مشابهة بين الحقيقة التي تتركنا غير راضيين وبين الأمل الذي لم يُستنفَذ بعد. المسرح هو نوع من الأمل المفتوح على كافة الإحتمالات السياسية والغير السياسية منها أو الحلم والخيال كما شدّد أوجين يونيسكو في رسالته العام 1976. “مسرح الخيال هو مسرح الحقيقة الأصيلة… لا يستطيع الخيال أن يكذب...كما تكمن المهمة الطارئة للفنانين والمسرحيين في كل البلاد في نزع السياسة عن المسرح. لا يملك الفن حدوداً والمسرح لا يجب أن يملك أي حدود. على المسرح أن يبتعد عن التجاذبات الأيديولوجية، عن الطوائف والأجناس والقوميات والأوطان ليكون وطنا كونياً بحد ذاته، ليصبح مكان لقاء كل البشر الذين يتناولون قربان القلق ذاته والآمال ذاتها التي تتيحها ملكة الخيال الغير تعسفي، الغير واقعي، الخيال الذي يأتي تعبيراً عن هويتنا وعن استمرارنا، عن وحدتنا”.

توحي الكلمات الأخيرة ليونيسكو بمفاهيم تعيدنا الى السياسة بمفهومها الإتيمولوجي الذي يربط المدينة بمواطنيها دون أن تتحوّل الى دوغما أو عقيدة ثابتة لا رجوع عنها تحدّ من حرية الفرد والفنان والمبدع. في رسالته يلعن أوجين يونيسكو الحكومات التي تخاف المعارضة، كذلك يلعن المعارضات التي تخاف المعارضات المضادة ويلعن الفنانين الذين، باسم ما يسمى بالإيديولوجيات الثورية أو الغير ثورية، يمنعون الحرية الإبداعية ويحدون من التطور الحر للخيال".



على الأرجح هذا أيضاً ما يجب أن نركز عليه في هذه البقعة من العالم: أن ندافع عن حرية الإبداع والتعبير قبل أي شيء. تحدثت كثيراً مايا زبيب عن الجدران التي وجب هدمها. هي وفرقة زقاق يأتيان من جيل من المسرحيين المحظوظين لأن الجدران التي يواجهونها هي مرئية وواضحة وعليه انطلقوا من الصفر واستخدموا كافة السبل المتاحة لمجابهتها. مارسوا “المسرح في كل فضاءٍ ممكن، في الأقبية، على الأسطح، في غرف المعيشة، في الأزقة في الشوارع، [شكّلوا] جماهيرهم في كل مكان ذهبوا إليه...”، ابتكروا طرقاً للتخلص من الرقابة وما زالوا يجتازون حتى اليوم الخطوط الحمراء وكل ما هو محظور. تختم مايا زبيب رسالتها بالتشديد على “الحاجة إلى إعادة بناء المنظومات الاجتماعية والسياسية بطريقة خلاقة، بصدق وشجاعة. ثمة حاجة إلى مواجهة أوجه القصور لدينا وتحمّل مسؤولياتنا تجاه العالم الذي نشارك في صنعه. بوصفنا صناع مسرح في هذا العالم، نحن لا نتبع أيديولوجية أو منظومة عقائدية واحدة، لكننا نحمل هذا الهم الأزلي المشترك في البحث عن الحقيقة بجميع أشكالها، وهذه المساءلة المستمرة للوضع القائم، وهذا التحدي لأنظمة القمع السلطوية، وأخيراً وليس آخراً نملك هذه النزاهة الإنسانية. نحن كثر، نحن لا نهاب شيئا، نحن هنا لنبقى!”.



هذا اليقين في بقاء المسرح رغم كل التحديات، يتشاركه الكثيرون ممن كتبوا الرسائل العالمية للمسرح منذ الستينيات، تماماً كما يتشارك الكثيرون ربط المسرح بعملية التغيير السياسي والإجتماعي، وتماما كما يتشارك البعض ربط المسرح بالحلم والخيال أو ربط المسرح باللحظة الراهنة، المسرح هنا والآن، على سجية بيتر بروك الذي ختم رسالته العام 1969، بعد دعوته الى إعادة النظر بكل المسلمات، بمواجهة تحدي قلّة وجود مسرح عالمي الطابع باعث على السرور في اليوم العالمي للمسرح تحديداً. لم يعد هذا التحدي موجوداً اليوم بسبب تحوّل العالم الى قرية كونية بأدوات العولمة التي باتت هي نفسها باعثة على القلق. يرى سايمون ماكبرني، الممثل والكاتب والمخرج المسرحي البريطاني، “أننا نعيش في وقت تصعب فيه الرؤيا بوضوح، إننا محاطون بالخيال أكثر من أي وقت مضى في التاريخ أو ما قبل التاريخ، يمكن الطعن في أي”حقيقة"، ويمكن لأي حكاية أن تطالب بانتباهنا على أنها “الحقيقة [...] كما نعيش في زمن الإنقسام والتشرذم، فإننا نعيش أيضاً في زمن الحركة الهائلة، فالناس يتحركون أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، فتراهم يفرون ويمشون ويسبحون إذا لزم الأمر، ويهاجرون إلى كافة أنحاء العالم، وهذه هي البداية فقط. والرد كما نعلم كان بإغلاق الحدود وبناء الجدران وبالصمت والعزلة. نحن نعيش في نظام عالمي مستبد [...] وجزءٌ من هذا الطغيان هو السيطرة ليس على الفضاء فحسب، بل على الزمان أيضاً. فالزمن الذي نعيش فيه يتجنب الحاضر، ويركز على الماضي القريب والمستقبل القريب: أنا لا أملك هذا وسأشتري هذا. الآن وقد اشتريته يجب أن أحصل على الشيء التالي. [...] ولأن المسرح موجود في الحاضر فقط، فهو يتحدى هذه النظرة الكارثية للزمن، فاللحظة الحالية هي دائماً موضوع المسرح، ويتم إنشاء معانيها في العمل المشترك بين الفنان والجمهور”. إذاً أصبحنا نعيش في زمن لا يُدرك الحاضر فيه الا من خلال ارتياد خشبة المسرح. يرى سايمون أن المسرح هو موقع ولذا هو باقٍ ولن يذهب، بل هو مأوى البشرية حيث “يتجمع الناس ويشكلون المجتمعات على الفور”.

حتمت معظم الرسائل التي تمت كتابتها في اليوم العالمي للمسرح، بالرغم من اختلاف الظروف التاريخية لكل رسالة وتنوع خلفيات وقناعات كتابها، ضرورة المسرح في نشوء المجتمعات واستمرارها بصفته حالة موازية للوجود أو مقارعة له. هي حالة متبدلة ولا ثابت فيها الا اللحظة الآنية في علاقتها المباشرة مع المتلقي وبالتالي مع فكرة التغيير.

وليس هذا المقال الا تمريناً إضافياً، ينفع أن يكون تمريناً يومياً، لصياغة تعريفات مختلفة للمسرح من خلال هذه الرسائل لندرك أن مفهوم المسرح غير محدود بمنظور واحد أو بماهية ثابتة لا تتبدل.


[1] صوفي هوتان وإدواردو مالنزويلا | Dubois, Jérôme; “Les usages sociaux du théâtre hors ses murs”; L’Harmattan 2011, p.164 (Chapitre sous titre: Vers un changement de paradigme? Pour un usage du théâtre et des sciences sociales dans la justice pénale – rédigé par Sophie Hutin, directrice de la compagnie de théâtre de “L’homme qui Marche » et Eduardo Valenzuela sociologue et directeur de l’association “Dialogues Citoyens”)


عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)